القضية الفلسطينية – رؤية ثورية
جاء انفجار الانتفاضة في ديسمبر 1987 كصدمة للجميع، فأثبت الشعب الفلسطيني للعالم أنه لا يزال حياً ولا يزال قادراً على مقاومة الجبروت الإسرائيلي. وجاء الانفجار هذه المرة على أيدي جماهير الأراضي المحتلة الذين لم يلعبوا الدور الرئيسي في الحركة قبل ذلك، إذ كان فلسطينيو الشتات هم الوقود الأساسي للثورة الفلسطينية. وبمرور الوقت بدا واضحاً عجز إسرائيل عن قمع الانتفاضة بالرغم من استخدامها لأساليب بربرية لقمع المنتفضين.
بدأ الشعب الفلسطيني في خلق مؤسسات نضالية لضمان استمرار الانتفاضة، فظهرت “لجان شعبية” بطريقة عفوية في أنحاء الأراضي المحتلة لتعمل كشبكة للتنسيق السياسي وتقديم الخدمات الاجتماعية. (105) وفي مبادرة عفوية بدون مشاورة القيادات بالخارج، أسرع نشطاء اليسار وفتح في الأراضي المحتلة بتأسيس جبهة متحدة لقيادة الانتفاضة، فظهرت للوجود “القيادة الوطنية الموحدة” (ق.و.م)، وبالطبع تحركت منظمة التحرير الفلسطينية لمحاولة السيطرة على ق.و.م. للهيمنة على الحركة، (106) وعملت جدياً على إخضاع اللجان الشعبية لها. وبدأت بيانات القيادة الوطنية الموحدة في الظهور بدءاً من 8 يناير 1988. (107)
الطبقة العاملة الفلسطينية والانتفاضة:
استخدمت الطبقة العاملة الفلسطينية سلاحاً لم تستخدمه لعقود طويلة… سلاح الإضراب، ففي الأيام التي حددتها بيانات القيادة الوطنية امتنع العمال الفلسطينيون عن الذهاب إلى أعمالهم داخل إسرائيل، ولجأ أصحاب المتاجر الصغيرة إلى الإضرابات التجارية ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية.
لقد لعبت الطبقة العاملة الفلسطينية دوراً محورياً في الانتفاضة، سواءً في مواجهات الشوارع مع قوات الاحتلال، أو من خلال الإضرابات الطويلة، والامتناع عن الذهاب للعمل في إسرائيل. ولكنها للأسف لم تمتلك القوة “الاقتصادية” الكافية لهز استقرار الدولة الصهيونية. فقد استمرت سياسات الفصل العنصري بين العمال اليهود والعرب التي بدأها الهستدروت في العشرينيات من القرن الماضي، واستمر الاقتصاد اليهودي مغلقاً على اليهود وحدهم. وبالرغم من استقدام العمالة الفلسطينية للعمل بداخل إسرائيل بعد 1967، ظلت الصناعات الإسرائيلية الرئيسية معتمدة اعتماداً مطلقاً على العمالة اليهودية فقط. أما العمال الفلسطينيون فقد اشتغلوا بالأعمال “الموسمية”، أو تلك التي لا تتطلب مهارة عالية، (لا يزال هذا هو الطابع السائد للعمالة الفلسطينية في إسرائيل اليوم، فيشير تقرير لوزارة العمل بالسلطة الوطنية الفلسطينية عن إحصائيات مأخوذة عام 1997 إلى “أن الغالبية العظمى من العاملين في إسرائيل من الأراضي الفلسطينية هم من العمال غير المهرة أو شبه المهرة، حيث أن 60.5% من العاملين في إسرائيل يعملون في المهن الأولية، و28.8% يعملون في الحرف وما إليها من المهن، في حين أن نسب العاملين في مجال التشريع والإدارة العليا أو نسب المتخصصين أو الكتبة لم تتجاوز أي منها 0.5% من مجموع العاملين في إسرائيل.” التقرير منشور في موقع وزارة العمل على الإنترنت: http://www.mol.gov.ps/arabic/arbindex.htm) والتي تحتل قاع السلم الوظيفي في إسرائيل. (108) وبالتالي لم تتحمل إسرائيل خسائر اقتصادية فادحة، وكان من السهل عليها أن تكسر الإضرابات عن طريق استقدام عمال أجانب، أو الاستعانة بالطلبة، ومد ساعات عمل العمال الإسرائيليين في بعض القطاعات. (109)
الطبقة العاملة الإسرائيلية والانتفاضة:
من ناحية أخرى، تدخل العمال الإسرائيليون لكسر إضرابات العمال الفلسطينيين ـ مثلما فعلوا خلال ثورة 1936 ـ مثبتين ولائهم للدولة الصهيونية. ففي ذروة الإضرابات الفلسطينية في بداية 1988 هبت قيادات الحركة العمالية الإسرائيلية لنجدة الحكومة ورجال الأعمال الإسرائيليين. وبذل الهستدروت جهوداً ضخمة لسد الفراغ الناتج عن غياب العمال الفلسطينيين، ووصل الأمر ببعض قياداته للعمل مجاناً بعض أيام الأسبوع لكسر الإضرابات! (110) يؤكد فيل مارشال أن:
بلا شك استمر الهستدروت في لعب دوره كجزء عضوي من الرأسمالية الإسرائيلية، جزء من الجهاز الذي يفصل بين العربي واليهودي. لم يكن العمال الإسرائيليون مجرد مشاهدين للانتفاضة بل مشاركين في الجهود لتدميرها… لقد كان لديهم مصلحة مادية محددة في قهر الفلسطينيين. (111)
لقد وضح تماماً سيطرة الصهيونية واحتواءها للعمال الإسرائيليين، فالتمايز الشديد في مستويات المعيشة، والفصل العنصري في الوظائف، وطبيعة المشروع الصهيوني القائم على “استبعاد الآخر”، أدوا بالطبقة العاملة الإسرائيلية إلى إيجاد مصلحتها في قهر الفلسطينيين والوقوف خلف برجوازيتها ضدهم.
وبالرغم من الروح القتالية العالية التي أظهرها العمال الإسرائيليون في العديد من النضالات “الاقتصادية” حول رفع الأجور وتحسين ظروف العمل، إلا أنهم لم يحدث في أي موقف أن نجحوا في تعميم نضالهم إلى المستوى “السياسي” أوأن يظهروا موقفاً تضامنياً مع الفلسطينيين، فكما
لاحظ اشتراكيون إسرائيليون في الستينيات من القرن العشرين: لم تحتوِ تجربة خمسين عاماً على مثال واحد لتعبئة العمال الإسرائيليين على أساس نقابي أو مادي لتحدي النظام الإسرائيلي؛ من المستحيل تعبئة حتى أقلية ضئيلة من البروليتاريا بهذه الطريقة. على العكس، وضع العمال الإسرائيليون دائماً ولاءهم الوطني قبل ولائهم الطبقي.
لم تستطع الانتفاضة جذب تأييد قوي أو خلق حركة تضامن حقيقية لدى أي قطاع من المجتمع الإسرائيلي. وجاء رد الفعل المعادي للفلسطينيين موحداً من قِبَل الجميع. أما الحركات التي عارضت السياسات الإسرائيلية القمعية في الأراضي المحتلة فكانت ضعيفة ومهمشة للغاية. فعلى سبيل المثال، حركة “السلام الآن” ـ التي عبأت عشرات الآلاف من الإسرائيليين ضد غزو لبنان ـ فشلت في تنظيم مظاهرات بنفس القوة للدفاع عن حقوق الفلسطينيين. ولم تنجح حركة “يش جفول” ـ المعارضة للخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة في جذب تأييد واسع بين صفوف المجندين الإسرائيليين. عارضت الحركتان السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، ولكنهما لم تحاولا جعل قضية المشروع الصهيوني أو حق إسرائيل في تحديد مصير الفلسطينيين موضعاً للتساؤل. ولم تكن حملاتهما سوى نقد ليبرالي “للاستراتيجية” الصهيونية، وليس نقداً لحق إسرائيل في الوجود. (112)
حركات التضامن مع الانتفاضة ومواجهة الأنظمة:
ومع استمرار الانتفاضة ظهرت جلياً قوة القضية الفلسطينية ك ـ “عامل تثوير” قوي في المنطقة. فالفلسطينيون ـ بدءاً من انطلاقة الحركة الفدائية بعد هزيمة الأنظمة العربية الفاضحة في 1967 ـ أصبحوا رمزاً للمقاومة الجماهيرية، ليس فقط ضد الصهيونية، بل وضد الحالة المزرية التي ترزح تحتها شعوب المنطقة. وأصبح من المألوف رؤية “الكوفية الفلسطينية” تتدلى من على أكتاف الراديكاليين العرب ونشطاء اليسار في العديد من بلدان العالم. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن القضية الفلسطينية تلعب الدور الرئيسي في تشكيل الوجدان السياسي للجماهير المصرية والعربية. (الأمثلة على الدور التثويري للقضية الفلسطينية بين الجماهير المصرية لا تنتهي، يكفي أن نستعرض سريعاً بعض المواقف مثل تقدم 20 ألف شاب مصري للتطوع في صفوف الفدائيين الفلسطينيين في الأسابيع القليلة التي أعقبت موقعة الكرامة (مارشال صفحة 233)، وتفجير الانتفاضة الطلابية في بداية السبعينيات على يد “جمعية أنصار الثورة الفلسطينية”، وخروج مليون مصري لضفة قناة السويس من أجل توديع إحدى سفن المقاومة الفلسطينية في طريقها لليمن بعد الخروج من بيروت 82 (مارشال، صفحة 164))
تحولت سريعاً حركات التضامن الجماهيرية ـ التي انتشرت بالدول العربية ـ مع الانتفاضة إلى حركات تهدد أنظمة الحكم نفسها. في البداية جاء رد الفعل في البلدان المتواجدة بها جاليات فلسطينية كبيرة. ففي أقل من أسبوعين قام 10 آلاف فلسطيني ولبناني بمظاهرة في مدينة صيدا اللبنانية، ثم اشتعلت مظاهرات عنيفة بالمخيمات الفلسطينية والمناطق اللبنانية المسلمة. (113) وفي الأردن هاجمت الأجهزة الأمنية بعنف مظاهرات طلاب الجامعات والمدارس ومسيرات الفلسطينيين في مخيمات البقعة والوحدات والحسين وجبل النزهة، وفرقت بالقوة المسيرات التي خرجت من مقار النقابات. (114) وفرضت الحكومة الرقابة العسكرية على الصحف والمجلات الأردنية عند بدء الانتفاضة، وقامت بحملة اعتقالات واسعة بين صفوف المعارضة من كافة الاتجاهات تخوفاً من امتداد الانتفاضة إلى أراضيها، وانتشرت المنشورات في الشارع الأردني منتقدة تخاذل النظام أمام الانتفاضة. (115)
وفي 20 يناير قامت الشرطة المغربية بالتصدي لمظاهرة تضامن قام بها ألفي طالب، فأدى ذلك لمصرع طالبة وإصابة 21 آخرين. فقام الطلبة بالرد بالحجارة على الطريقة الفلسطينية. (116) وقامت حركة تضامن قوية بالكويت حيث كان يعيش آنذاك 300 ألف فلسطيني، ففي ديسمبر 1987 اعتصم عدد كبير من الطلاب بمقار منظمة التحرير الفلسطينية. (117) وفي 8 فبراير 1988 نظم الشباب الفلسطيني مسيرة ضخمة بمدينة الكويت فرقتها قوات الشرطة بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع. (118) ونظم سكان هضبة الجولان إضراباً عاماً في الذكرى السادسة لإعلان إسرائيل ضم الجولان إليها، واندفعت تعزيزات عسكرية إسرائيلية لضمان عدم انضمام سكانها إلى الانتفاضة الفلسطينية. وكان سكان الجولان قد أعلنوا تضامنهم مع جماهير الأراضي المحتلة، وأرسلوا مساعدات طبية وغذائية للمخيمات المحاصرة. (119) وفي 14 فبراير 1988، قامت الشرطة التركية بتفريق مظاهرة تضامن من ألف شخص في شوارع اسطنبول. وفي 17 مارس 1988 تظاهر آلاف السودانيين أمام السفارة الأمريكية بالخرطوم خلال إضراب عام احتجاجاً على السياسات الأمريكية تجاه الفلسطينيين. (120)
جاءت أقوى حركة تضامن مع الانتفاضة في مصر، عاكسة مستوى القهر السياسي والاجتماعي الذي تعيش فيه الجماهير المصرية. ففي 20 ديسمبر 1987 نظم طلاب جامعة القاهرة مظاهرة حاشدة طافت الحرم الجامعي رافعين الأعلام الفلسطينية. وحاصرت الجامعة حشود من قوات الأمن المركزي لمنع المظاهرة من الخروج للشارع. (121) وعقب ذلك اجتاحت الجامعات المصرية موجة من المظاهرات العارمة لتأييد الانتفاضة. فتظاهر أكثر من 4 آلاف طالب في حرم جامعة عين شمس منطلقين من أمام كلية الحقوق، وخرجوا إلى الشارع ليسدوا الطريق أمام السيارات، ثم انتقلوا إلى حرم كلية التجارة لعقد مؤتمر طلابي. ونظموا مظاهرة أخرى في 26 ديسمبر 1987 شارك فيها ما يزيد عن 6 آلاف طالب. وفي الوقت نفسه نظم طلبة التيار الإسلامي مظاهرات ضخمة في جامعات المنيا وأسيوط والأزهر. (122) واستمرت مظاهرات الطلبة بجامعة المنصورة رغم قيام الحكومة باعتقال بعض الطلبة وفصل آخرين من الجامعة. وأرسل الصحفيون المصريون رسالة تأييد وتضامن مع الانتفاضة إلى الشعب الفلسطيني أثناء اعتصامهم بمقر نقابتهم احتجاجاً على ممارسات التعذيب التي تنتهجها الحكومة المصرية. وقام 500 طالب بمظاهرة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة حرقوا خلالها الأعلام الإسرائيلية. (123) وشارك أساتذة جامعة الإسكندرية طلابهم في المظاهرة التي اندلعت بالجامعة وضمت ما يزيد عن 10 آلاف طالب للمطالبة بطرد السفير الإسرائيلي. (124)
وأضرب المحامون عن العمل في 30 ديسمبر 1987 تضامناً مع الانتفاضة وللمطالبة بقطع العلاقات مع إسرائيل. ورُفعت الأعلام الفلسطينية على مقر نقابة المحامين بالشرقية وبعض مقار المحاكم. وقام المحامون بمسيرات في طنطا والزقازيق إلى مديريات الأمن وحرقوا الأعلام الإسرائيلية. (125)
وفي يوم 1 يناير 1988 خرج المئات من عمال الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى عقب صلاة الجمعة في مظاهرة حاشدة تأييداً للانتفاضة، وحرقوا خلالها الأعلام الإسرائيلية أمام مقر الحزب الوطني. (126) هاجمت قوات الأمن المظاهرة واعتقلت بعض العمال. أما الشعارات التي رفعها العمال في البداية تضامناً مع الانتفاضة فسرعان ما تحولت إلى شعارات تطالب بقطع العلاقات مع إسرائيل وتتهم الحكومة بالعمالة لصندوق النقد الدولي وأمريكا، وارتفعت النداءات المطالبة بسقوط النظام. (127) وفي نفس اليوم خرجت مظاهرة جماهيرية ضخمة من جامع الأزهر عقب صلاة الجمعة أيضاً مطالبة بقطع العلاقات مع إسرائيل والجهاد ضدها.اشترك في المظاهرة الآلاف من المواطنين، وطافوا شوارع وسط المدينة قبل أن تتصدى لهم قوات الأمن المركزي بالهراوات والعصي الكهربائية، وتلقي القبض على أعداد كبيرة منهم. (128) ونشط مشايخ الجماعات الإسلامية في المساجد يهاجمون النظام لتحالفه مع أمريكا وإسرائيل، ومطالبين بفتح الحدود للجهاد ضد إسرائيل. (129)
وهاجمت الشرطة مظاهرة مكونة من 200 سيدة إثر محاولتهن لترديد هتافات معادية للنظام بعد أن خرجن من اعتصام نظمه “اتحاد النساء التقدمي” بحزب “التجمع”. وأحاطت 14 سيارة من سيارات الأمن المركزي المحملة بالجنود بمبنى نقابة المحامين تحسباً للقيام بمسيرة إلى مجلس الشعب. وتوافد المئات من المواطنين على مبنى النقابة يوم 5 يناير مرددين هتافات معادية لإسرائيل والحكومة المصرية، وأحرقوا الأعلام الإسرائيلية وعطلوا المرور. (130)
وفي نفس اليوم قام طلبة جامعة عين شمس بمظاهرات ضخمة خرجت من ساحة الحرم وأوقفت المرور بميدان العباسية للمطالبة بقطع العلاقات مع إسرائيل وطرد سفيرها. وجرت اشتباكات واسعة بين الطلبة وقوات الأمن المركزي التي أطلقت عليهم العشرات من القنابل المسيلة للدموع، وأعملت الشرطة فيهم الركل والسحل والضرب بالهراوات والعصي الكهربائية والأذرع الحديدية. وأطلق الضباط أعيرة نارية في الهواء. وقد قامت قوات الأمن باعتقال 84 طالباً وأصابت 320 آخرين. وظهر الدور التثويري للقضية الفلسطينية بوضوح في المظاهرات، فلم تتناول المظاهرات القضية الفلسطينية فقط، بل امتدت لتناول جنون أسعار السلع التموينية وإلغاء الدعم. وتجاوب المواطنون مع الطلبة فانضموا إليهم، وقاموا بإسعاف المصابين منهم، وأخفوا بعضهم في منازلهم بعيداً عن مطاردات الأمن. وتوقفت الحياة الدراسية عقب ذلك لمدة يومين، ثم نظم الطلاب مظاهرات بالحرم الجامعي للمطالبة بالإفراج عن زملائهم المعتقلين، وأضربوا عن الدراسة احتجاجاً على ممارسات وزارة الداخلية. (131) ويجئ يوم 12 يناير ليقوم 4 آلاف طالب بمظاهرة طافت أرجاء الجامعة، ثم خرجت إلى شارع الخليفة المأمون لتتصدى لها قوات الأمن المركزي، وحينما احتمى الطلبة بالحرم الجامعي اقتحمت القوات الحرم مستخدمين القنابل المسيلة للدموع والعصي الكهربائية، وأعملت فيهم الضرب، واعتقلت العديد منهم. لم يتراجع الطلبة أمام إرهاب الحكومة، ففي اليوم التالي تجمع الطلاب أمام كليات الآداب والتجارة والعلوم والحقوق، وخرجوا في مظاهرة إلى الأحياء المجاورة. سارت المظاهرة في اتجاه منشية الصدر، وشارك فيها عدد كبير من المواطنين. تناولت المسيرة ـ بجانب التنديد بالتقاعس عن تأييد الانتفاضة والمطالبة بطرد السفير الإسرائيلي ـ غلاء الأسعار وشجب الإرهاب الذي يمارسه وزير الداخلية. وكعادتها قامت قوات الأمن المركزي بمهاجمة الطلبة والمواطنين بوحشية، فقام المواطنون بالتضامن مع الطلبة وأخفوهم في منازلهم. (132)
وما لبثت السلطات أن أصدرت تعليمات خاصة إلى المسئولين في جميع قنوات التليفزيون المصري بالعمل على تجاهل صور وأخبار الانتفاضة والتقليل منها بقدر الإمكان. (133) ورفض وزير الثقافة الطلب الذي تقدم به الفنانون المصريون لإقامة يوم فني تضامناً مع الانتفاضة على مسرح الطليعة المملوك للدولة، فلجأ الفنانون إلى نقابة المحامين لإقامته. وتزامن ذلك مع اعتصام مئات الشباب بمقر حزب التجمع في الإسكندرية. ونظم المعتقلون السياسيون إضراباً عن الطعام لمدة 24 ساعة تضامناً مع الشعب الفلسطيني. (134)
كان على النظام المصري التحرك سريعاً كي يحتوي توابع الانتفاضة، فقام مبارك بزيارة سريعة للبيت الأبيض في 28 يناير للتقدم بمبادرة للحكومة الأمريكية تتضمن “وقف العنف” في الأراضي المحتلة، والدعوة لعقد مؤتمر دولي للتوصل إلى تسوية شاملة. (135) تآمرت جميع الأنظمة على الانتفاضة، إذ أوضحت الأحداث في مصر مخاوف كل نظام عربي بخصوص القضية الفلسطينية…
فخلال مقاومتهم للصهيونية، واجه الفلسطينيون السيطرة الإمبريالية على المنطقة؛ وخلال تضامنهم مع الفلسطينيين، واجه الطلاب والعمال العرب العلاقات الطبقية بمجتمعاتهم أنفسها، والعلاقات التي تربط حكامهم بالنظام العالمي. (136)
وكتب محمد سيد أحمد يقول:
لقد أصاب الأنظمة العربية الوجوم، وزاد وجومها كلما تعاظم شأن الانتفاضة وطال الصمود، وكأنما الذي أصبح يشغلها هو خطر أن تصوب الحجارة إليها لا إلى إسرائيل. وكأنها أصبحت تشعر بنوع من التضامن مع إسرائيل في ضرورة إطفاء نار الانتفاضة، قبل أن تستفحل، ولذا كانت الانتفاضة سبباً للضغط على الفلسطينيين لا على إسرائيل من أجل تسوية عادلة. (137)
استمرت الحكومة المصرية في شن حملات اعتقال لا هوادة فيها ضد الطلبة والمهنيين والعمال، واستمرت الجامعات مشتعلة بالمظاهرات والاعتصامات للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين. وحددت قوى المعارضة في مصر يوم 30 مارس 1988 ليكون يوم العلم الفلسطيني، فقامت الأحزاب والنقابات والجامعات برفع العلم الفلسطيني على مبانيها. فما كان من ضباط أمن الدولة إلا أن هاجموا الأشخاص الذين حاولوا رفع الأعلام، وبدأت حملة اعتقالات جديدة ومداهمات لمنازل الطلبة والمهنيين وأعضاء الأحزاب لضبط ومصادرة الأعلام الفلسطينية التي بحوزتهم! (138)
وفي ظل المناخ العاصف الذي فجرته الانتفاضة في المنطقة، انفجرت انتفاضة في الجزائر على غرار النموذج الفلسطيني، ففي 4 أكتوبر نزلت الجماهير الجزائرية إلى الشوارع تتظاهر ضد الإجراءات التقشفية التي اعتزمت حكومة الشاذلي بن جديد تنفيذها. عمت الإضرابات جميع مصانع الجزائر، فهاجمت الجماهير رموز السلطة والثروة، وأشعلت النيران في مقار الحزب الحاكم، والفنادق الفاخرة، ومحلات القطاع العام، ومقار المجالس البلدية، وشركات الطيران، وسيارات السفراء. (139) واضطر بن جديد إلى إنزال قوات الجيش لقمع الانتفاضة، فواجه المنتفضون الجيش بالحجارة وهم متشحون بالكوفيات على “الطريقة الفلسطينية”. (140) وهرع جميع الحكام العرب لتأييد بن جديد وإبداء تعاطفهم حتى أولئك الذين تربطهم علاقات سيئة أو مقطوعة مع الجزائر ـ ومنهم مبارك. فخرجت مانشيتات الصحف الرئيسية بتصريحات له يدعو فيها الشعب الجزائري إلى “التعقل والاستقرار لأن التمادي في الاضطراب من شأنه أن يعود في النهاية بالخراب على المواطن الجزائري”، وأعرب عن أمله في أن “تسيطر القيادة الجزائرية على مقاليد الأمور في هدوء وأن يعم الاستقرار والأمن والأمان هذا البلد الشقيق”. (141)
لم يخف على أحد الارتباط الوثيق بين أحداث الجزائر وما يحدث بفلسطين، وكيف أصبح الفلسطينيون المثل الذي يحتذي به لمواجهة القمع. فكتبت مجلة الميد إيست ميرور المتابعة للصحافة العربية:
لا يريد الحكام العرب “انتفاضة” جزائرية…[و] نظراً لأن قلقهم الأعظم هو انتشار “انتفاضات” على غرار فلسطين إلى أراضيهم، تدافع الملوك والرؤساء العرب لبعث رسائل تعاطف وتأييد للرئيس الشاذلي بن جديد. (142)
ويؤكد فيل مارشال على أن:
تحققت أسوأ مخاوف الحكام العرب. أصبح الخطر الآن أن التضامن [من قِبَل الجماهير العربية] مع الفلسطينيين قد صار تقليداً لهم. (143)
وفي منتصف شهر إبريل 1989 ـ أي بعد حوالي 6 أشهر من الانتفاضة الجزائرية ـ انفجرت انتفاضة أخرى… في الأردن. ففيما يعد أخطر أزمة مر بها نظام الملك حسين منذ أيلول الأسود، خرجت مظاهرات ضخمة في مدن الأردن الجنوبية ـ التي كانت تعد المعاقل الرئيسية لتأييد النظام الأردني ـ بعد قرار الحكومة رفع أسعار الغذاء. واشتعل قتال شرس بين آلاف الشباب الغاضب من جهة والشرطة والجيش الأردنيين من جهة أخرى لمدة 5 أيام. وفي معن استولى 4 آلاف متظاهر على وسط المدينة وانضمت إليهم قوات الشرطة في الهتاف ضد نظام حسين. وفي منطقة طفيلة تجمهر آلاف الشباب متشحين بالكوفيات ليلقوا بالحجارة على قوات حسين معلنين: “هذه انتفاضة الضفة الشرقية”. (144) وحتى في المناطق التي لم يمتد إليها القتال، أيدت الاجتماعات والمؤتمرات الجماهيرية مطالب الجنوب بخصوص إلغاء زيادات الأسعار، ووقف الإجراءات التقشفية، واستقالة الحكومة، ومعاقبة المسئولين الفاسدين، ورفع قانون الطوارئ الذي ساري عمله منذ 1976، وإصلاحات انتخابية، وفي بعض المناطق ـ تأييد الانتفاضة الفلسطينية تأييداً عملياً. (145) ومرة أخرى لم يكن خافياً على أحد الصلة بين انتفاضات فلسطين ـ الجزائر ـ الأردن، حتى الإسرائيليون فهموا الرسالة جيداً، فكما أكد وزير الطاقة الإسرائيلي موشى شاحال ـ أثناء أحداث الأردن ـ بأن الانتفاضة الفلسطينية قد أصبحت “النموذج الذي يحتذي به في أي وقت تتواجد به الحاجة لتغيير الواقع” في المنطقة. (146)
عرفات و”عدم التدخل”… مرة أخرى!
وفي وجه التأييد الجماهيري الكاسح للانتفاضة أصر عرفات على التمسك ب ـ “عدم التدخل”، فلم يحاول الاتصال أو تأييد حركات التضامن الجماهيرية، بل وجه تحركاته كلها للأنظمة. وسارعت الأنظمة لإعادة علاقاتها مع منظمة التحرير الفلسطينية وتحسينها مثلما فعلت سوريا والأردن، واستخدمت عرفات لتهدئة حدة حركات التضامن بدولها. وبدأ عرفات في الظهور بجانب الملوك والرؤساء في مؤتمرات المناصرة راسماً على وجهه ابتسامته البلهاء ومشيداً بالدعم الممنوح. فبالرغم من القمع الوحشي للمظاهرات الفلسطينية، ذهب عرفات إلى الكويت ليكيل الثناء والمديح للعائلة المالكة الكويتية لجهودها في خدمة القضية الفلسطينية!! (147) وفي احتفال حاشد أقامه الاتحاد العام لنقابات عمال مصر في يناير 1989 للاحتفال بالذكرى الرابعة والعشرين لانطلاقة الثورة الفلسطينية سمحت الحكومة المصرية لعرفات بالحضور والتحدث في الاحتفال. فخاطب عرفات عمال مصر مشيداً ب ـ “عودة مصر إلى الصف العربي”، وتكلم عن “سلام الشجعان” الذي هو مقبل عليه. (148) وفي أول زيارة للقاهرة منذ 1985 أشاد أبو إياد عقب محادثاته مع مبارك بـ “الموقف المصري الحكيم”، وتكلم عن ضرورة تكوين لجنة عربية تضم حكومات مصر وسوريا ولبنان والأردن والمنظمة للإعداد لمؤتمر دولي للسلام. (149) وأثناء انتفاضة الجزائر التزم عرفات وباقي قادة منظمة التحرير الصمت، وبعد شهر من قمع الانتفاضة بالدبابات، ظهر عرفات بجانب الشاذلي بن جديد في دورة المجلس الوطني الفلسطيني، ليقدمه بصورة “صديق الانتفاضة [الفلسطينية] والنضال المعادي للإمبريالية”.(150) وفي أحداث انتفاضة الأردن أرسلت فتح أوامر صارمة لأعضائها بعدم التدخل في مجريات الأحداث، وبذلت جهوداً ضخمة على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية كي لا يصدرا بيانات ضد النظام الأردني، ووقفت فتح صامتة أمام حملة القمع الشرسة التي تعرض لها الإخوان المسلمون والحزب الشيوعي الأردني. فقد رأت مرة أخرى أن سقوط حسين قد يهز استقرار المنطقة بأكملها، ويعرض مصالح الرأسمالية العربية للخطر، ويفسد المسيرة السلمية الوليدة التي كانت فتح تطرق أبوابها بشدة لسنوات طويلة. (151)