لماذا الدول الاشتراكية لم تكن اشتراكية؟
1- الخطأ الروسي
لاشك أن أكثر الانتقادات التي توجه إلى الاشتراكية قوة هو مصير الثورة الروسية، فدائما ما يقال للاشتراكيين “ارجعوا إلى ما حدث في روسيا” وتلك بالفعل قضية بحاجة إلى رد، فأي عقبة تلك التي تعترض سبيل ثورة عمالية أخرى حتى لا تنتهي بطاغية كما حدث في عهد ستالين ؟، للإجابة على هذا السؤال علينا أن نلقى نظرة على الظروف التاريخية التي واكبت الثورة الروسية.
كانت روسيا في بداية القرن التاسع عشر دولة زراعية بدائية متخلفة، معظم سكانها من الفلاحين الذين يتم استغلالهم بوحشية من قبل ملاك الأرض الذين ساندتهم الدولة القيصرية. في تسعينيات القرن التاسع عشر بدأت الحكومة القيصرية بتشجيع الصناعة الروسية مخافة سقوط الدولة في أيدي الجيوش المتسابقة للدول الأكثر تقدماً، ومن ثم حدث تحالف بين الدولة ورأس المال الأجنبي لبناء الصناعة، وكنتيجة لذلك انبثقت في المركز طبقة عمالية صناعية صغيرة إلا أنها ذات قوة اقتصادية وسياسية.
عكست ثورة 1905 الأثر المدوي الذي أحدثته الطبقة العاملة الجديدة على الساحة السياسية في روسيا، بالرغم من ذلك فان الحكومة القيصرية ظلت تسيطر على جيش من جنود الفلاحين، وبالتالي كانت قادرة على قمع الثورة. ولكن في فبراير 1917 أطاح الجنود أنفسهم تحت ضغط الهزيمة العسكرية والثورات العمالية بالقيصر، وفى أكتوبر 1917 استطاع البلاشفة انتزاع السلطة ليس بسب مساندة الطبقة العاملة فقط، ولكن لأنهم كانوا الحزب الوحيد الذي دعي إلى نهاية فورية للحرب، والى تأييد حق الفلاحين في الأرض. وكان الفلاحون قد صادروا الأراضي على أي حال، ولكن بمجرد انتزاع البلاشفة للسلطة أضفوا الشرعية على تلك المصادرات.
لم تستسلم الحكومات الرأسمالية الغربية للثورة الروسية، فقد تم غزو روسيا بما لا يقل عن 22 جيش للإطاحة بالحكومة البلشفية، وظلت البلاد تحت سيطرة الحرب الأهلية بين الجمهورية السوفيتية الجديدة، والجيش الأبيض المضاد للثورة يسانده الغرب لما يقرب من ثلاثة أعوام.
أفنت الحرب والمرض والمجاعة الملايين في تلك السنوات، وكان تأثير الحرب على الصناعة مدمراً، حيث انه بدمار الأسواق والمواد الخام أغلقت المصانع وعاد العمال الذين لم يلحقوا بالجيش الأحمر أو الخدمة العامة إلى قراهم التي أتوا منها، إذ لم يكن هناك طعام في المدن وتحللت الطبقة العاملة الصناعية التي تأسست عليها قوة البلاشفة.
عندما خرج البلاشفة منتصرين من الحرب الأهلية في 1921، وجدوا أنفسهم في موقف غير مستقر، فقد جعلهم غياب الطبقة العاملة معلقين في الهواء، يديرون آلة الدولة لكنهم يفتقرون إلى القاعدة الاجتماعية، وتحول الفلاحين الذين ساندوهم ضد الجيش الأبيض إلى موقف معاد، كنتيجة لقيام البلاشفة بمصادرة الحبوب لتوفير الغذاء للمدن.
في ربيع 1921 قدم لينين “السياسة الاقتصادية الجديدة” التي أعادت بدرجة ما السوق الخاصة، كوسيلة لتشجيع الفلاحين لإنتاج المزيد من الغذاء. ومنحت هذه السياسة الحكومة البلشفية فرصة لالتقاط الأنفاس، إلا أنها لم تحل معضلتها الأساسية.
لم يؤمن لينين وتروتسكى إطلاقاً أن الجمهورية السوفيتية الروسية يمكنها أن تنجو بمفردها، فقد توقعا أن تنتشر ثورة أكتوبر كموجة من الثورات في دول الغرب الرأسمالي المتقدمة، واعتقدا بأنه لا يمكن لدولة بمفردها وخصوصاً إذا كانت في تخلف روسيا أن تبنى الاشتراكية، لان ذلك يتطلب اشتراك موارد كل الدول الكبرى.
على نهج هذه الاستراتيجية أسس البلاشفة الأممية الشيوعية (الكومنترن) في 1919، وكان الهدف منها تنظيم ثورة اشتراكية عالمية، وخلق جمهورية سوفيتية دولية، وللوصول إلى ذلك فقد سعت إلى تأسيس أحزاب شيوعية جديدة في كل أنحاء العالم.
بينت الموجة الثورية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، مدى واقعية استراتيجية البلاشفة، فقد شهدت الأعوام 1918 – 1920 جمهوريات سوفيتية في المجر وبافاريا، وتمردات وصدامات مع البوليس في إنجلترا، واحتلالات مصانع في إيطاليا، إلا أن نجاح الثورة العمالية الروسية لم ينتشر في دول أخرى، والسبب الجوهري في ذلك كان غياب أحزاب ثورية فعالة كالحزب البلشفي.
مع تأسيس الكومنترن كانت اكثر الظروف ملائمة للثورة في أوروبا الغربية والوسطى قد انتهت، فقد أدى إخفاق الحزب الشيوعي الألماني في انتزاع السلطة في أكتوبر 1923 إلى إغلاق الأبواب أمام الثورة العالمية، وكانت تلك النهاية ابعد ما تكون عن التي رسمها معظم القادة البلشفيين.
مع وفاة لينين في 1924، كان الحزب البلشفي يختلف كثيرا عن تلك المنظمة العمالية، التي كان عليها في 1917، إذ دمرت السوفييتات الديموقراطية مع هلاك الطبقة العاملة في الحرب الأهلية، الأمر الذي أوقع الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي – كما يعرف البلاشفة الآن – تحت سيطرة بيروقراطية الموظفين.
وتزعم هذه البيروقراطية ستالين السكرتير العام للحزب، الذي استطاع في السنوات التالية لوفاة لينين هزيمة منافسيه تدريجياً حتى تولى السلطة في 1928.
وترجع أهمية ستالين إلى كونه ممثل البيروقراطية الجديدة لحزب الدولة، الذي حكم الاتحاد السوفيتي، إذ فقد هؤلاء الموظفين أي اهتمام بالثورة العالمية، ومثـل قائدهـم انصب اهتمامهم على مصالح الـدولة السـوفيتية وعلى أنفسهم كحكـام،
وبالتالي فقد ابتكر ستالين ومؤيديه الحاليين نظرية “الاشتراكية في بلد واحد”، لقد تصوروا انه من المكن بناء مجتمع اشتراكي قاصر على الاتحاد السوفيتي وحده، ومن ثم أصبحت مهمة الأحزاب الشيوعية في البلدان الأخرى ليست صنع الثورة، ولكن توسيع نفوذ مصالح الدولة الروسية. وتحولت الفروع الوطنية للكومنترن إلى وكلاء لوزارة الخارجية الروسية.
وهكذا تم التخلي عن الثورة العالمية، ففي الأعوام ما بين 1923 – 1939 أدت أوامر موسكو إلى إلحاق هزائم مروعة بالأحزاب الشيوعية المحلية، كان أهمها ما حدث في الصين وألمانيا.
شهدت الثورة الصينية 1925 – 1927 قتال الملايين من العمال والفلاحين ضد القوى الأجنبية، التي كانت تستغل الصين، وضد حلفائهم المحليين، ولكن ستالين في تلهفه لإيجاد دولة جارة صديقة، اصدر تعليماته للحزب الشيوعي الصيني بمساندة الكومينتانج – بقيادة شانج كاى شك – الذي كان يأمل في تأسيس حكومة رأسمالية على الطراز الغربي في الصين، وهو ما تحقق بالفعل بعد انه بمجرد أن حقق الشيوعيون هدفهم، وكسبت الصين الحرب ضد القوى الأجنبية، حيث تحول شانج عليهم وذبح عشرات الآلاف من العمال والفلاحين.
وفى ألمانيا حظي الحزب الشيوعي بتأييد ملايين العمال، بالرغم من سيطرة الحزب الاشتراكي الديموقراطي الإصلاحي على الحركة العمالية، وعندما بدأ الركود الاقتصادي في 1929، حدث اندفاع متزايد نحو تأييد النازية،، ورفض الشيوعيون – بناء على تعليمات ستالين – تكوين تحالف مع الاشتراكيين الديموقراطيين لوقف النازية، وبدلاً من ذلك، أطلقوا أن الاشتراكيين الديموقراطيين ليسوا أسوأ من النازيون، بل ودعوهم بالاشتراكيين الفاشيين. تلك الانقسامات مكنت هتلر من الوصول إلى السلطـة في يناير 1933، وخضعت أقوى حركة عمـالية في العالـم للفاشية بتذمر هزيل.
هذه النكبات زايدت من عزلة روسيا عن باقي دول العالم، إذ في مواجهة النظام الرأسمالي العالمي، فان أي حكم اشتراكي يبقى أمام اختيارين، إما السعي للإطاحة به بتشجيع الحركات الثورية في البلدان الأخرى، أو تبنى هذا النظام والتأقلم مع قوانينه.
رفض حكام روسيا الخيار الأول عندما تبنوا نظرية “الاشتراكية في بلد واحد”، وكان منطقهم أن يعملوا كقوة رأسمالية كبرى.
حتى قبل انتصار هتلر كان الاتحاد السوفيتي مهدداً من الغرب الرأسمالي عسكرياً، ولمواجهة هذا التهديد فان الدولة الروسية كانت محتاجة إلى إقامة قوة عسكرية خاصة بها، وبما أن تكنولوجيا الحرب الحديثة تعتمد على الصناعة الثقيلة، فان البيروقراطية السوفيتية بقيادة ستالين عملت على بناء هذه الصناعة الثقيلة من لا شئ، وكما أعلن ستالين: “إن إبطاء سرعة التصنيع يعنى البقاء في الخلف مهزومون .. أننا لا نريد أن نهزم .. أننا خلف الدول المتقدمة بمقدار أربعين عام وعلينا أن نتخطى ذلك في عشر سنوات إما أن نفعل ذلك أو أن يسحقوننا”.
منذ عام 1928 فصاعداً، انخرطت روسيا ستالين في برنامج للتصنيع القسري، هدفه اللحاق بالغرب. وبمرور عشر سنوات تم الوصول إلى مستوى هائل من الصناعات الثقيلة. إلا أن ثمن هذا التقدم الاقتصادي العظيم دفعته جماهير العمال والفلاحين، لكونهم مرغمين على الاعتماد على مواردهم الخاصة فإنه لم يكن أمام حكام روسيا من أجل التصنيع سوى استغلال العمال. لقد كانوا بحاجة لاستيراد الآلات من الغرب، والوسيلة الوحيدة لتمويل هذه الواردات، كان بيع الحبوب للخارج، إلا أن منتجي الحبوب كانوا الفلاحين الذين عارضوا تسليمها للغرب، لذا فقد أخضع ستالين الزراعة لسيطرة الدولة، بمصـادرة الأرض مـن الفلاحين، وفـرض سيطـرة الـدولة على المزارع الخاضعة للتجميع. وهلك الملايين من جراء ذلك و لازالت الزراعة الروسية تتداوى من آثارها.
حدثت قصة مشابهة للصناعة الروسية، فقد انمحت كل المكاسب التي حققها العمال أثناء الثورة، وتحولت النقابات العمالية إلى أدوات للسلطة، وكانت تساهم في وضع نماذج للرواتب، وكان العمال مضطرون لبذل مجهود اكبر لقاء الأجر الأساسي فقط. أحد الاقتصاديين الروسي ذكر أن الصناعة في الثلاثينات كان يتم تموليها عن طريق استغلال فج للطبقة العاملة.
بغزو هتلر لروسيا في 1941 كانت الدولة الروسية قد أصبحت قوة صناعية، بما يكفى لصد الجيوش الألمانية، إلا أن المجتمع الروسي كان قد تغير، فالطبقة العاملة الصناعية المتزايدة لم تكن تسيطر على الاقتصاد اكثر مما كانت تفعل في الغرب. فبالرغم من أن وسائل الإنتاج كانت ملك الدولة بشكل شرعي، إلا أنها في الحقيقة كانت تحت سيطرة بيروقراطية حزب الدولة، إذ تكونت طبقة حاكمة من بقايا السوفييتات.
أن التقدم كان دمويا فستالين – كما قال خليفته نيكيتا خروشوف – كان مسؤولا عن موت 12 مليون شخص، من بينهم معظم أعضاء الحزب البلشفي، الذين هلكوا أثناء التطهير العظيم في 1936، وملايين الناس قبض عليهم البوليس الستاليني، واختفوا في معسكرات العمل بسيبيريا، ولم يعد معظمهم أبداً.
المذابح مكنت ستالين من التخلص من أي أثر للدولة العمالية التي أنشأت في 1917، ولكن أي مجتمع حل محل تلك الدولة؟.
بوضوح لقد كان استمرارا للمجتمع الطبقي، فقد تمتعت البيروقراطية الروسية وأسرها بوجود متميز تم سحبه تماماً من العمال، فقد كان لهم مستشفياتهم ومدارسهم الخاصة ومنازلهم المرفهة وأرصدتهم في بنوك سويسرا.
لكن ما الذي أدى إلى انهيار هذه المجتمعات؟
بالرغم من أن مظهرها يبدو مختلفا عن البلدان الرأسمالية، إلا أن هيكلها الأساسي مشابه، لقد عرفنا أن الرأسمالية مرتبطة بالتراكم، بمعنى آخر أن الدول الرأسمالية دائماً ما تعيد استثمار الأرباح في إنتاج أوسع، وهذا ينطبق تماما على الاتحاد السوفيتي، فهدف الإنتاج ليس احتياجات الجماهير، بل أن الموارد تصب دائماً في بناء الصناعة الثقيلة، ويتم التضحية بالاستهلاك لأجل الإنتاج.
ما الذي يدفع الطبقة الحاكمة الروسية لفعل ذلك؟
أن ذلك يحدث لنفس السبب الذي من أجله تمارس الدول الرأسمالية التراكم – من أجل التنافس – فيما عدا انه في حالة روسيا فان المنافسة عسكرية أكثر من كونها اقتصادية. الدولة السوفيتية تقع تحت ضغط مستمر للحفاظ على قوتها العسكرية موازية لتلك التي في الولايات المتحدة، أن هذا يمثل ضغط هائل على اقتصاد يبلغ حجمه نصف حجم الاقتصاد الأمريكي وبإنتاجية أقل، لذا فان 15 % من إجمالي الإنتاج الوطني كانت تخصص لنفقات الدفاع، ويتم التضحية بكل شئ آخر من أجل السباق العسكري.
هذا بالضبط نفس التنظيم في الرأسمالية الغربية، فهناك شركات ترغم على إعادة استثمار أرباحها، وإلا فإنها ستجبر على الخروج من اللعبة على يد منافسيها، روسيا كانت مجبرة على التركيز في بناء صناعة ثقيلة، وإلا فإنها ستهزم من ِقبل أمريكا.
الاختلاف الوحيد يكمن في انه بينما في الرأسمالية الغربية تتنافس الشركات، فان السباق العسكري هو الذي ينشب بين الدول.
أن ما يوجد في روسيا هو رأسمالية الدولة، فالدولة تمتلك الاقتصاد، والبيروقراطية السياسية المركزية، تسيطر على الدولة، هؤلاء هم الطبقة الرأسمالية في روسيا.
من ينتابه شك في ذلك عليه أن يتابع ما حدث في أوروبا في الثلاثين سنة الماضية، فبعد الحرب العالمية الثانية، سيطرت قبضة روسيا العسكرية على أوروبا الشرقية، واستخدمت قوتها العسكرية في تحويل تلك البلدان إلى مجتمعات رأسمالية الدولة.
كانت النتيجة موجات متتابعة من الثورات العمالية ضد الطبقات المحلية الحاكمة ومسانديها في موسكو، كما حدث في برلين 1953، وبولندا 1971، و1976 و1980-1981، فإذا كانت هذه البلدان اشتراكية بالفعل – تعمل لصالح الطبقة العاملة – فما الذي سيضطر العمال مراراً لتتمرد عليها.
في النهاية فانه من الهام التأكيد على أن انحلال الثورة الروسية لم يكن أمرا حتمياً، كان يمكن للوضع أن يكون مختلفاً، فإذا امتدت الثورة من روسيا إلى الدول الصناعية المتقدمة بعد 1917، كان سيتم تفادى أهوال حكم ستالين وكانت الطبقة العاملة ستنتزع السلطة.
حتى بعد انحسار الموجة الثورية الأولى كان هناك خيار لسبيل أخير يمكن اتباعه، فقد نادى ليون تروتسكي والمعارضة اليسارية بأن الحزب البلشفي عليه مواصلة التركيز على تشجيع الثورات في الدول الأخرى، إذا تم اتباع تلك النصيحة فان ذلك كان سيحول دون نكبة الصين وألمانيا وكان وجه التاريخ سيصير مختلفا جداً.
ما حدث هو أن المعارضة اليسارية سحقت، وتم طردهم من الحزب وسجنهم أو نفيهم، ومع ذلك فقد ابقوا على سبب الثورة الاشتراكية حياً، لقد عملوا كمذكرين على أن ستالين كان نقيض ماركس ولينين، وان ما أنجزه كان في الواقع تدمير الاشتراكية، وليس تحقيق أحلام هؤلاء الذين صنعوا ثورة 1917.