بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

لماذا الدول الاشتراكية لم تكن اشتراكية؟

« السابق التالي »

2- الثورة في العالم الثالث

الثورة الروسية هي أول وأعظم ثورات القرن العشرين، والثورات التي تبعتها تمت في معظم الأحيان فيما يعرف الآن بالعالم الثالث، الدول الفقيرة والمتخلفة في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، أكثر هذه الثورات أهمية ما حدث في الصين وفيتنام وكوبا، قامت كلها بدعوى الاشتراكية فما مدى حقيقة تلك الدعوى؟

أول ما يجب تذكره هو أن هذه الثورات كانت موجهة ضد استغلال الاستعمار أو شبه الاستعمار، فالصين تم تمزيقها وإذلالها بالقوى الأجنبية في القرن التاسع عشر، وفيتنام كانت مستعمرة فرنسية، وكوبا كانت تحت سيطرة الاستعمار الأمريكي.

الإنجازات العظيمة لثورات العالم الثالث كانت في كونها حركات تحرير وطنية، إذ قامت بطرد المستغلون الأجانب وتحقيق الاستقلال الوطني، وبشكل عام فقد ارتفع مستوى معيشة الشعوب في هذه البلدان كنتيجة لتلك الثورات، من هذه الناحية فان الثورات كانت بلا شك تقدمية، واستحقت مساندة الاشتراكيين في كل مكان. إلا أنها لم تكن ثورات اشتراكية، ولا كانت حكوماتها اشتراكية، يتضح ذلك حين تنظر إلى القائمين بهذه الثورات، والشيء الملفت هو الدور الضئيل الذي لعبته الطبقة العاملة فعلى سبيل المثال كانت الثورة الصينية 1925-1927 بلا شك ثورة من حيث الدور المركزي الذي لعبته حركة العمال، إلا انه بسبب النصيحة السيئة التي وجهها ستالين للشيوعيين الصينيون، هزمت الثورة ودمرت الحركة العمالية، وصارت القرى ملجأ للشيوعيين الصينيين بعيدا عن المدينة، إذا اتبعوا بقيادة ماوتسى تونج استراتيجية حرب العصابات التي كان أساسها الفلاحين، وبمجرد أن دمر اليابانيون حكومة الكومينتانج لشينج كاى شك (لم يهزموا في الواقع سوى أنفسهم) بمساعدة الحلفاء أثنـاء الحـرب العالـمية الثانية، استطـاعت جيـوش فلاحى ماو، استلام زمام المبادرة، وشنوا هجوما كانت نتيجته سيطرة الشيوعيين على البلاد في 1946، لقد تضائل دور الطبقة العاملة المدينية، وتحولت إلى مواقع المشاهدين السلبيين.

الحزب الشيوعي الفيتنامي في نضاله الملحمي 45 عاماً من أجل الاستقلال الوطني، كان معتمداً بشكل مشابه على قوات حرب العصابات الفلاحية.

حركة فيدل كاسترو – 26 يوليو – في كوبا كانت قاعدتها اكثر ضيقاً، إذ تكونت بشكل واسع من مفكري الطبقة الوسطىً ونفس النموذج تكرر في دول أخرى مثل أنجولا، موزمبيق، زيمبابوي، ونيكارجوا، حيث قاد المفكرين جيوشاً عريضة من الفلاحين، فالحكام الاشتراكيين في أثيوبيا ارتقوا سدة الحكم بانقلاب عسكري.

أهمية ذلك تنبع من حقيقة أن الفلاحين طبقة مختلفة تماماً عن الطبقة العاملة، إنهم يميلون إلى كونهم ملاك صغار، فكل أسرة تملك أو تستأجر قطعتها الصغيرة من الأرض وتعمل فيها بمفردها، لذا فانهم معزولين عن بعضهم، ولا يتمتعون بالقوة الجماعية التعاونية التي تميز العمال الصناعيين المنظمين في الإنتاج وفى النقابات العمالية.

يعنى ذلك انه عندما يتمرد الفلاحون – كما فعلوا عبر التاريخ – فإن آفاقهم تميل لأن تكون محدودة جداً فهم يسيطرون على أراضيهم، ويقسمونها بينهم، ومن غير المحتمل أن يساورهم القلق بشأن ما يجرى خارج قريتهم، لذا فإنهم سرعان ما يسقطون أمام السلطة المركزية للدولة.

أن الفلاحين يشكلون حركات وطنية فقط بقيادة طبقة أخرى، أثناء الثورة الفرنسية العظيمة في 1789، كانت الرأسمالية هي الطبقة التي استخدمت الفلاحين لتدمير سلطة الملكية والأرستقراطية، وفي روسيا 1917 كانت الطبقة العاملة، هي التي قادت الفلاحين، عكس ذلك ضعف الطبقة الرأسمالية الروسية، التي كانت معتمدة بـدورها على الـدولة القيصـرية ورأس الـمال الأجنبي، والتي كـانت خائفـة جداً مـن مشاركة الطبقة العاملة في أي نضال ثوري.

في العالم الثالث – منطقة الثورات ضد الاستعمار – فإن كلا من الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة كانتا ضعيفتين، فالرأسماليين كانوا أكثر تعلقاً بالسلطات الاستعمارية من أن يعملوا كقوة مستقلة، والعمال كانوا أقلية بدون تنظيمات طبقية ثورية، إذاً لم يكن العمال ولا الرأسماليين قادرين على قيادة الفلاحين في معركتهم من أجل التحرر من الاستغلال الأجنبي.

هذا الفراغ ملأته الطبقات المتوسطة المتعلمة، فتلك المجموعة من المدرسين والموظفين والمحاميين والصحفيين، كانت مدفوعة من الدولة الاستعمارية بالحلم لتحقيق نفس نموذج أساتذتهم الأجانب، في الوقت نفسه فانهم كانوا مستبعدين عن المواقع التي وضعتهم فيها مؤهلاتهم بسبب احتلال الأجانب لهذه المواقع، سبب هذا الوضع الكثير من الغضب والإذلال الذي دفع الطبقة الوسطى المثقفة إلى النشاط السياسي.

في بعض الأحيان انضمت الطبقة الوسطى للحزب الشيوعي، لكن رجال مثل ماوتسى تونج والفيتنامي هو شي منه، كانوا يعتبرون أنفسهم كوطنيين أولاً، ثم اشتراكيين ثانياً، كان هدفهم الأساسي هو تحقيق الاستقلال الوطني، لقد اعجبوا بروسيا ستالين، لأنها بدت لهم كدولة ناجحة في بناء اقتصاد وطني قوى، وليس لقيامها بأي شئ في صالح سلطة العمال.

انعكست الطموحات الوطنية لقادة الثورات ضد الاستعمار في الحكومات التي وضعوها، فالهيكل الأساسي لها كان نسخة مطابقة لرأسمالية الدولة الروسية، كان النشاط الاقتصادي الأكثر أهمية تحت سيطرة الدولة، بينما كان الحزب يسيطر على الدولة، والسلطة الفعلية كانت في أيدي بيروقراطية سياسية مركزية،ربما تمتع العمـال والفـلاحين ببعض السلطـة على الـمستوى المحلى، إلا أنه لم يكن لديهم أي سيطرة على الحكومة المركزية أو على إدارات الاقتصاد الوطني.

لفهم الثورات التي قامت ضد الاستعمار، فإنه من الأفضل مقارنتها لا بالثورة الروسية 1917، بل بالموجة الثورية التي سبقته،ا مثلاً إنجلترا 1640، أمريكا 1776، وفرنسا 1789، تلك الثورات التي أطلق عليها ماركس، أنها ثورات بورجوازية هدفها التخلص من الإقطاع والحكم المطلق وخلق ظروف تمكن الرأسمالية من الازدهار والتطور.

ثورات العالم الثالث كانت أيضا ثورات برجوازية، إلا أنها حدثت في ظروف شديدة الاختلاف، إذ لم يكن هدفها الإطاحة بالإقطاع بل تدمير الاستعمار.

في عالم تسيطر فيه حفنة من القوى الرأسمالية الغربية على الاقتصاد فان ماو، وهو شي منه، وكاسترو والكثيرين ممن حذو حذوهم، سعوا إلى إنشاء دول وطنية قوية ومستقلة، والأسلوب الوحيد لتحقيق مطلبهم كان رأسمالية الدولة، حيث تتركز كل الموارد في أيدي الحكومة.

ولكن إذا كانوا قد حققوا الاستقلال الوطني، فأنهم لم ينجحوا في فصل أنفسهم عن ضغوط الاقتصاد، فالصين تحت حكم ماو سعت للانفصال بشكل أكثر راديكالية من روسيا، إذ قرر الحزب الشيوعي الصيني الاعتماد على موارده فقط، وأهم هذه الموارد كان الصينيون أنفسهم، فالثورة الثقافية في نهاية الستينات، كانت تنوى توجيه طاقة وحماس جماهير العمال خلف هدف بناء اقتصاد وطني مستقل، إلا أن هذه الاستراتيجية فشلت لنفس الضغوط العسكرية التي أرغمت روسيا ستالين على التصنيع، ومما يثير السخرية، أن التهديد العسكري أتى هذه المرة من رفيقة الصين، الدولة “الاشتراكية” المزعومة روسيا !! … فقد أرغمت الصدامات المسلحة على الحدود بين روسيا والصين في بواكير 1969، القيادة الصينية على التخلي عن الثورة الثقافية.

منذ هذا الوقت هدفت الحكومة الصينية إلى بناء صناعة صينية باستخدام رأس المال والتكنولوجيا الغربية، قادهم ذلك لتشجيع الاستثمار الأجنبي في الصين، ولدفع المنتجات الصينية في السوق العالمية، وبشكل متزايد “صادرات المنسوجات الصينية هي الأسرع نموا في العالم” حتى انه قد تم الإعلان مؤخراً عن أن الصين سوف تبدأ الاستثمار في مشاريع في الخارج، (إذا لم تستطع هزيمتهم لتنضم إليهم!!).

قوة النظام الصيني أثرت أيضاً على حكومات رأسمالية دولة أخرى، فمثلا كوبا تحت حكم كاسترو سعت إلى إنهاء اعتمادها الكلى على صادرات السكر، إلا أن كل ما نجحت في تحقيقه هو جعل روسيا – أكثر من الولايات المتحدة – المستورد الرئيسي لسكرها، ومع اعتمادها الكبير على الإعانات الروسية، فان كاسترو أيضا مدين بشكل بالغ للبنوك الغربية.

أن الهدف من بناء اقتصاديات وطنية مستقلة، تحول إلى حلم بعيد المنال، فكل دولة شاءت أم أبت هي جزء من النظام الرأسمالي العالمي، وخاضعة لضغوطه وهذا كما ينطبق على دول العالم الثالث، التي قامت تحالفاً مع الغرب، فانه ينطبق أيضا على الصين وكوبا وأمثالهم.

فالبرازيل على سبيل المثال كانت المعجزة الاقتصادية العظيمة في الستينيات والسبعينيات، وحتى أثناء أزمة الركود الأولى في فترة انهيار السبعينيات، فإن اقتصادها ظل ينمو بسرعة.

ارتقت العاصمة “ساو باولو” إلى مصاف اكبر المدن الصناعية في أمريكا اللاتينية بعدد سكان يبلغ 30 مليون، ينتجون أكثر مما تنتجه معظم البلدان في القارة، إلا أن تلك المعجزة كانت مؤسسة على اقتراض مبالغ ضخمة من البنوك الغربية، وعندما ضرب العالم الانهيار الثاني في 1980، وجدت البرازيل نفسها غارقة في ديون ثقيلة للغرب، بينمـا تقلصت صـادراتهـا في الأسـواق بسبب الركـود، وعجـزت الدولـة عـن تسديد ديونها، وكثمن لعدم تسديد البرازيل ديون بمقدار 90 مليار دولار، فان صندوق النقد الدولي والبنوك الغربية طالبت بسياسات بالغة القسوة تضمنت تخفيضات شديدة في المستويات المعيشة للعمال وتقشف واسع النطاق.

ليس هناك دولة يمكنها الهرب من النظام العالمي، والوسيلة الوحيدة للخروج هي ثورة اشتراكية أممية، ومن أكثر البشائر أهمية في الطريق إلي ذلك، نمو الطبقة العاملة الصناعية في العالم الثالث، فعلى سبيل المثال زاد عدد العمال الصناعيين في البرازيل منذ 1964 ثلاث أضعاف ليصبح 12 مليون عامل، وفى السنوات الأخيرة بدءوا استعراض عضلاتهم على كل شئ، تمثل ذلك في سلسلة من إضرابات سائقو النقل التي أرغمت الحكام العسكريين المرتعدون في البرازيل على تنازلات سياسية كبيرة.

وضع مشابه يمكن وصفه في دول أخرى، مثل كوريا الجنوبية، مصر، الأرجنتين، جنوب إفريقيا، وبوليفيا حيث ستشارك الطبقة العاملة في أي ثورات قادمة في العالم الثالث.

« السابق التالي »