العراق وقيام المقاومة
كان غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة غزوا دمويا أحادي الجانب، فبينما انهالت قوات التحالف مقتحمة العراق عبر الحدود مع الكويت يوم 20 مارس 2003 انهار الجيش العراقي. وقد قام أحمد هاشم من مركز الحروب البحرية بالولايات المتحدة بشرح ما صار يعرف تحت مسمى “النجاح الكارثي”، قائلا:
قليل من الناس من توقع أن تتمكن القوات المسلحة العراقية من الصمود في حرب مع قوات التحالف الأفضل تدريبا وتجهيزا. ولم يقم أي من القوات العراقية بالقتال الفعال، وينطبق ذلك على كل من الجيش النظامي بقواته ضعيفة التدريب والروح المعنوية، وعلى الحرس الجمهوري/الحرس الجمهوري الخاص والذي يضم قوات حاصلة على تدريب أفضل ومعدات قتالية أكثر والمتمثل دوره في الاشتراك في الحروب وحماية النظام. لقد ذابت القوات العراقية تماما، أما ما تم بالفعل فلم يخرج عن كونه حلقة قصيرة وسخيفة من القتال العنيف غير المنظم بمبادرة من العراقيين.
وفي نشوة النجاح خططت الولايات المتحدة لانسحاب قواتها من العراق بنفس السرعة التي غزوه بها، وقد استندت خطة الغزو على المقولة المحورية للمحافظين الجدد في تعاليمهم الحربية الواردة في وثيقة عنوانها “العراق: الأهداف والأغراض والاستراتيجية” التي أعدها مسئولون أمريكيون في أغسطس 2002. فطبقا لتلك الوثيقة نجد أن الهدف من الحرب لم يقتصر على إسقاط صدام حسين وإنما العمل كذلك على بناء نظام مستقر موال للولايات المتحدة يحافظ على بيروقراطية الإدارة البعثية، في الوقت الذي توجه فيه الإدارة في واشنطن اهتمامها صوب الدول المجاورة للعراق، أي سوريا وإيران. لقد كان الأمريكيون يأملون في استبدال القادة العراقيين بأولئك العائدين من المنفى في الوقت الذي تقوم به المؤسسات العراقية بإدارة شئون البلاد يوما بيوم. وكانوا يأملون أيضا في إحساس الشعب العراقي بالامتنان بما يضمن حدوث تحول سلس نحو الحكم الأمريكي. وكان وزير الدفاع الأمريكي دونالد رمسفيلد قد خطط لغزو العراق بأعداد صغيرة ولكن سريعة الحركة من القوات، تساندها القوات الجوية والقوات الخاصة والحلفاء المحليون، وبالتالي كانوا يتصورون أنهم لن يتركوا سوى بصمة خفيفة لوجودهم في العراق.
وفي يوم 16 أبريل 2003 هبطت في مطار بغداد طائرة الجنرال تومي فرانكس، قائد القوات الأمريكية في العراق، وتم الإسراع في نقل الجنرال إلى قصر أبوغريب الشمالي في بغداد، الذي كان أحد بيوت صدام حسين ثم تحول إلى مقر للجيش الأمريكي. واجتمع فرانكس بكبار القادة ليخبرهم بأن أمامهم 60 يوما لخفض قوات الغزو البالغ عددها 140 ألف جندي إلى 30 ألف مقاتل. وكان جورج بوش قد أكد على فرانكس في اليوم السابق انه سيتصل بحلفائه لضمان إرسال قوات دولية إلى العراق، وكان الرئيس الأمريكي على ثقة من أنه على الرغم من معارضة عديد من حلفاء أمريكا التقليديين للحرب إلا أنهم سينضمون إليه الآن وقد تم إسقاط تمثال صدام. كما قام المسئولون من البنتاجون بإخبار الرئيس بخططهم لضم قوات من حلف شمال الأطلنطي (ناتو) ومجلس التعاون الخليجي وبولندا وبريطانيا والهند، من أجل تحالف يضم 30 دولة. كما أكد مستشارو بوش لرئيسهم على توقعاتهم بأن تبدأ الحكومة الانتقالية في مباشرة مهامها خلال 60 يوما، على أن تضم أعضاء محليين تحت قيادة العائدين من المنفى الموالين للولايات المتحدة.
إلا أن المخاوف بشأن أعداد القوات أحدثت انشقاقا داخل الجيش، ففي بدايات عام 2003 حذر هيو شيلتون، رئيس مجمع رؤساء الإدارات، من أن العراق قد يهوي إلى حالة من الفوضى إن لم يتم إرسال القدر الكافي من القوات للحفاظ على حالة الأمن في البلاد، كما جاءت مذكرة سرية لتحذر من أن القواعد السائدة في ظروف القتال مختلفة عن ظروف الاحتلال. إن ذلك العرض الذي اعتمد على حسابات تم التوصل إليها خلال حرب كوسوفو خلصت إلى أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى قوات يبلغ عددها 480 ألفا لتأمين حدود العراق والمدن، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف عدد القوات التي اقترحها رمسفيلد والبالغة 140 ألفا. وعندما أخبر الجنرال إيريك شينسيكي الكونجرس الأمريكي بأن التحالف في حاجة إلى ما لا يقل عن 300 ألفا من القوات على أرض العراق تمت إقالته من منصبه. وقد قام الجنرال جي جارنر، وهو أول مسئول أمريكي تم إرساله لحكم العراق، بتلخيص مظاهر الإحباط المتزايد داخل الجيش، قائلا:
كان جون أبي زيد (نائب قائد القوات الأمريكية وكبير القادة العرب الأمريكيين في الجيش الأمريكي) هو الوحيد الذي وضع في الاعتبار الموقف ما بعد الحرب، في حين لم تفكر الإدارة الأمريكية في ذلك. لم يفكر كوندي رايس في ذلك، ولم يفكر دوج فيث في ذلك. فقد كان يتم إخبارهم ولكن دون صدور أية مبادرة منهم. واقتصر الأمر على هزة رأس منهم. وهكذا انتهى المر بكل تلك المآسي.
“المآسي” كانت قد بدأت بالفعل بينما كان فرانكس مجتمعا بقادته، وتمثلت تلك المآسي في عمليات النهب وإشعال النار بمراكز الإدارة الرئيسية وتدمير البنية التحتية العراقية والتي كان قد أصابها الوهن. كما تم نهب المستشفيات والمدارس والجامعات ثم إشعال النيران فيها، ومن هنا اعتبر العراقيون أن قوات التحالف أتت بالفوضى والدمار. وفي الأيام التي أعقبت سقوط النظام شعر كثير من العراقيين بأن قوات التحالف قد فشلت في أول اختبار حقيقي لها، ألا وهو ضمان الأمن. فبعد عام كتب مايكل جوردون في صحيفة النيويورك تايمز قائلا:
لم يمر وقت طويل حتى تمت تنحية كل الأحاديث المتفائلة بشأن الانسحاب السريع للقوات الأمريكية. فلم ترغب أي من دول حلف شمال الأطلنطي (ناتو) أو دول الخليج الفارسي في إرسال قواتها إلى العراق، كما تم إرسال جنرال أمريكي إلى نيودلهي لعقد مباحثات مع الهنود، إلا أن الآمال الخاصة بانضمام قوات هندية ما لبثت أن تحطمت. وقد عرضت تركيا إرسال قوات حفظ السلام ولكن العراقيين رفضوها، وأصبحت الحقيقة الوحيدة هي الفرق الخاضعة للقيادة البولندية والبريطانية.
لقد كان للجيش القدر الكافي من القوات لضم الجيش العراقي، ولكنه لم يكن كافيا لتأمين البلاد، فبدلا من الاستسلام قام العديد من أفراد القوات العراقية بالاحتفاظ بأسلحتهم، ومنهم من انضم إلى عمليات نهب محلات السلاح. وهكذا خلال أسابيع من انتهاء الحرب، بدأت حركة تمرد صغيرة تستهدف القوات الأجنبية، وكانت معظم العمليات الهجومية موجهة ضد القوات الأمريكية.