بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ما هو التراث الماركسي الحقيقي؟

« السابق التالي »

3- الجزء الثاني: تحولات الماركسية

لعله قد بات واضحاً بالفعل – بالمعيار الذي تم إقراره في هذا المقال – أن كثيراً من الأيديولوجيين والأنظمة التي ادعت الماركسية في المائة سنة الأخيرة ليست ماركسية على الإطلاق. وقبل الشروع في البرهنة على ذلك فيما يتعلق بأمثلة محددة، من الضروري أن نبدي بعض الملاحظات الأولية حول الموقع الاجتماعي للبروليتاريا ووعيها في ظل الرأسمالية.

تتجاوز البروليتاريا الرأسمالية بالإمكانيات الكامنة لديها، ولكن طالما استمرت الرأسمالية فإنها (البروليتاريا) تظل طبقة مضطهدة ومستغلة في الأوقات العادية، بالتالي تسيطر الأيديولوجية البرجوازية على وعي غالبية العمال (الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة الحاكمة) ولكن العمال في نفس الوقت مضطرون بحكم وضعهم الاقتصادي لمقاومة هجمات رأس المال والكفاح لتحقيق تحسينات في أوضاعهم حتى عندما لا يكونون مستعدين لتحدي النظام ككل. بما يتمشى مع هذا التناقض، تنشأ أيديولوجيات هجينة تجمع عناصر من الأيديولوجية البرجوازية وعناصر من الأيديولوجية الاشتراكية.
إلا أن هذه الأيديولوجيات الهجينة لها أيضاً أساسها المادي المتفرد في الطبقة التي يتسم وضعها الاجتماعي ذاته بأنه جزء برجوازي وجزء بروليتاري ألا وهو الفئة المتوسطة المعروفة في الماركسية عادة بالبرجوازية الصغيرة. إن مصطلح البرجوازية الصغيرة، لها صلاحية عامة ولكن لا ينبغي أن يسمح لها بطمس واقع أنها في العالم الحديث، تغطي عدداً من الشرائح الاجتماعية التي تختلف فيما بينها بشدة فيما يتعلق بظروف وجودها – أهم هذه الشرائح هي: أ) البرجوازية الصغيرة القديمة المكونة من أصحاب الدكاكين الصغيرة وغيرهم من أصحاب صغار الأعمال. ب) الطبقة المتوسطة الجديدة المكونة من الموظفين ذوي المرتبات الذين يوجدون في مواقـع السلطة فوق الطبقة العاملة. ج) بيروقراطية الحركة النقابية والعمالية. د) الفلاحون (في أغلب البلاد).

إن هذه المجموعات جميعاً تحيط بالبروليتاريا (أنهم على اتصال يومي بها أوثق من اتصال البرجوازية بها) وتمارس تأثيراً على وعيها. إلا أن كلاً من هذه المجموعات تميل لتوليد الأيديولوجية البرجوازية الصغيرة الخاصة بها وممارسة نوعها الخاص من التأثير على العمال، يوجد وعي البروليتاريا إذن، ومعه النظرية الماركسية، في حالة حصار دائم، وقد كان تاريخ الماركسية تاريخ معارك مع الأيديولوجية الهجينة للبرجوازية الصغيرة: ومن هنا مجادلات ماركس ضد برودون وباكونين، وانجلز ضد دوهرنج، وبليخانوف ولينين ضد الشعبويون وهكذا.

إن الإشكالية التي يتناولها هذا المقال، مع ذلك هي النزاعات داخل الماركسية أو بالأحرى بين النزعات النظرية والسياسية التي تدعي أنها ماركسية. السؤال الذي ينبغي طرحه هو ما إذا كانت أكثر هذه النزاعات أهمية هي أيضاً صراعات بين وجهة نظر البروليتاريا ووجهة نظر البرجوازية الصغيرة أو طبقات أخرى. وإذا كانت هذه ظاهرة يمكن إثباتها، فإنها تحتاج أيضاً إلى تفسير.

لقد اقترح لينين أن “جدلية التاريخ تجعل الانتصار النظري للماركسية، يجبر أعداءها على التنكر كماركسيين”(66)، ولكن على الرغم من أن هذا التفسير يحتوي على عنصر حقيقة هام، فانه مبالغ بعض الشيء في التآمرية، لعله أدق تاريخياً أن نقترح إن العملية عادة ما تجرى وفقاً للطريقة الآتية: يتوصل زعماء أو حركات إلى تصور للثورة البروليتارية ويتبنون الماركسية، وبعد ذلك لأسباب عديدة (في التحليل الأخير ضغط الرأسمالية) يتخلون عن هذا التصور ولكن يحتفظون باسم ولغة الماركسية، إما من خلال خداع الذات أو رغبة في الحفاظ على أوراق اعتمادهم الراديكالية أو الاثنين معا – في الوقت الذي يحولون فيه مضمونها الحقيقي. متى حدثت هذه العملية يتم نقل هذه الماركسية المحولة، لزعماء وحركات أخرى لم يكن لها أي صلة في أي وقت بالثورة البروليتارية(67)، إلا إن هذا تنبؤ بنتائج ينبغي البرهنة عليها أولا بالتحليل التاريخي. من حيث القوة المادية وعدد المناصرين، سيطرت ثلاث نزعات على تاريخ الماركسية منذ ماركس: 1) الاشتراكية الديمقراطية للأممية الثانية. 2) الستالينية. 3) وطنية العالم الثالث. من الواضح أننا لا نستطيع داخل حدود هذا المقال تقديم تحليل شامل لأي من هذه النزعات، دع عنك الثلاث جميعاً، سأتناول كل منها بالتالي من حيث أهم سمات أبرز ممثليها.

1 – الكاوتسكية
أبرز أحزاب الأممية الثانية كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. إن الحزب الذي أسس في عام 1875 في مؤتمر جوته، والذي وحد المؤيدين الألمان لماركس مع أتباع لاسال(68) قد نما من خلال فترة شبه شرعية (قوانين بسمارك ضد الاشتراكية) إلى وضع قوة ذات أهمية داخل الدولة الألمانية، مع نهاية القرن التاسع عشر. كانت هذه فترة تقدم عام للرأسمالية الألمانية أتاحت للحركة العمالية النامية كسب تنازلات وتحسينات في أوضاعها، كانت هذه المكاسب بالطبع نتيجة صراع – الرأسمالية لا تعطي أي شئ دون معارك – إلا أنها لم تقتضي مواجهة شاملة، أو معركة حياة أو موت طبقياً (في الواقع كان مستوى الاضرابات في ألمانيا منخفضاً جداً)(69). إجمالا كانت فترة سلام اجتماعي نسب. وانتهزت الطبقة العاملة الألمانية هذه الفرصة لبناء الحزب الاشتراكي الأوسع والأفضل تنظيما في العالم – حزب له مئات الآلاف من الأعضاء ومئات المنظمات الحزبية وأكثر من ثمانين جريدة يومية بالإضافة إلى العديد من المنظمات الاجتماعية والثقافية.

منذ أواخر التسعينات من القرن التاسع عشر انقسم هذا الحزب إلى أغلبية ماركسية أرثوذكسية وأقلية مراجعة (متنامية) ادعت الأخيرة بزعامة إدوارد برنشتاين، إن الرأسمالية على العكس من النظرية الماركسية، كانت تجاوز تناقضاتها بالتدريج وان الحزب الاشتراكي الديمقراطي بالتالي لا يستطيع ولا ينبغي أن يكون أكثر من حزب ديمقراطي للإصلاح الاجتماعي، وحيث أن المراجعين كانوا بدرجة أو بأخرى معادين للماركسية صراحة فإننا لا نعني بهم بشكل خاص في هذا المقال، انه الجناح الأرثوذكسي الذي يعنينا هنا. لقد الزم الحزب الاشتراكي الديمقراطي نفسه بالماركسية في مؤتمره في إيرفورت في 1891، عندما أقر برنامج ايرفورت الذي اعد مسودته كارل كاوتسكي الذي كان يلقب ببابا الماركسية. لقد ظل هذا البرنامج بالإضافة إلى التعليق الذي كتبه كاوتسكي أيضاً(70)، الطرح الأساسي حول الرؤية العالمية للحركة، كما ظل كاوتسكي ابرز منظريها حتى الحرب العالمية الأولي. لاشك أن برنامج ايرفورت كان مقبولا بوجه عام، كبيان للماركسية الأرثوذكسية، القسم الأول منه هو “تحليل للمجتمع الحاضر وتطوره”(71)، ويتكون من عرض مكثف ومبسط لنظرية التنمية الرأسمالية التي وضع ماركس خطوطها العامة في البيان الشيوعي وينتهي بأطروحة “أن الملكية الفردية لوسائل الإنتاج أصبحت غير منسجمة مع استخدامها الفعال وتطورها الكامل”(72)، ويطالب القسم الثاني بحل هذا التناقض عن طريق “تحويل الملكية الفردية إلى ملكية جماعية وتحويل الإنتاج السلعي إلى إنتاج اشتراكي يتم لمصلحة وبواسطة المجتمع”(73)، ويتناول القسم الثالث “الوسائل التي تؤدي لتحقيق هذه الأهداف”(74) وهي الصرع الطبقي للبروليتاريا، أما عن طبيعة هذا الصراع فالبرنامج يقول:
صراع الطبقة العاملة ضد الاستغلال الرأسمالية هو بالضرورة صراع سياسي، لا تستطيع الطبقة العاملة تطوير تنظيمها الاقتصادي وشن معاركها الاقتصادية بدون حقوق سياسية أنها لا تستطيع إنجاز نقل وسائل الإنتاج للمجتمع ككل دون الحصول أولاً على السلطة السياسية.(75)

مازلنا هنا على أرض الأرثوذكسية. فقد أصر ماركس مرارا وتكرارا على أن صراع طبقة ضد طبقة هو صراع سياسي، وان “الاستيلاء على السلطة أصبح بالتالي الواجب العظيم للطبقات العاملة”(76)، ولكن ما هو مضمون هذا الصراع السياسي، وهذا الاستيلاء على السلطة السياسية؟ بالنسبة لماركس كما رأينا، كان هذا المضمون هو تدمير الدولة البرجوازية وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا – كانت كوميونة باريس المثل الملموس لها، أما المقصود بالنسبة لكاوتسكي والحزب الاشتراكي الديمقراطي فهو يظهر بوضوح في تعليق كاوتسكي على البرنامج – صراع برلماني حصرا.. للبرهنة على درجة اختصار إستراتيجية الحزب الاشتراكي الديمقراطي على الناحية البرلمانية، نحتاج للأسف لاقتباس طويل:

مثل كل طبقة أخرى، يجب أن تسعى الطبقة العاملة للتأثير على سلطات الدولة لتثنيها نحو أغراضها – الرأسماليون العظام يستطيعون التأثير على الحكام والمشرعين مباشرة، ولكن العمال يستطيعون ذلك فقط من خلال النشاط البرلماني بانتخاب ممثلين في البرلمان يستطيع العمال بالتالي، ممارسة تأثيرهم على السلطات الحكومية.

إن نضال جميع الطبقات التي تعتمد على النشاط التشريعي في الحصول على التأثير السياسي يتجه في الدولة الحديثة، نحو زيادة قوة البرلمان من ناحية، وزيادة تأثيرهم هم داخل البرلمان من ناحية أخرى. تعتمد قوة البرلمان على طاقة وشجاعة الطبقات التي تقف خلفه وطاقة وشجاعة الطبقات التي يفرض إرادته عليها، يعتمد تأثير طبقة داخل البرلمان، أولا على طبيعة القانون الانتخابي القائم، وهو يعتمد بالإضافة إلى ذلك على تأثير الطبقة المعنية بين الناخبين وأخيراً مدى استعدادها للعمل البرلماني..

البروليتاريا مع ذلك في وضع ملائم للنشاط البرلماني.. نقاباتهم هي مدرسة برلمانية ممتازة بالنسبة لهم، فهي تتيح فرصا للتدرب على القانون البرلماني والخطب الهامة.. وهي تجد فضلا عن ذلك في صفوفها عددا متزايدا من الأشخاص لتمثيلها في القاعات التشريعية.

متى انخرطت البروليتاريا في النشاط الانتخابي كطبقة واعية بذاتها، تبدأ طبيعة الحياة البرلمانية في التغير. إنها تتوقف عن أن تكون مجرد أداة في أيدي البرجوازية. إن هذه المشاركة من جانب البروليتاريا أثبتت نفسها كأكثر الوسائل فعالية لهز أقسام البروليتاريا التي كانت في السابق غير مكترثة، وإعطائها الأمل والثقة. إنها أقوى رافعة يمكن استخدامها لإخراج البروليتاريا من انحطاطها الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي – البروليتاريا بالتالي ليست لديها أي سبب لعدم الثقة في النشاط البرلماني.(77)

تم إقرار هذا التوجه البرلماني كرد فعل للانتصارات الانتخابية الباهرة للحزب الاشتراكي الديمقراطي، فقد ارتفع عدد الأصوات التي حصل عليها من 550.000 (9.7%) في 1884 إلى 1427000 (19.7) في 1890 – وقد مثل هذا التوجه تحولا جازما إلى اليمين عن المواقف السابقة. كتب كاوتسكي في 1881 أن الاشتراكية الديمقراطية ليس لديها أوهام عن إمكانية إنجازها لأهدافها مباشرة من خلال الانتخابات، من خلال الطريق البرلمان، وان الخطوة الأولى في الثورة القادمة ستكون “تدمير الدولة البرجوازية”(78). ولكن منذ تسعينيات القرن التاسع عشر فصاعدا، ظل الطريق البرلماني الإستراتيجية المسيطرة لكاوتسكي والحزب الاشتراكي الديمقراطي معا، هكذا، فعندما يبدو كاوتكسي أثناء المجادلات مع المراجعين، كأنه المدافع عن الثورة فهو دائماً يدافع عن تصور “الثورة البرلمانية” أي أن حزب العمال سيستمر في المعارضة – رافضاً أية ائتلافات أو المشاركة في حكومات برجوازية، حتى يأتي ذلك الوقت الذي يكون فيه، قد حقق أغلبية في البرلمان وشكل الحكومة، وعندئذ يستخدم موقعه لتشريع التحول إلى الاشتراكية.(79) كون أن هذه الإستراتيجية تضمنت الاستيلاء على، وليس تدمير، الدولة الرأسمالية قد أكده كاوتسكي نفسه في سجاله ضد باكونين عام 1912:

هدف صراعنا السياسي يظل كما هو حتى الآن: الاستيلاء على سلطة الدولة من خلال الحصول على أغلبية في البرلمان، ورفع البرلمان إلى وضع قيادي داخل الدولة بالقطع ليس تدمير سلطة الدولة.(80)
من بين دعامات الإستراتيجية البرلمانية كان النظر للانتقال إلى الاشتراكية على انه النتيجة الحتمية بشكل أو بآخر للتطور الاقتصادي، نمو الرأسمالية يعني نمو البروليتاريا، متى نمت البروليتاريا سيرتفع وعيها، وسيعنى هذا أصوات أكثر للاشتراكية الديمقراطية، حتى ذلك الوقت الذي ستوجد فيه أغلبية كأسلحة للاشتراكية. كتب كاوتسكي “أن التطور الاقتصادي.. سيؤدي بشكل طبيعي لتحقيق هذا الهدف”(81)، ستسير العملية كلها بسلاسة وحتمية وبلا صراعات حياة أو موت، بشرط فقط ألا تقع قيادة الحزب في المغامرة وتثير معركة سابقة لأوانها، النشاط الفعلي الوحيد المطلوب هو التنظيم والتعليم:

بناء التنظيم وكسب كل مواقع التي نستطيع كسبها والاحتفاظ بها بشكل آمن من خلال قوتنا الذاتية، ودراسة الدولة والمجتمع، وتعليم الجماهير، لا نستطيع بشكل واعي ومنظم، أن نضع أهدافاً أخرى لأنفسنا أو لمنظماتنا.(82)

السؤال الذي يجب أن نطرحه الآن وفقاً للمنهج الذي تم إقراره في الجزء الأول من هذا المقال هو ماذا كان الأساس الاجتماعي لإيديولوجية التوقع السلبي هذه؟ بمعني من المعاني كانت القاعدة الاجتماعية هي فترة تخفيف حدة التوتر بين البروليتاريا والبرجوازية والتي رافقت ازدهار وتقدم رأس المال الألماني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. في الوقت نفسه مع ذلك عبرت هذه الأيديولوجية داخل هذه الحالة العامة، لا عن مصالح الطبقة العاملة وإنما عن مصالح الشريحة الاجتماعية التي كان وجودها ذاته نتاج هذه الهدنة الاجتماعية، ألا وهي البيروقراطية الواسعة للحزب الاشتراكي والنقابات – جيش الموظفين ذوي الامتيازات – التي نمت لتدير منظماتها الجديدة. أفضل ما يوضح هذا هو موقف هؤلاء الزعماء النقابيين والحزبيين من تلك المسألة الجوهرية في الصراع الطبقي: الإضراب العام، وهي مسألة أصبحت ملحة في ألمانية كنتيجة لدور الإضراب العام في ثورة 1905 الروسية(83). وقف الزعماء النقابيون ضد الإضراب العام بتصلب وفي مؤتمر كولون للنقابات العمالية في مايو 1905 اتخذوا قراراً يدينه إلا أن الحزب في جينيا في سبتمبر 1905 مرر قرارا يوافق على الإضراب العام من حيث المبدأ دون تحديد ما ينبغي عمله إزاءه. وقد تطلب بعد ذلك اندلاع حركة جماهيرية في ساكسوني من أجل توسيع حق الانتخابات حل هذا التناقض عملياً:

في أول فبراير 1906 عقد مؤتمرا سريا لمسؤولي الحزب والنقابات كشف هذا الاجتماع سريعاً توازن القوى الحقيقي بين المنظمتين، استسلم الحزب للنقابات ملزماً نفسه بمحاولة استخدام قوته لمنع الإضراب العام.(84)

وقد تلا ذلك حل وسط في مؤتمر الحزب في مانهايم في سبتمبر 1906 حيث توصلت النقابات والحزب لاتفاق على أساس “الموافقة النظرية المشتركة – على إمكانية اللجوء للإضراب العام في المستقبل غير المحدد ولكن فقط بموافقة زعماء وأعضاء النقابات”(85). كان دور كاوتسكي في هذه العملية هو دور ناقد يساري للزعماء النقابيين، وقد انتقد رؤيتهم الاقتصادية الضيقة – وطالب بسيادة الروح الاشتراكية الديمقراطية في النقابات إلا انه رفض القيام بقطع معهم وهاجم في الوقت نفسه دعاة الإضراب العام الحقيقيين مثل روزا لوكمسبورج، على أنهم “ملفقون للثورة”(86). عندما واجه الاختيار ضحى كاوتسكي بمتطلبات الصراع الطبقي من أجل وحدة المنظمات.

إن بيروقراطية الحركة العمالية هي جزء من البرجوازية الصغيرة، أنها تقف بين العمل ورأس المال ودورها الموضوعي هو دور الوسيط بين الطبقات، فهي بالمقارنة بجماهير العمال، متميزة فيما يتعلق بالدخل وضمان الوظيفة وظروف العمل وأسلوب الحياة إلا أن موقعها وبالتالي سلوكها السياسي مختلف عن البرجوازية الصغيرة التقليدية المكونة من صغار رجال الأعمال، وأصحاب الدكاكين الذين يكونون، وباعتبارهم أصحاب ملكيات فردية، في الأوقات العادية تحت الهيمنة الكاملة للبرجوازية الكبيرة. أما في أوقات الأزمات عندما يكونون معتصرين بين العمل ورأس المال يمكن أن ينجذبوا خلف الطبقة العاملة بواسطة حركة ثورية قوية تظهر عزمها وقدرتها على حل أزمة الرأسمالية. أما في غياب مثل هذه الحركة يمكن أن يذهبوا إلى أقصى اليمين ويكونوا القاعدة الجماهيرية للفاشية. في المقابل فان البيروقراطية العمالية مربوطة تنظيمياً بالطبقة العاملة وبالتالي لا تستطيع كشريحة اجتماعية أن تندفع إلى نفس البعد في اليمينية (وهذا هو السبب في أن نظرية “الفاشية الاجتماعية” مجرد لغو سخيف). إلا أنها في الوقت نفسه تتمتع بعلاقة بالطبقة الحاكمة أوثق كثيراً من علاقة صحاب العمل الصغير بالأخيرة فدورها كممثلة (برلمانية أو نقابية) يجعلها على اتصال يومي مع الرأسماليين ودولتهم، وهي تعتمد في التأييد الجماهيري لها على التنازلات التي تستطيع الحصول عليها منهم وكونها مهددة بالمثل بالفاشية التي ستدمر منظماتها والثورة التي ستدمر دورها التفاوضي يجعلها محافظة بعمق. إنها تخشى قبل كل شئ العمل الجماهيري الذي قد يخرج من اليد ويصيب المنظمات بالاضطراب ويثير هجوماً من الطبقة الحاكمة ويقوض عملها الحساس في الموازاة بين الطبقات. إن حاجتها السياسية هي لأيديولوجية تجمع بين الاشتراكية قولا والسلبية والحلول الوسط فعلا، فهي تحتاج الطبقة العاملة كجيش يمكن دفعه للمعركة للحصول على تنازلات تبقى بدورها على تأييد المنظمات إلا أنها تحتاج الطبقة العاملة تحت سيطرتها. لقد ناسبت أيديولوجية الاشتراكية الديمقراطية الألمانية هذه الحاجات كأنها فصلت لها، كانت ماركسية كاوتسكي نظاماً نظرياً كيف نفسه في كل القضايا لحاجات البيروقراطية.

كان هذا صحيحاً حتى على مستوى الفلسفة. فالمادية الميكانيكية، وهي الرؤية الفلسفية المميزة لكاوتسكي والأممية الثانية ككل، هي كما بينا موقف برجوازي في الأساس، إنها تعامل الطبقة العاملة كمجرد نتاج سلبي للظروف المادية، فهي تستبعد الدور الثوري النشط للعمال وللحزب خاصة.(87)
ومتى تم فهم هذا الأساس الاجتماعي لماركسية الأممية الثانية (وما كان صحيحاً بالنسبة لكاوتسكي والحزب الاشتراكي الديمقراطي كان صحيحاً أيضاً بل وأصح بالنسبة لأغلب الأحزاب الاشتراكية الأخرى)، فان الاستسلام للشوفينية في الحرب العالمية الأولى يصبح مفهوماً. فمن ناحية كانت البيروقراطيات المتعددة قد أصبح لها مصلحة خاصة في ازدهار رؤوس الأموال الوطنية وقوتها الإمبريالية. كلما زاد هذا الازدهار كلما سهل عليهم التفاوض على التنازلات. ومن ناحية أخرى لم يكن في استطاعتهم المخاطرة باتخاذ موقف غير شعبي قد يعرض للخطر شرعيتهم ومنظماتهم وتأييدهم، هكذا في أغسطس 1914 كان تصويت الحزب الاشتراكي الديمقراطي لاعتمادات الحرب خيانة للشعارات الأممية والمعادية للحرب في السنوات السابقة، إلا انه كان أيضاً استمرارا وتتويجا لممارسة سياسية ثابتة.(88)

أن وصف الكاوتسكية بأنها أحد أشكال الماركسية أو أحد جوانب التراث الماركسي هو خلط بين الشكل والمضمون. فمن ناحية المضمون كانت نظريته طبقة أخرى وكان برنشتاين المعادي للماركسية وكاوتسكي “الماركسي” الأرثوذكسي أقرب جدا لبعضهما البعض مما كان أيا منهما بالنسبة لنظرية ماركس الثورية. انهما لم يختلفا حول الممارسة السياسة التي ينبغي القيام بها وإنما حول الوصف الذي ينبغي وصفها به. سنترك الكلمة الأخيرة لكاوتسكي نفسه في نعيه لبرنشتاين عام 1932 كتب أن سجالاتهم عند نهاية القرن كانت مجرد حادث عرضي وانهما وقفا معا أثناء الحرب العالمية وفيما تلا ذلك “تبنيا دائماً نفس وجهة النظر فيما يتعلق بجميع قضايا الحرب والثورة وتطور ألمانيا والعالم”(89).

2 – الستالينية
كانت نقطة انطلاق الستالينية مختلفة جداً عن تلك الخاصة بالكاوتسكية. لقد ظهرت الستالينية داخل الحزب البلشفي في السنوات التالية للحرب الأهلية، وصعدت للقمة داخل الاتحاد السوفيتي خلال صراع مرير داخل الحزب في العشرينيات، وأخيراً حققت السيطرة المطلقة في 28 – 1929. إن نقطة البداية إذاً لتطور الستالينية كانت اللينينية، وهي تطور الماركسية الذي عبر عن وأرشد إلى النصر ثورة العمال في أكتوبر 1917. وأهم خصائص اللينينية هي الصلابة الثورية، والأممية الحادة، وتحليل الإمبريالية والنضال ضدها والإصرار على تدمير الدولة البرجوازية، بواسطة السلطة العمالية القائمة على السوفييتات، ومفهوم الحزب كتنظيم طليعي تدخلي. إلا أن الحالة المادية التي ولدت الستالينية في ظلها كانت تقريباً على عكس تلك المعبر عنها في نقطة بدايتها النظرية. فالطبقة العاملة الروسية، التي كانت في 1917 قد وصلت إلى أعلى مستوى من الوعي والصراع الثوري شهده العالم حتى ذلك الوقت، هذه الطبقة كانت قد توقفت عن الوجود فعلياً بحلول عام 1921 أثناء الحرب الأهلية، كانت الغالبية الواسعة من أكثر العمال نضالية ووعياً سياسياً قد قتلت في المعارك أو رفت إلى وضع مسئولي الدولة، في ظل الأثر المركب للحرب الأهلية، والثورة نفسها والحرب العالمية التي سبقتها، كان الاقتصاد الروسي قد انهار تماماً وانخفض إجمالي الإنتاج الصناعي إلى 31% عن مستواه عام 1913 والإنتاج الصناعي واسع المدى إلى 21% وإنتاج الصلب إلى 4.7% وأصبح نظام المواصلات خرابا، كما احتدمت الأوبئة والمجاعة، وانخفض مجموع العمال الصناعيين من حوالي ثلاثة ملايين في 1917 إلى مليون وربع في 1921، وكان الباقون قد أنهكوا سياسياً. وكما ذكر لينين في 1921:

فقدت البروليتاريا الصناعية في بلادنا وضعها الطبقي، بسبب الحرب والفقر المدقع والخراب،، أي أنها زحزحت من أخدودها الطبقي وتوقفت عن الوجود كبروليتاريا.(90)

وجد الحزب البلشفي نفسه معلقا في الهواء، لكي يدير أمور الدولة كان عليه أن يأخذ ويستخدم جيشاً واسعاً من الموظفين القيصريين، ورغم إرادته “تبقرط” هو نفسه. إن جوهر البيروقراطية هو أساساً هرم من الموظفين غير الخاضعين للرقابة الشعبية من أسفل. وقد كانت في روسيا، القوى الاجتماعية التي اعتمد علهيا الماركسيون (خاصة لينين) لمنع نمو البيروقراطية وهي طبقة عاملة ثورية نشطة كانت قد قطعت من تحت أقدام الحزب. في هذا الوضع، كان من المستحيل تنفيذ البرنامج الماركسي بشكل خالص.
كان من الممكن لفترة القيام بعملية تماسك اعتمادا على الالتزام الاشتراكي الذي اشتد لدى الحرس البلشفي القديم، والتشبث بالأماني الثورية مع القيام بالتنازلات العملية الضرورية (مثل السياسة الاقتصادية الجديدة) وانتظار المعونة من الثورة العمالية. في الجوهر، كان هذا هو الخط الذي سار فيه لينين، إلا أن فشل الثورة العالمية (وقد فشل بالفعل) طرح اختيار صعباً للغاية. إما الاستمرار في الإخلاص لنظرية وهدف الثورة البروليتارية مع إمكانية فقدان السلطة في روسيا أو التشبث بالسلطة والتخلي عن الهدف والنظرية. كان الوضع شديد التعقيد ولم يره المشاركون بهذا الوضوح ولكن في الأساس كانت التروتسكية نتاج الخيار الأول والستالينية نتاج الخيار الثاني.(91)
ولكن الستالينية بالطبع لم تتخل عن اللينينية أو الماركسية بشكل علني، ومن أجل أن تحتفظ بشذا ومكانة اللينينية، كان على الستالينية أن تقوم بعمليتين منفصلتين: أولاً، أن تحول الماركسية اللينينية من نظرية متطورة ذات توجه عملي إلى دوجما ثابتة، معادلة لديانة دولة. يظهر طموح ستالين في هذا الاتجاه بوضوح في القسم اللينيني الذي ألقاه بعد وفاة لينين بقليل:

عندما تركنا الرفيق لينين، أوصانا أن نمسك عالياً لقب عضوية الحزب العظيم ونحتفظ به نقياً، ونحن نعاهدك يا رفيق لينين، أننا سنتشرف بتنفيذ وصيتك هذه.. عندما تركنا الرفيق لينين، أوصانا أن نحرس وحدة حزبنا مثل عيننا، نعاهدك يا رفيق لينين أننا سنتشرف بتنفيذ هذه الوصية أيضاً.. عندما تركنا الرفيق لينين، أوصانا أن نحرس ونقوي ديكتاتورية البروليتاريا.. نعاهدك يا رفيق لينين أننا لن نبخل بجهد في التشرف بتنفيذ هذه الوصية أيضاً.(92)

عبر عن هذه النزعة أيضاً كتاب ستالين أسس اللينينية، وهو تقنين متصلب لمبادئ لينين والكتلة الضخمة من النصوص “الماركسية”، والتعليقات الأكاديمية السوفيتية الرسمية التي استمرت في التدفق من دور نشر الحزب. بهذا الشكل انفصلت الماركسية الستالينية تماماً عن ممارسة الطبقة العاملة وأصبحت بالتالي ميتة تماماً (ليس صدفة أنه باستثناء المعارضين، لم يظهر مفكر ماركسي واحد ذو قدر رفيع في روسيا الستالينية أو روسيا ما بعد ستالين) أما وهي لم تعد مهتمة بتغيير الواقع، فقد أصبحت وظيفتها هي إخفاءه. أصبحت الماركسية الستالينية أيديولوجية بمعنى الكلمة، إذا كان ستالين قد أراد لهذا الغرض أن يبقي اللينينية كما هي، محنطة مثل جسد لينين في ضريحه الفخم، فانه على الرغم من ذلك لم يستطع. فالفجوة بين النظرية والواقع أصبحت من الاتساع بحيث أصبحت بعض التعديلات على النظرية لا غني عنه إذا كان لمجرد مظهر التطابق بينهما أن يستمر.(93) هكذا فقد نشأت عملية ثابتة – مراجعة اللينينية والماركسية بما يتناسب مع الممارسة الستالينية الفعلية كنتيجة ضرورية للعملية الأولى. نستطيع بالتركيز على هذه العملية أن نتناول رؤية أوضح للهيكل الحقيقي للماركسية الستالينية والمصالح التي مثلتها.

لعل أهم هذه التعديلات كان نظرية “الاشتراكية في بلد واحد”، التي عرضها ستالين لأول مرة في خريف 1924. يجب تناول ظهور هذه النظرية من أكثر من زاوية: كيف تم هذا طرحها، لما تم طرحها؟ وما هي المصالح الاجتماعية التي خدمها؟ وما هي نتائجه؟

أولاً: منهج ستالين: مثلت “الاشتراكية في بلد واحد” قطعا درامياً مع الموقف الأممي الذي صاغه ماركس وانجلز منذ 1845 و 1847 (94) وكرره مرارا وتكرارا فيما يتعلق بالثورة الروسية(95). كما أنها تناقضت أيضاً مع ما كتبه ستالين نفسه في أسس اللينينية في إبريل 1924:

المهمة الأساسية للاشتراكية – تنظيم الإنتاج الاشتراكي – تظل أمامنا الآن.. هل يمكن إنجاز هذه المهمة؟.. هل يمكن تحقيق الانتصار النهائي للاشتراكية في بلد واحد دون الجهود المشتركة لبروليتارية عدة دول متقدمة؟ لا إن هذا غير ممكن.(96)

حل ستالين هذا التناقض عن طريق إعادة كتابة هذه الفقرة بحيث يقول العكس، “بعد تعزيز سلطتها وقيادة الفلاحين على طريقها تستطيع بروليتاريا البلد المنتصرة كما يجب عليها بناء مجتمع اشتراكي”(97)، مع منع توزيع الطبقة الاولى. لم يكن هناك تحليل جديد، وإنما مجرد تأكيد لأرثوذكسية جديدة (تم نسبها بأثر رجعي إلى لينين) وبالفعل باستثناء هذه الفقرة الواحدة، ترك باقي النص كما هو في ذلك الفقرات التي عكست بوضوح التصور السابق.(98) ولم يتم تلفيق “تحليلات” لتبرير الخط الجديد إلا في وقت لاحق. لم يكن هذا الإجراء مثلاً منعزلا.. وإنما كان نموذجيــاً .. عندمـا تحولت الاشتراكية الديمقراطية (وفقا لستالين) من حليف (25 – 1927) إلى العـدو الرئيسي ( 28 – 1933) ثم إلى حليف مرة أخرى (34 – 1939) لم يكن تغيير الخط مبنيا على أي تحليل جديد للاشتراكية الديمقراطية. لقد كان هذا التحول ببساطة أمراً رسمياً كان على التحليل أن يكيف نفسه معه فيما بعد. لم يكن سر هذا المنهج هو أن ستالين لم يكن لديه تحليل، وإنما هذا التحليل لم يكن له أن يعلن صراحة لأن معاييره الحقيقية وأهدافه الحقيقية توقفت عن أن تكون الخاصة بالنظرية التي احتفظ التحليل بلغتها.

ما هو إذن السبب الذي دعا ستالين لطرح “الاشتراكية في بلد واحد” في 1924؟ من الواضح أن هذا كان رد فعل (رد فعل انهزامي) لفشل الثورة الألمانية في 1923 والاستقرار النسبي للرأسمالية الذي تلا ذلك.. لم يكن ستالين في أي وقت معنيا كثيراً بالثورة العالمية (لقد كان الأضيق أفقا من بين البلاشفة البارزين)، إلا أن هذا لا يفسر لماذا لم يستمر في التظاهر بالولاء للأممية القديمة. الجواب هو أن الاشتراكية في بلد واحد ناسبت بالضبط حاجات وتطلعات البيروقراطيين المسيطرين على البلاد الآن. لقد اشتاقوا للعمل العادي، غير معقد بمغامرات ثورية دولية. في نفس الوقت كانوا يحتاجون لراية يجمعون أنفسهم حولها، لشعار يحدد هدفهم، وكما قال تروتسكي “الاشتراكية في بلد واحد عبرت بما لا يدع مجالاً للشك عن مزاج البيروقراطية، عندما تحدثوا عن انتصار الاشتراكية كانوا يعنون نصرهم هم”(99). لقد كانت بالنسبة للبيروقراطية ما كانته “كل السلطة للسوفييتات” بالنسبة للطبقة العاملة في 1917.

أدخل ستالين، كما رأينا، نظريته الجديدة بالحد الأدنى من الضجة (بالتحديد لإخفاء جدتها) ولكنها في الواقع مثلت تحولا حاسماً في التوجه كانت له أشد النتائج بعدا في الأثر. لقد انعزل الاتحاد السوفيتي في مواجهة عالم رأسمالي معادي – عالم كان قد برهن بالفعل على تلهفه على خنق الثورة من خلال تدخله في الحرب الأهلية، واستمر كما أكد لينين أقوى اقتصادياً وعسكرياً من الدولة العمالية الفتية. إن إستراتيجية السنوات المبكرة للثورة – إستراتيجية لينين وتروتسكي – تضمنت بالطبع الدفاع العسكري الأشد عزما، ولكنها ركزت في آخر الأمر على تحضير الثورة العالمية لإسقاط الرأسمالية. غيرت سياسة الاشتراكية في بلد واحد هذا التركيز.

وكان الدفاع عن الدولة السوفيتية يتطلب قوات مسلحة مساوية لتلك الخاصة بأعدائها، وفي العالم الحديث كان ذلك يعني صناعة مكافئة وفائض مكافئ. كان انجلز قد استوعب في 1892 هذا الواقع الهام للاقتصاد والسياسة في القرن العشرين:

من اللحظة التي أصبحت عندها الحرب جزءاً من الصناعة الكبيرة (السفن الحديدية، المدفعية الثقيلة، المدافع سريعة الطلقات والرشاشة، البنادق الآلية، الطلقات المغطاة بالصلب، البارود غير المدخن) أصبحت الصناعة الكبيرة التي لا يمكن صنع كل هذه الأشياء بدونها، ضرورة سياسية لا يمكن حيازة كل هذه الأشياء بدون صناعة معدنية شديدة التطور. ولا يمكن حيازة هذه الصناعة بدون تطور مواز في جميع فروع الصناعة الأخرى وخاصة النسيج.(100)

ولم يكن استيعاب ستالين لهذه الحقيقة أقل حدة:

لا يا رفقا.. لا يجب إبطاء السرعة! على العكس، علنيا أن نزيدها بأقصى ما تسمح به قوانا وقدراتنا. إبطاء السرعة سيعني التخلف، والذين يتخلفون يهزمون. لا نريد أن نهزم. لا، لسنا نريد ذلك. في تاريخ روسيا القديمة.. هزمت بلا انقطاع لتخلفها، للتخلف العسكري، والتخلف الثقافي، والتخلف السياسي، والتخلف الصناعي، والتخلف الزراعي.. إننا متأخرين عن البلاد المتقدمة بخمسين أو مائة سنة، يجب أن نعرض هذا التلكؤ في عشر سنوات. إما أن نفعل أو يسحقوننا.(101)

ولكن روسيا كانت فقيرة، شديدة الفقر بالمقارنة بمنافسيها، وإنتاجية العمل فهيا كانت منخفضة. كان تصنيعها يقتضي استنفاراً وإعادة استثمار هائلين، وبدون معونة دولية كان هناك مصدر واحد ممكن لهذا الاستثمار، عمل عمالها وفلاحيها. أصبح من اللازم استخراج فائض ضخم وإعادة استثماره في النمو الصناعي. ولكن حيث أن غالبية السكان كانت تحيا على مستوى ليس أعلى كثيراً من مستوى سد الرمق فلم يكن من الممكن أن يتم استخراج وإعادة استثمار هذا الفائض طوعيا عن طريق القرار الجماعي للمنتدبين المتعاونين. لقد كان ذلك ممكنا فقط من خلال الاستغلال القسري، وتطلب هذا بدوره وكالة لتطبيق هذه العملية – طبقة اجتماعية متحررة من أعباء عملية تراكم رأس المال وان كانت تحصد ثمارها وهي طبقة تلعب نفس الدور التاريخي الذي لعبته البرجوازية في أوروبا الغربية. هكذا، فان نتيجته “الاشتراكية في بلد واحد” عمليا، كانت عكسها المباشر: “رأسمالية الدولة في بلد واحد”.
كان للاشتراكية في بلد واحد نتائج نظرية أيضاً. لم يكن من الممكن حصرها بصرف النظر عن إرادة ستالين، كتعديل طفيف للأرثوذكسية. كانت الغالبية الكاسحة من السكان في روسيا تتكون من الفلاحين وليس العمال. وعلى الرغم من إدراك كلاً من ماركس وإنجلز لإمكانية تحالف ثوري بين العمال والفلاحين لإسقاط الرأسماليين وملاك الأراضي، إلا انهما أصرا دائماً على أن الفلاحين ليسوا طبقة اشتراكية: “الحركة الفلاحية.. ليست صراعا ضد أسس الرأسمالية وإنما صراع لتنقية هذه الأسس من بقايا القنانة”(102). ولكن إذا كانت روسيا بذاتها ستنجز الانتقال إلى الاشتراكية، فقد أصبح من اللازم مراجعة هذا الموقف من الفلاحين. لذلك فلفترة تقدم ستالين وحليفه بوخارين بمفهوم تطور الفلاحين إلى الاشتراكية. عمليا بالطبع، كان الفلاحون قد سحقوا بواسطة التجميع القسري في 1921 – 1933، حيث أنهم كانوا يشكلون عقبة لا أمام الاشتراكية فحسب وإنما أمام رأسمالية الدولة أيضاً، إلا أن ذلك لم يحدث إلى بعد أن أدخل تشويش التمييز بين الطبق العاملة والفلاحين إلى الأيديولوجيا الستالينية.
كانت نظرية الإمبريالية ضحية أخرى. لقد طور هذه النظرية لكمسبورج وبوخارين ولينين كتحليل لآخر مراحل الرأسمالية العالمية، وقد أكدت النظرية قبل كل شئ على أولوية الاقتصاد العالمي على الأجزاء الوطنية المكونة له. وهذا ما ترفضه الاشتراكية في بلد واحد قطعياً. وبالفعل، ففي محاولته الدفاع عن نظريته ضد اعتراضات المعارضة اليسارية بأن ماركس وانجلز كانا قد رفضا صراحة الاشتراكية “الوطنية”. ذهب ستالين إلى انه في حين الاشتراكية في بلد واحد كانت مستحيلة في ظل الرأسمالية الصناعية القائمة أيام ماركس فأنها ممكنة في ظل الإمبريالية التي تتميز بقانون النمو اللامتكافئ(103). بهذه الطريقة فرغت الستالينية النظرية اللينينية حول الإمبريالية من مضمونها التحليلي الحقيقي واختزلتها إلى مجرد العداء للاستعمار، وهذا ليس على الإطلاق موقفا ماركسيا.

أخيراً، خرب منطق الاشتراكية في بلد واحد النظرية الماركسية حول الدولة. ففي عام 1934 كان ستالين يدعي أن الاشتراكية قد تحققت في روسيا. كان هذا على أساس أنه مع تحول الفلاحين إلى موظفين لدى الدولة، لم تعد الطبقات قائمة ولم تكن البيروقراطية بالطبع، بالنسبة لستالين طبقة. كان مصير الدولة في ظل الاشتراكية، وفقا للماركسية، هو الزوال. إلا أن دولة ستالين لم يكن لديها أدنى نية للزوال، وكان هذا واقعا. لم يكن لأي مقدار من الدعاية أن يخفيه. عالج ستالين هذا التناقض الخاص عن طريق تأكيد أن ماركس وانجلز كانا قد توقعا زوال الدولة لأنهما رأيا الاشتراكية كظاهرة عالمية. في حين أن الاشتراكية عندما توجد في بلد واحد فقط فان هذا الأمر يقتضي تقوية الدولة(104). هذه الحجة من النوع الذي يدور في حلقة مفرغة. والذي يكون مقنعاً تماماً عندما يكون الشخص الذي يشير إلى الطابع الدائري للحجة مرشحاً للإعدام رمياً بالرصاص. فإذا كانت هذه الحجة قد بررت وجود الدولة، فقد تركت بلا حل الطابع الطبقي لهذه الدولة. لم يكن ممكنا أن تكون دولة عمالية تحديدا. إذا كانت روسيا مجتمعا لاطبقيا وقد كان بالضبط متضمنا في الادعاء بأن روسيا اشتراكية. الحل الوحيد كان القول بأن الدولة السوفيتية قد أصبحت دولة “الشعب كله” وهو رأي برجوازي تماماً حول الدولة وقد هاجمه ماركس بقوة في نقد برنامج جوته وكذلك لينين في الدولة والثورة. فضلاً عن ذلك كان هذا رأياً حول الدولة تبنته البيروقراطية الستالينية لنفس السبب بالضبط الذي دعا البرجوازية دائماً لرؤية دولتها على أنها دولة الشعب كله، وهذا السبب هو رفضها الاعتراف بوجودها كطبقة حاكمة.

ومن المفيد عند هذا الحد أن نشير إلى نقاط التشابه والاختلاف الأيديولوجي بين الستالينية والكاوتسكية. لقد تضمنت الاثنتان فصلا منظماً بين النظرية والممارسة على نقيض هدف وحدة النظرية والممارسة، وأظهرت الاثنتان تعلقاً قوياً بالدولة على نقيض هدف وحدة النظرية والممارسة، وأظهرت الاثنتان تعلقا قويا بالدولة على نقيض العداء الحاد لها من جانب ماركس ولينين. كما سقطت الاثنتان من الأممية إلى الوطنية. ومع ذلك فان الاختلافات ليست أقل لفتا للنظر. قضت الكاوتسكية على ثورية وحدة الماركسية في النظرية أولاً ثم في الممارسة وتحدثت عن الثورة الاجتماعية “من خلال البرلمان” ومارست التوفيق مع البرجوازية، أما الستالينية فقد احتفظت بخطابة أكثر ثورية ومارست عكس هذه الخطابة تماما، فقد تحدثت عن الثورة وعن ديكتاتورية البروليتاريا وفي نفس الوقت مارست القمع السافر للطبقة العاملة. لقد انجذبت الكاوتسكية إلى سلطة الدولة وانبهرت بها، وبالتالي لم تكن راغبة في التفكير في تدميرها، أما الستالينية فقد طورت نظاماً دينياً إيجابياً يقدس الدولة. وعلى حين أن ديكتاتورية البروليتاريا عند ماركس ولينين كانت بالفعل “شبه دولة” أو ليست دولة بالمعنى السليم للكلمة(105)، فبالنسبة للستالينية كان الطريق الاشتراكي (وحتى الشيوعية) يكمن في تقوية الدولة بلا نهاية. سلمت الكاوتسكية للوطنيين في 1914 والخجل يبدو على وجهها وتحت غطاء شعارات “السلام” أما الستالينية فبإقحامها الوطنية على الماركسية رسميا من خلال “الاشتراكية في بلد واحد”، انحطت إلى الشوفينية الروسية الأكثر فجاجة إلى درجة تعظيم الماضي الإمبريالي القيصري لروسيا(106).

عكست نقاط التشابه والاختلاف هذه التشابه والاختلاف في القواعد الاجتماعية للأيديولوجيتين. كانت الاثنتان أيديولوجيتين لبيروقراطيتين صعدتا من حركة الطبقة العاملة، ولكن في حالة الكاوتسكية وقفت البيروقراطية في منتصف الطريق بين البروليتاريا والبرجوازية، في حين أن البيروقراطية الستالينية – ممع فناء البرجوازية القديمة والقضاء عليها فعليا كطبقة – وجدت نفسها في الواقع في السلطة. ظهرت الكاوتسكية بالتالي بمظهر ماركسية معتدلة، حذره تدفع إلى الأمام عناصر الماركسية المقبولة من البرجوازية(107)، وفي حين أن الستالينية أخذت شكل “ماركسية” عنيدة، قاسية، غير معنية بمشاعر البرجوازية، فإنها قد حولت مضمون هذه النظرية إلى عكس التام، ومع ذلك، فمثلما أن ما هو مشترك بين الكاوتسكية وبين خصمها برنشتاين كان أكثر مما بين الكاوتسكية والماركسية، فان الستالينية في الجذور ورغم كل إدانتها اللفظية، كانت أقرب بكثير للكاوتسكية منها إلى النظرية الثورية لماركس ولينين.

يصبح التوازي مع الاشتراكية الديمقراطية أوضح عندما نختبر الستالينية كظاهرة عالمية. فحتى الآن، تركز انتباهنا على الستالينية داخل روسيا، إلا أنها كانت ذات تأثير عظيم خارج حدود روسيا أيضاً، أولاً وأساساً من خلال أحزاب الأممية الشيوعية (الكومنترن) والتي استوعبت جميعها سريعاً الرؤية العالمية الستالينية. منذ البداية، سيطر الروس على الكومنتون، وهو شيء متوقع حيث انهم (الروس) كانوا مؤسسة وكانت تقف خلفهم السلطة المستمدة من الثورة الناجحة. إلا أن السنوات الأولى شهدت جدلاً كاملاً وحراً، وكان الزعماء الشيوعيون الغربيون قادرين على تحدي الروس حتى لو تغلبت في النهاية وجهة نظر الأخيرين. ومع ذلك فان هزيمة الموجة الثورية الأوروبية بين 1919 و 1923 قللت من ثقة الأحزاب الغربية وشددت على إحساسهم بالدونية إزاء الروس الذين كان يبدو أنهم منتصرين. إن هذا فضلاً عن الاستخدام المتزايد للضغط البيروقراطي والمساعدات المادية أكد وكشف السيطرة الروسية على الكومنتون إلى الدرجة التي سمحت باستخدامه لتحويل الأممية بشكل جوهري عن غرضها الأصلي وهو الثورة البروليتارية العالمية. كان الوسيط الأيديولوجي الذي تحقق من خلاله هذا التحول هو نظرية الاشتراكية في بلد واحد مرة أخرى، فإذا كانت المهمة الأساسية، وهي تحقيق الاشتراكية يمكن إنجازها في بلد واحد، فان الثورة العالمية إذن قد أصبحت إضافة اختيارية، هدف بعيد يهرب المرء عن ولاءه له بين الفينة والأخرى، وليس ضرورة فورية ترشد النشاط العملي. إحدى نتائج ذلك كانت تحويل دور الأحزاب الشيوعية إلى “حرس الحدود” للدولة السوفيتية. كان واجبهم الأول هو عرقلة أي إمكانية تدخل عسكري ضد روسيا. ومن أجل هذا الهدف حملوا على العمل كجماعات ضغط إصلاحية على برجوازياتهم مقللين من أهمية السياسة الثورية خوفاً من تنفير الأصدقاء والحلفاء المحتملين.

كانت الثمار الأولى لهذا التوجه هو إخضاع الحزب الشيوعي الصيني للكومينتانج الوطني البرجوازي “التقدمي” وهو ما أسفر عن تحطيم ثورة 1925 – 1927 الصينية بواسطة نفس الكومينتانج، وإخضاع الحزب الشيوعي البريطاني لزعماء “اليسار” في المجلس العام لاتحاد نقابات العمال الذين كانوا في نفس الوقت يقفون كأصدقاء للاتحاد السوفيتي في اللجنة النقابية الانجلو – سوفيتية ويخرنون إضراب 1926 العام. تضمنت الثمار اللاحقة الجبهات الشعبية في أواسط الثلاثينات والتي ضحت بالثورة الأسبانية (وبالتالي بالجمهورية الأسبانية) لفرانكو، من أجل تحالف سوفيتي محتمل مع بريطانيا وفرنسا الديمقراطيتين البرجوازيتين، كما تضمنت هذه الثمار أخيراً حل الكومنترن نفسه في 1934 إظهار لحسن النوايا تجاه الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

إلا أن التحكم في أحزاب الكومنترن بهذه الطريقة لم يكن ممكناً بدون تحويل هذه الأحزاب تنظيمياً وأيديولوجياً أيضاً. كان أغلبية أعضاء الأحزاب الشيوعية بلا شك عمالاً مخلصين انضموا لأحزابهم من أجل إسقاط الرأسمالية. وإذا كانوا قد قبلوا “الاشتراكية في بلد” واحد نظرياً فقد كان ذلك تحديداً لأنهم لم يفهموا استتباعاتها، فضلاً عن ذلك كان وضعهم الطبقي سيدفعهم باستمرار للعمل بطرق تتجاوز دور حرس الحدود السوفيت وبالتالي، فقد أقتضي الأمر فرض هذا الدور عليها من خلال تخليص أحزاب الكومنترن من سيطرة أعضائها وأصبح من الضرورية بقرطة هذه الأحزاب عن طريق وضع هرم من السمؤولين على رأسها يمكن الاعتماد عليهم في إخضاع مصالح الطبقة العاملة (ومصالح العمال الأعضاء في هذه الأحزاب نفسها) لمصالح البيروقراطية الحاكمة في روسيا، من خلال القوة والمكانة والأموال المتوفرة لديها. لم يكن من الصعب على الستالينية إنجاز هذه المهمة – وبنهاية العشرينات – كان الكومنترن وأحزابه تحت السيطرة التامة لقيادات ستالينية يعتمد عليها تماما. على أنه ينبغي أن يفهم أن هذه العملية كانت لها حدود طبيعية. فإذا كان لأحزاب الكومنترن أن تكون حرس حدود فعال، أكثر فعالية من الهيئة الدبلوماسية السوفيتية، فيتعين إذن أن تمتلك بعض القوة عن طريق التأييد الجماهيري لها، ولأسباب تاريخية كان لهذا التأييد أن يأتي أساساً من الطبقة لعاملة، لكسب هذا التأييد والاحتفاظ به كان على هذه الأحزاب أن تكون مستجيبة إلى حد ما لحاجات هذه الطبقة. هكذا فمثلما أن البيروقراطية الاشتراكية الديمقراطية تتوسط بين البروليتاريا والبرجوازية لمصلحة الأخيرة، فان بيروقراطية الأحزاب الشيوعية توسطت بين مصالح البروليتاريا المحلية في بلاد تلك الأحزاب ومصالح رأسمالية الدولة الروسية لمصلحة الأخيرة أيضاً. في نفس الوقت، مع ذلك ولدت الاشتراكية في بلد واحد نزعة ثانية، ومتناقضة، داخل الشيوعية الدولية، فبوصفها نظرية وطنية منطبقة على روسيا، فتحت الباب للوطنيين داخل كل حزب شيوعي وكما طرحها تروتسكي في ذلك الوقت:

إن كان ممكنا تحقيق الاشتراكية في بلد واحد، إذن فالمرء يستطيع أن يتقد في هذه النظرية ليس فقط بعد وإنما قبل الاستيلاء على السلطة. إذا كانت الاشتراكية ممكنة التحقيق داخل الحدود الوطنية لروسيا المتخلفة، فهناك إذن أسباب أقوى للاعتقاد بإمكان تحقيقها في ألمانيا المتقدمة.. ستكون تلك هي بداية تفكك الكومنترن وفقاً لخطوط الوطنية الاجتماعية.(108)

في البداية ظلت هذه النزعة الوطنية نائمة. حيث غطى عليها الولاء لروسيا ولكن عملية العمل كحرس حدود سوفيتي، وبناء جسور للبرجوازية الوطنية في البلاد المتخلفة (الصين) أو الزعماء النقابيين الإصلاحيين (بريطانيا) أو البرجوازية الديمقراطية (الجبهات الشعبية في أسبانيا وفرنسا)، هذه العملية ذاتها قوت العدوى الوطنية، لقد ظهر خضوع النزعة الوطنية لنزعة حرس الحدود حتى الحرب العالمية الثانية من خلال الموافقة العامة للكومنترن على الخط السوفيتي القائل بأن هذه الحرب كانت حربا إمبريالية (وهو خط أملاه تحالف ستالين المؤقت مع هتلر). حصلت النزعة الوطنية بعد ذلك على دفعة هائلة من التحول السوفيتي في 1941 (والذي سببه الغزو الألماني لروسيا) إلى الخط القائل بأنها كانت حرباً شعبية ضد الفاشية تطلبت التوقف الكامل لصراع الطبقة العاملة المستقل واقتضت من الشيوعيين العمل كوطنيين من الدرجة الأولى.

نمت بعد الحرب النزعة الوطنية حثيثا. في تلك البلدان التي وصلت فيها الأحزاب الشيوعية للسلطة بجهودها الخاصة (الصين، يوجوسلافيا، ألبانيا) انتصرت بالكامل أسفرت عن قطيعة صريحة مع موسكو، ولكنها ظلت أضعف في تلك الأحزاب التي وضعت في السلطة بواسطة الجيش الأحمر (بولندا، المجر، ألمانيا الشرقية) وفي الأحزاب التي كانت ضعيفة أو مضطهدة أو منفية وبالتالي اعتمدت على الرعاية السوفيتية (مثل اليوناني والبرتغالي). لقد أصبحت النزعة الوطنية مسيطرة في الأحزاب ذات القاعدة الجماهيرية الضخمة في الطبقة العاملة والتي طمحت في دور في الحكم (الحزب الإيطالي على الأخص)(109) كانت ظاهرة الشيوعية الأوروبية هي الانعكاس الأيديولوجي لهذه العملية.
لندع الآن جانبا للحظة مسألة الستالينية في البلدان المتخلفة ونتناول بالعرض العناصر التي تتبعناها في تطور الستالينية الغربية: سياسة جماعات الضغط الإصلاحية والاعتماد على زعماء النقابات والتحالفات مع “يسار” البرجوازية والوطنية والمنظمات البيروقراطية. ما هذا إن لم يكن نسخة كربونية للعناصر التي كونت الاشتراكية الديمقراطية؟ لا يجب التعجب إذن من أن المواقف الأيديولوجية للستالينية الغربية مثل الطرق البرلمانية الوطنية للاشتراكية والرفض الصريح لديكتاتورية البروليتاريا.. الخ، أصبحت بشكل متزايد غير قابلة للتمييز عن تلك الخاصة بالاشتراكية الديمقراطية. بل أن التوازي يمتد للتقسيم إلى شيوعية أوروبية يسارية ويمينية. الشيوعية الأوروبية هي عودة بدرجة أو بأخرى للكاوتسكية من حيث تصورها لانتقال برلماني سريع بدرجة أو بأخرى إلى الاشتراكية يؤيده ضغط جماهيري بالطبع(110). إن الشيوعية الأوروبية اليمينية مساوية بدرجة أو بأخرى للكاوتسكية من حيث تصورها لشئ أكثر راديكالية من الائتلافات (المساومة التاريخية الإيطالية) وهي بالتالي على يمين الجناح اليساري للاشتراكية الديمقراطية التقليدية. (قارن بين المواقف الحالية “للماركسي” اريك هوبسباوم وغير الماركسي توني بين في بريطانيا).

ختاماً، اتخذت الماركسية الستالينية شكلين الأول في روسيا كانت أيديولوجية البيروقراطية المضادة للثورة التي أقامت نفسها باسم الاشتراكية كطبقة حاكمة في ظل رأسمالية الدولة. الثاني في أوروبا أساساً، تطور من أيديولوجية الوكلاء البيروقراطيين لروسيا إلى أيديولوجية قسم من بيروقراطية الحركة العمالية لصالحها هي. هذان الشكلان مختلفان ولا يمكن ببساطة المساواة بينهما، ولكن فيما يتعلق بالمسألة الجوهرية وهي ثورة العمال الأممية والتحرر للطبقة العاملة العالمية فانهما متحدان في معارضتهما. ليس أي منهما جزءاً بأي معنى من التراث الماركسي الحقيقي.

3 – وطنية العالم الثالث
كان لينين أول ماركسي يدرك أهمية حركات التحرر الوطني في العالم الثالث. فقد أوضح في تحليله للإمبريالية: “الاستعباد الكولونيالي والمالي للغالبية الواسعة من سكان العالم بواسطة أقلية محدودة من أغنى البلاد الرأسمالية وأكثرها تقدماً”(111). كما اظهر أن هذا الاستعمار سيثير حتما موجة من ثورات وحروب التحرير. ما تصوره لينين كان تحالفاً عالمياً بين الثورة البروليتارية في الغرب وحركات التحرر الوطني في الشرق، لسحق الإمبريالية بحركة كماشة. لذا فقد أصر على الأهمية القصوى لتأييد الشيوعيين لهذه الحركات الوطنية خاصة في الصراعات ضد “إمبرياليتهم”.

في نفس الوقت، أدرك لينين أن هذه الإستراتيجية تحمل معها خطر تشويش التمييز الماركسي “بين مصالح الطبقات المضطهدة ومصالح جماهير العاملين والمستغلين والمفهوم العام للمصالح الوطنية ككل، والذي يعنى ضمنا مصالح الطبقة الحاكمة”(112). وبالتالي فقد أكدت أطروحات لينين حول هذه المسألة في المؤتمر الثاني للكومنترن على ما يلي:

الحاجة لنضال صارم ضد محاولات إعطاء لون شيوعي لتيارات التحرير الديمقراطية البرجوازية في البلاد المختلفة… يجب أن تدخل الأممية الشيوعية في تحالف مؤقت مع الديمقراطية البرجوازية في البلاد المستعمرة والمتخلفة ولكن عليها ألا تندمج معها، وعليها تحت كل الظروف الحفاظ على استقلالية الحركة البروليتارية حتى لو كانت في أكثر أشكالها جنينية.(113)

حذر لينين أيضاً من الخداع الذي تمارسه القوى الإمبريالية باستمرار لإقامة دول مستقلة سياسياً من الناحية الصورية، ولكنها تابعة بالكامل من الناحية الاقتصادية والعسكرية. فقد كان استنتاجه كما يلى:

في ظل الظروف العالمية الحالية لا يمكن إنقاذ الأمم التابعة والضعيفة إلا باتحاد جمهوريات سوفيتية… لا يمكن تحقيق انتصار كامل على الرأسمالية إلا إذا قامت البروليتاريا، ومن خلفها جماهير العاملين في كل البلاد والأمم في العالم بالكفاح الواعي من أجل التحالف والوحدة.(114)
في ظل حكم ستالين، مع ذلك، سارت سياسة الكومنترن، والتي أملتها الحاجة لكسب أصدقاء للاتحاد السوفيتي، في نفس الاتجاه الذي حذر منه لينين. كانت الصين المثال الكلاسيكي بالطبع، حيث لم يكتف الحزب الشيوعي الصيني بالانضمام لحركة الكومنتانج الوطنية البرجوازية فقط بل وافق على فرض حظر على نقد مبادئ مؤسسها – صن يات صن – وسلم قائمة عضويته لقيادة الكومنتانج، ونصب شانج كاي شيك عضواً شرفياً في الأممية الشيوعية. وحصلت عملية إعطاء الحركات الوطنية “لونا شيوعياً” ودمج الشيوعية مع الوطنية البرجوازية على تكثيف إضافي بعد الحرب العالمية الثانية عندما أصبح هاماً في صراع الاتحاد السوفيتي العالمي مع الولايات المتحدة(115). بحلول الخمسينات والستينات، أصبحت من ناحية كل الأنظمة والحركات الوطنية في العالم الثالث تسمي نفسها “اشتراكية” كما ادعي كثير منها الماركسية، ومن ناحية أخرى أصبحت قطاعات عريضة من اليسار في البلاد المتقدمة، بما في ذلك اليسار غير الستاليني وبما في ذلك بعض ذوي الأصول التروتسكية، تنظر لحركات التحرر الوطني وللثورة الاشتراكية على انهما متطابقان عملياً.

تتسم حركات التحرير هذه بالتحديد لأنها وطنية، بالتنوع الشديد في الممارسة والنظرية بحيث أن أيا منها لا يصلح للتحليل “كممثل” للباقين (كما كان ممكناً للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني بالنسبة للأممية الثانية) في نفس الوقت، لا يمكن مناقشة كل أو حتى عدد من الأنظمة الأيديولوجية المتمخضة عن هذه الحركات بحكم حدود المساحة. ما نقترحه بالتالي هو فحص “ماركسية” العالم الثالث الوطنية من خلال ما أصبح الصفة المركزية لكل تجسيداتها تقريباً وهى حرب العصابات من أجل الاستقلال الوطني، مع إشارة خاصة للصين وكوبا، الحالتين الأكثر نقاء لهذا النوع من الثورات. كما أن لهما أهمية إضافية تتمثل في انه في حين بدأت الماوية داخل الستالينية ثم طورت إستراتيجيتها المستقلة ومارست قطيعة مع روسيا بعد أن وصلت إلى السلطة، فان الكاستروية (نسبة إلى فيدل كاسترو) بدأت غير شيوعية وغير ماركسية لكي تتحرك إلى المعسكر السوفيتي وتتبني أيديولوجية “ماركسية” بعد أن وصلت إلى السلطة فقط. إن هذا الأسلوب – على الرغم من قصوره – كفيل رغم ذلك بكشف جوهر هذا النوع من “الماركسية” أي أساسه الطبقي.

تتضمن حرب العصابات أولاً، نقل مركز الصراع الثوري من المدينة إلى الريف. وكان ماو تسى تونج أول ماركسي يتخذ هذه الخطوة وقد فعلها كرد فعل لسحق الطبقة العاملة الصينية بواسطة الكومنتانج في 1927. كان الدافع هو إنقاذ بقايا الحزب الشيوعي من الحكم الإرهابي ل “شانج كي شيك” في المدن(116). وقاد ذلك ماو إلى كيانجسي أولاً ثم، عندما هوجم بالقوة، إلى “المسيرة الطويلة” الهائلة إلى بيينان في الشمال الغربي، إحدى أكثر أجزاء الصين تخلفاً ونأيا. هذا الاعتبار العملي – الصعوبة الأكبر التي يواجهها الجيش والبوليس في تعقب الثوار في الريف – ظلت له أهمية كبرى بالنسبة لدعاة حرب العصابات. هكذا فان تشي جيفارا، بعد أن يعلن بان “حركات العمال غير المشروعة تواجه صعوبات هائلة” يكتب بأن “الوضع في الريف المفتوح ليس بهذه الصعوبة. هناك في الأماكن التي لا تطولها قوات القمع، يمكن تأييد السكان بواسطة العصابات المسلحة”(117).

إلا أن حرب العصابات لا تعنى فقط تحولا في موقع الصراع، وإنما أيضاً تحولا في مضمونه الاجتماعي. لا يستطيع العامل أن يصبح جندياً في حرب العصابات إلا إذا توقف عن أن يكون عاملاً، وبالنسبة للطبقة العاملة ككل أو حتى بالنسبة لقسم هام منها فان حرب العصابات هي استحالة واضحة. على أى طبقة اجتماعية إذن أن تحل محل الطبقة العاملة كفاعل الثورة؟ الجواب الأساسي لمنظري حرب العصابات هو: الفلاحون!(118)

لقد ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال بالفعل ما يزيد عن الكفاية لبيان أن مثل هذا الاستبدال بالفلاحين للبروليتاريا ليس متسقاً مع الماركسية، ولكن من المفيد التأكيد على أن الأمر ليس على الإطلاق مجرد مناقضة لآراء محددة لماركس ولينين حول القدرات الثورية للفلاحين. إن البروليتاريا بالنسبة للماركسية، كما أظهرنا، هي الجوهر. الطبقة العاملة ليست أداة الثورة، وإنما الثورة هي أداة الطبقة العاملة. لان الطبقة العاملة ترتبط كما تجسد قوى وعلاقات الإنتاج التي يمكن أن تحمل الإنسانية إلى الأمام نحو مرحلة أعلى للمجتمع لا توجد فيها طبقات.

هكذا، فمثلما انه كان من المستحيل إقحام مفهوم الاشتراكية في بلد واحد على الماركسية دون أن يحتم ذلك سلسلة كاملة من المراجعات التي تتبع ذلك، فان نظرية الثورة الاشتراكية الفلاحية تحطم هيكل المادية التاريخية بأكمله. فالفلاح ليس هو نتاج لعلاقات إنتاج رأسمالية وإنما ما قبل رأسمالية. إذا كان الفلاحون هم الطبقة الاشتراكية، إذن فأن الثورة الاشتراكية كان من الممكن أن تحدث في أي وقت في الألف سنة الأخيرة. وتكون الرأسمالية والثورة الصناعية في هذه الحالة مراحل غير ضرورية في التاريخ الإنساني ويكون قد تم التخلي تماماً عن الدور التحديدي لتطور قوى الإنتاج. كل ما هو مطلوب هو قوة الإرادة والأفكار السليمة. يظهر هذا المفهوم بالضبط في حجج الماويين، ورفاق طريقهم المثقفين مثل شار بتلهايم، القائلة بأن الاشتراكية يمكن بناؤها في الصين أو غيرها مهما كانت نقطة البداية الاقتصادية متخلفة وفقيرة بشرط سلامة القيادة السياسية(119). كما يبدو هذا المفهوم أيضاً في موقف كاسترو – جيفارا – ديبريه القائل بعدم ضرورة انتظار نضج الظروف الموضوعية للثورة، لان الثوريين (رجال حرب العصابات) يمكنهم خلقها بأنفسهم(120) – النتيجة ليست مادية ماركسية وإنما مثالية مفرطة.

إحدى محاولات تجاوز هذه المشكلة، والتي حاولها، مثل ماو، الذين شعروا ببعض الانتماء الأيديولوجي للتراث الماركسي (كما عكسته الستالينية) كان الحديث دائماً عن “قيادة بروليتارية” للفلاحين(121). ولكن حيث أن البروليتاريا لم تلعب أي دور على الإطلاق في الثورة الصينية (كتب ماو في 1949: يرجي أن يستمر العمال والموظفون في كل المهن في العمل وان يستمر العمل كالمعتاد)(122) فان هذا لا يمكن أن يعني سوى قيادة الحزب “البروليتاري”. وحيث أن الحزب الشيوعي الصيني لم يكن به عملياً أعضاء من الطبقة العاملة (123)، فان هذا بدوره لا يمكن أن يعني سوى قيادة الأيديولوجية “البروليتارية”. مرة أخرى نعود للمثالية. الأيديولوجية، منفصلة عن قاعدتها الاجتماعية تتحول إلى طبقة اجتماعية أخرى وتقوم افتراضياً بإعادة تشكيلها.

في الواقع إن المثالية المتطرفة والنوع الفج منها، نظرية “الرجل العظيم” راسخة في الماوية. تتراوح الأمثلة من تصور أن الاتحاد السوفيتي انتقل من ديكتاتورية البروليتاريا إلى دكتاتورية البرجوازية مع تغير الزعامة من ستالين إلى خروشوف، إلى استخدام المصطلحات الطبقية (برجوازي – مالك أرض – الخ) كأوصاف أخلاقية(124)، إلى العبادة السخيفة لفكر ماو تسي تونج، وعبادة ماو نفسه “موجة الدفة العظيم” و “الشمس التي لا تغيب أبداً”(125).

من المهم ملاحظة انه على حين أن عبادة ستالين ظهرت فقط بعد وصوله للسلطة، فان عبادة ماو تعود إلى ما قبل الاستيلاء على السلطة. ذلك لان الطبقة العاملة لن تتسامح مع قائد غبي وبالتالي فقط على ستالين أن يستحق الطبقة العاملة قبل أن يفرض عبادته، في حين أن الثورات القائمة على الفلاحين عادة ما تعتبر قادتها نصف مقدسين. بالفعل ليس على المرء إلا أن يفكر في عبادة كيم ايل سونج – وهو شي منه – وفيدل كاسترو – وشي جيفارا لكي يرى أن هذه المثالية الفجة ليست فقط من الخصائص المشتركة لماركسيات التحرر الوطني وإنما أيضاً خاصية يشتركون فيها مع حركات وطنية غير ماركسية صراحة (مثل غاندي وصن يات صن).

إننا هنا نجد ماركس مقلوباً على رأسه. ليس الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي، وإنما الوعي الاجتماعي (الزعامة) هي التي تحدد الوجود الاجتماعي. إذ لو كان منظرو حرب العصابات متسقين لتنصلوا من الماركسية تماماً. بالفعل إذا كان الادعاء المركزي لهؤلاء المنظرين – إن حرب العصابات هي الطريق للاشتراكية – صحيحاً تكون الماركسية إذن قد فندت في أهم أطروحاتها وأكثرها جوهرية. ومع ذلك فإذا تركنا جانبا لهذه اللحظة فكرة أن الصين وكوبا وفيتنام الخ.. هي أنظمة اشتراكية، فان الطابع المثالي لنظريات حرب العصابات يشير فوراً إلى أن العلاقة بين جيش العصابات والفلاحين ليست على الإطلاق كما يدعي: لان المثالية نفسها لها جذور اجتماعية – وجود طبقات أو شرائح تصل، من خلال أنها تحيا من عمل الآخرين، إلى الاعتقاد بأن أفكارها هي مفتاح المجتمع.

لتوضيح هذه المشكلة من الضرورية أن نعود لتحليل ماركس للفلاحين الفرنسيين في الثامن عشر من برومير – لويس بونابارت:

الفلاحون ذوو الملكيات يشكلون جمهوراً واسعاً يحيا أعضاؤه في ظروف متشابهة ولكن دون الدخول في علاقات متعددة فيما بينهم فخط إنتاجهم يعزلهم عن بعضهم البعض بدلاً من أن يدخلهم في علاقات متبادلة.. بمقدار ما تحيا ملايين العائلات في ظروف معيشية اقتصادية تفصل خط حياتهم وثقافتهم عن تلك الخاصة بالطبقات الأخرى وتضعهم في موضع الرفض العدائي للآخرين فانهم يشكلون طبقة بمقدار ما أن هناك فقط اتصال محلي فيما بين هؤلاء الفلاحين ذوي الملكيات الصغيرة، وان وحدة مصالحهم لا تؤدي إلى تعاون ولا رابطة وطنية ولا تنظيم سياسي فيما بينهم، فانهم لا يشكلون طبقة. انهم بالتالي غير قادرين على فرض مصالحهم الطبقية باسمهم هم… انهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم وإنما ينبغي تمثيلهم. يجب أن يظهر ممثلهم في ذات الوقت كسيدهم كسلطة فوقهم، كقوة حكومية غير محدودة تحميهم ضد الطبقات الأخرى وترسل لهم المطر والشمس من السماء.(126)

وضع ماركس هنا إصبعه على الخاصية الجوهرية للفلاحين والتي تحددها الظروف الاجتماعية لوجودهم، عدم قدرتهم على التحرر الذاتي. يستطيع الفلاحون أن يحاربوا، وهم يفعلون ذلك بجسارة ولكنهم لا يستطيعون أن يكونوا الطبقة الحاكمة في المجتمع. يمكن للقرية أن تهزم المدينة في أي عدد من المعارك، ولكنها لا تستطيع أن تكسب الحرب، لأن القرية لا تستطيع أن تدير المدينة حيث توجد القوى الإنتاجية. كان هذا صحيحاً عند “وات تيلر” في 1381، و “اميليو زاباتا” في المكسيك، والانتفاضات الفلاحية التي لا تحصى على مدار التاريخ الصيني(127). لكي تتماسك كقوة سياسية وطنية تحتاج طبقة الفلاحين قايدة طبقة أو قسم من طبقة مدينية خارجية. بالنسبة للينين وماركس وتروتسكي كان مقدرا لهذه القيادة أن تكون الطبقة العاملة “ليس بالذهاب إلى الريف” وإنما بالقتال لإسقاط الدولة في المدن. بالنسبة لماو وكاسترو وشركائهم، كانت القيادة هي كوادر وقادة جيش العصابات الذين يأتون (ولم يكن من الممكن جلبهم من مصدر آخر) تقريباً بالكامل من الانتلجنسيا المدنية.

ما هي العلاقة بين القيادة والفلاحين في حرب العصابات؟ أولاً جنود جيش العصابات سيكونون في غالبيتهم الساحقة فلاحين من حيث التكوين، إلا أن أقلية ضئيلة فقط من الفلاحين ستشارك بهذه الطريقة (في كوبا، كانت قوات كاسترو المسلحة تبلغ بضعة آلاف بالكثير، في الصين كانت الأعداد هائلة 300 ألف في بداية المسيرة الطويلة، 20 ألف في نهايتها، وبضع ملايين في أشد أوقات الحرب – ولكن كانت مع ذلك نسبة ضئيلة من بين 500 مليون فلاح صيني). وحيث أن جوهر حرب العصابات هو قابلية الحركة السريعة وتكتيكات الكر والفر تجعل ذلك لا مفر منه، وتتضمن هذه التكتيكات أيضاً أن فلاح العصابات يتوقف عن أن يكون فلاحاً ويصبح جندياً محترفاً، تنفصل أعماله وأيديولوجيته عن أصلها الطبقي ويعاد تشكيلها تحت النظام العسكري بواسطة قيادة الجيش الآتية من الطبقة المتوسطة. العلاقة إذن مختلفة تماماً عن تلك القائمة بين العمال في حزب لينين حيث يستمر الأعضاء العمال عمالاً وحيث يشترط في اشتراك المثقفين، وهو أمر ضروري، أن يقبلوا بوجهة نظر وقواعد النضال البروليتاري.(128)
العلاقة بين جيش العصابات والفلاحين ككل مختلفة تماماً أيضاً عن العلاقة بين الحزب اللينيني والطبقة العاملة. الحزب اللينيني معني بقيادة الطبقة العاملة ككل في صراع من أجل تحقيق مصالح الطبقة العاملة. أما جيش العصابات معني بالعمل نيابة عن جمهور الفلاحين بالتأكيد وهو يمنح في المقابل مساندة وحماية وإغراء الإصلاح الزراعي. بلا قصد، أعطى جيفارا تعبيراً نقياً عن النخبوية المثالية المتأصلة في إستراتيجية حرب العصابات:

لقد سبق أن وصفنا محارب العصابات أنه شخص يشارك الشعب في اشتياقه للتحرير ويقوم – متى استنفدت الوسائل السلمية – ببدء المعركة ويحول نفسه إلى طليعة مسلحة للشعب. منذ لحظة بداية الصراع تكون لديه نية تحطيم نظام ظالم، وبالتالي نية خفية بدرجة أو بأخرى – لاستبدال القديم بشيء جديد. لقد سبق أن قلنا أيضاً أنه.. تقريباً في جميع البلاد ذات التنمية الاقتصادية الناقصة، يمنح الريف الشروط المثالية للمعركة هكذا، فان أساس الهيكل الاجتماعي الذي سيبنيه محارب العصابات يبدأ بتغيرات في الملكية الزراعية.(129)

أولاً: يأتي محارب العصابات بمثله عن نظام اجتماعي عادل، “كاهن حقيقي للإصلاح” كما يسميه جيفارا، ثانياً اختيار الأرض على أسس عسكرية، ثالثاً، برنامج الإصلاح الزراعي.. يكمل جيفارا:
يجب أن يساعد الفلاح دائماً تقنياً واقتصادياً وأخلاقياً وثقافياً. سيكون محارب العصابات نوعاً من الملاك المرشد الذي نزل إلى المنطقة يساعد الفقراء دائماً ويسبب أقل مضايقة ممكنة للغني في مراحل الحرب الأولي.(130)

بالمثل كان جيش ماو الأحمر يعمل تحت تعليمات صارمة في تعامله مع الفلاحين: “كن مجاملاً، وساعد عندما تستطيع. أعد كل الأشياء التي تستعيرها. استبدل كل الأشياء المحطمة.. ادفع ثمن كل الأشياء المشترة.. الخ”(131). ما ينبغي استيعابه هن هو علاقة القوة بين الفلاح والمحارب التي تجعل هذه الأوامر الأخلاقية ضرورية لأن هناك في الواقع اغراءا مستمراً بالسلوك على عكسها.

الأساس الحقيقي لهذه النخبوية ليس مجرد الثقافة المتفوقة لقيادة حرب العصابات أو حتى امتلاكها للسلاح. وإنما اختلاف الأهداف الطبقية. فالهدف الطبقي الجوهري للفلاحين هو امتلاك الأرض. أما الهدف الجوهري للانتلجنسيا الثورية التي تشكل قيادة العصابات هو الاستيلاء على سلطة الدولة لتحقيق التحرير الوطني. تستخدم قيادة حرب العصابات الفلاحين لرفع نفسها، وليس الفلاحين إلى السلطة ويظهر انطباق ذلك على جيش وحزب ماو من الطريقة التي أوقف بها الحزب الشيوعي الصيني الصراع التلقائي للفلاحين من أجل الأرض، وذلك للإبقاء على الائتلاف الوطني في الحرب ضد اليابان.(132)
إن صراع أمة مضطهدة من أجل التحرر، سواء كان ضد وضع استعماري رسمي مثلما كان الوضع في الجزائر أو كان ضد نظام عميل للإمبريالية مثل حالة كوبا، هذا الصراع تقدمي ويجب تأييده إلا أنه يظل أساساً مهمة ديمقراطية برجوازية فالدولة القومية هي نتاج الرأسمالية، أما رسالة البروليتاريا هي تخطي تقسيم العالم إلى دول. وبالتالي فان التأييد الماركسي للتحرير الوطني يختلف في الدوافع والوسيلة عن التأييد البرجوازي والبرجوازي الصغير. يشكل التحرير الوطني بالنسبة للبرجوازية صراع لتأسيس أرضها في ركن العالم الخاص بها الذي تحكمه وبالتالي فهي تنظر له على أنه هدف مهيمن في ذاته، ينبغي أن تتوحد حوله كل الطبقات “الوطنية”. أما بالنسبة للماركسيين، يشكل التحرير الوطني وسيلة فقط، صراع للتخلص من الاضطهاد القومي الذي يشكل عقبة أمام التوحيد الطوعى للطبقة العاملة العالمية في “اتحاد جمهوريات سوفيتية” مأمول انه بالتالي صراع يجب أن تحتفظ فيه البروليتاريا باستقلالها الطبقي لكي تحمل الثورة أبعد من الحدود الاجتماعية والوطنية التي سترضى بها البرجوازية والبرحوازية الصغيرة، في عملية ثورة دائمة. مما سبق يتضح أن إستراتيجية حرب العصابات (إلا إذا كانت جزء من ثورة عمالية) ليست متناسبة مع هذا الأفق الأممي البروليتاري، كما يتضح بالمثل من نظريتهم وممارستهم أن أيا من “ماركسي” العالم الثالث الوطنيين لم ينجح في تجاوز الموقف الوطني، ويشير هذا إلى أن الأساس الطبقي “لماركسيتهم” ليس البروليتاريا وإنما البرجوازية الصغيرة.(133)

ويبقى جانب إضافي للمشكلة ينبغي تناوله: متى تحقق التحرر الوطني (إذا لم يتم تجاوزه بحدوث ثورة عالمية) ينبغي تعزيزه والحفاظ عليه في ساحة الرأسمالية العالمية الضارية التنافس. النخبة المحاربة البرجوازية الصغيرة التي دفعت إلى السلطة بواسطة حرب الفلاحين تجد نفسها إذن في نفس الموقف بالأساس الذي وقفت فيه النخبة البلشفية بعد تدمير الطبقة العاملة في الحرب الأهلية، مع فارق أنها ليست مرتبطة عضوياً بالطبقة العاملة العالمية من خلال حزب ثوري أممي(134)، وبالتالي فليس لديها خيار غير البديل الستاليني وهو الصراع من أجل النمو الاقتصادي من خلال تراكم رأس المال القائم على استغلال العمال والفلاحين، وهو ما يعني بدوره أن عليها أن تعزز نفسها كطبقة حاكمة جديدة.(135)

في هذه الحالة يحدث شيئان: 1) تتحول عبادة المحارب الذي يضحي بنفسه لشعبه إلى أيديولوجية تضحية ذاتية من الطبقة العاملة (والفلاحين) من أجل الأمة وتصبح الاشتراكية عقيدة تقشف (ممجدة في الغرب بواسطة بتلهايم وغيره، كنقد للاقتصادوية). 2) هياكل الثورة الوطنية الراديكالية المائعة تستقر على الشكل الستاليني لدولة الحزب الواحد البيروقراطية. التوازي بين وطنية العالم الثالث والستالينية السوفيتية هو إذن أكثر من مسألة أصول أيديولوجية وتنظيمية مشتركة (موجودة في الصين ولكن ليس في كوبا)، أو اعتماد ضرورية على المعونة الروسية (كما هو الحال في كوبا ولكن ليس في الصين منذ أوائل الستينات). إن هذا التوازي يأتي من وضع طبقي مشترك ومهام اقتصادية مشتركة.

خلاصة القول أن “ماركسية” العالم الثالث الوطنية، مثل الكاوتسكية والستالينية هي في أصولها ليست أيديولوجية ثورة بروليتاريا وإنما أيديولوجية قسم من البرجوازية الصغيرة يقف بين العمل ورأس المال. في حالة الكاوتسكية والستالينية، كانت بيروقراطية الحركة العمالية هي التي رفعت نفسها فوق قاعدتها في الطبقة العاملة. أما في حالة وطنية العالم الثالث، لعبت انتلجنسيا الطبقة المتوسطة المضطهدة من الإمبريالية الدور الأساسي ومثل الستالينية في روسيا وأوروبا الشرقية (ولكن ليس الكاوتسكية أو الستالينية في الغرب) استطاعت في ظل ظروف معينة(136) أن تحول نفسها إلى الطبقة الحاكمة. كأيديولوجية هي أبعد كثير من الناحية الصورية عن الماركسية من أي من الكاوتسكية أو الستالينية، وكان من الممكن قبولها كماركسية أو كنوع من الماركسية فقط بسبب الدور السابق للستالينية في دفن التراث الأصيل تحت جبل التشويه، وبسبب الضعف الشديد للماركسية البروليتاريا في الخمسينات والستينات.

هكذا فعلى الرغم من كل اختلافاتهم، فان الكاوتسكية والستالينية، ووطنية العالم الثالث بينهم الكثير مما هو مشترك – قبل كل شئ التزام إزاء الدولة الوطنية (الوطنية وملكية الدولة) ورفض للتحرر الذاتي للطبقة العاملة. تلك الخصائص والتي تم التوصل إليها من خلال أساليب تاريخية مختلفة – قام انجلز بتحليلها في كتابه ضد دوهرنج على أنها خصائص أساسية للمرحلة النهائية للتطور الرأسمالي، للعلاقة الرأسمالية “ليس وقد تم التخلص منها” ولكن وقد بلغت الذروة(137). ما حدث إذن لهذه الماركسيات هو أنها بتركها المواقع الطبقية للبروليتاريا، انتهت إلى تأييد المرحلة التالية للرأسمالية.

لقد انهينا الآن عرضنا للتحولات الرئيسية للماركسية منذ وفاة ماركس ونستطيع الآن أن نعود لنقطة بدايتنا: التراث الماركسية الأصيل.

4 – التراث الماركسي الأصيل
ليس من الصعب تحديد التراث الماركسي الأصيل. انه يسير من ماركس وانجلز، مرورا بالجناح اليساري الثوري للأممية الثانية (خاصة في روسيا وألمانيا) وصولاً إلى الاوج مع الثورة الروسية والسنوات المبكرة للكومنترن، ويستمر – في أصعب ظروف ممكنة – بواسطة المعارضة اليسارية والحركة التروتسكية في الثلاثينات.

انه تراث كان أبرز ممثليه، بعد مؤسسيه، هم بوضوح لينين ولكسمبورج وتروتسكي، إلا أنهم محاطون بشخصيات عديدة أقل منهم بقليل فقط في المكانة مثل ميهرينج وزيتكن وبوخارين الشاب وجميس كونالي وجون ماكلين وفكتور سيرج والفريد روزمر وهكذا فضلاً عن مئات الآلاف من محاربي الطبقة العاملة.
انه تراث حاول دائماً توحيد النظرية والممارسة وبالتالي لم يكن أبدا راضياً بالحكمة الموروثة أو الدوجما الثابتة وإنما سعي لتطبيق الماركسية على عالم متغير. أهم إسهاماته تتضمن نظرية الحزب (لينين)، الإضراب الجماهيري (لكسمبورج)، الثورة الدائمة (تروتسكي)، الإمبريالية والاقتصاد العالمي (لكسمبورج، بوخارين، لينين، تروتسكي)، دور الستالينية المضاد للثورة (تروتسكي)، الفاشية (تروتسكي) وإعادة العنصر الفاعل الجدلي في الفلسفة الماركسية (لينين، جرامشي، لوكاش).

لقد كان في أغلب فترة وجوده، باستثناء السنوات الثورية 1917 – 1923، تراث أقلية ضئيلة، وهذا أمر مؤسف ولكن لا مفر منه “الأفكار الحاكمة هي أفكار الطبقة الحاكمة” وجماهير العمال يصلون للوعي الثوري في الصراع الثوري فقط. إن التعايش الدائم بين حركة ماركسية جماهيرية والرأسمالية هو بالتالي مستحيل. إن مجرد وجوده يشكل تهديداً للنظام الرأسمالي. وهو تهديد سيزول إذا لم يتحقق. انه بالتالي تراث يعكس في تقدمه وتأخره، في التحليل الأخير، تقدم وتأخر الطبقة العاملة. انه ليس تراثاً أحادياً جامداً، وإنما يتم بالجدال القوي (خذ مثلاً لكسمبورج ولينين حول الحزب وحول المسألة القومية، أو لينين وتروتسكي حول طبيعة الثورة الروسية، أو الجدالات الداخلية للحزب البلشفي قبل وبعد 1917 ولا هو تراث خالي من الخطأ (أنظر تحليل تروتسكي لروسيا كدولة عمالية) ولكنه موحد بالأساس الطبقي الذي يقف عليه، الطبقة العاملة العالمية، وبالتالي تراكمياً بمعني هام، حيث يبني كل جيل ماركسي على إنجازات سابقيه.

إنه تراث الاشتراكية الثورية الذي سعي الثوريون أن يكملوه ويطوروه على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، لم تواجهنا الظروف التاريخية بعد بمشكلات الحرب والثورة والثورة المضادة. تلك هي الأحوال التي تضع الحركات والنظريات موضع الاختبار، كاشفة عدم كفايتها ولكن سامحه لها أياً بتحقيق قدراتها الكامنة. وبالتالي، فان الإنجازات، نظرياً وعملياً تبدو صغيرة عند المقارنة بالسابقين، ومع ذلك، فان أهم الإسهامات النظرية والمواقف السياسية المتميزة مثل تحليل رأسمالية الدولة في الدول الستالينية ونظرية الثورة الدائمة المنحرفة في العالم الثالث وتحليل رخاء اقتصاد السلاح والأزمة الاقتصادية الجديدة ونقد البيروقراطية النقابية، يجمع بينها شيئان: 1) أنه تم تطويرها كاستجابات لمشكلات حقيقية واجهتها الحركة العمالية في الصراع من أجل تغيير العالم، و 2) واتخذت كمنطلق لها وأكدت كاستنتاج لها، المبدأ الجوهري للماركسية، ألا وهو التحرر الذاتي للطبقة العاملة. في كتيب الشيوعية اليسارية كتب لينين “إن النظرية الثورية الصحيحة.. تأخذ شكلها النهائي فقط بتفاعلها اللصيق مع النشاط العملي لحركة جماهيرية بالفعل وثورية بالفعل”، وتحقيق هذه الوحدة هو بالطبع، المهمة الكبرى التي تواجهنا في المستقبل”.

« السابق التالي »