بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الماركسية والحزب

التالي »

1. مقدمة

كُتِب هذا الكتاب فى منتصف السبعينات، وشأنه شأن أي عمل آخر، فهويحمل ملامح عصره. كانت بداية السبعينات في بريطانيا سنوات صراع قوي وناجح للطبقة العاملة: بلغ قمته فى تدمير “قانون العلاقات الصناعية” التابع لحكومة المحافظين بواسطة عمال الميناء والهندسة، وفك تجميد الأجور الذي قام به عمال المناجم فى 1972، وأخيراً إسقاط حكومة المحافظين التابعة لإدوارد هيث بواسطة إضراب عمال المناجم فى 1974. كانت هناك بالطبع بعض الهزائم، ولكن بشكل عام، كانت الصورة تظهر حركة عمالية متصاعدة.

وعلى الصعيد العالمي، كانت هناك أسباب أيضاً تدعوللتفاؤل. حيث كانت ذكرى عام 1968 الرائعة لا تزال في الأذهان، بهجوم التت في فيتنام، وأحداث مايوالدرامية في فرنسا، والانتفاضات الطلابية المنتشرة فى جميع أنحاء العالم، وتمرد السود في مختلف المدن بالولايات المتحدة الأمريكية. بالإضافة إلى كل ذلك، فإن عام 1968 قد أعقبه “الصيف الساخن” للعمال الإيطاليين فى 1969، والهزيمة المنكرة للأمريكان فى فيتنام، والثورة البرتغالية فى 1974 بكل عواقبها فى إفريقيا. ومرة أخرى كانت هناك هزائم، خاصة مأساة انقلاب شيلي في 1973. ولكن عموماً، بدا وكأن العملية الثورية العالمية قد بدأت تشق طريقها.

وبدا على الأخص أن القوى الثورية الحقيقية للماركسية بدأت أخيراً فى سحب نفسها من الهوامش الخارجية للحياة السياسية، حيث حوصرت منذ صعود الستالينية في العشرينات. وفى بريطانيا، تحول الاشتراكيون الأمميون (الآن حزب العمال الاشتراكي) من مجموعة صغيرة للدعاية مكونة من مائتي فرد إلى حزب صغير حيوى يضم بضعة الآف، ذى قاعدة صغيرة ولكن جادة في صفوف الطبقة العاملة. وأصبح في أوروبا عدد من المجموعات المبشرة ذات حجم مساوى أوأكبر، أتسمت سياساتها (بالرغم من الارتباك بسبب التأثير القوى للماوية) بالثورية وأنها ذات توجه واضح نحوالطبقة العاملة. تماماً كما صورها كتاب الماركسية والحزب فقد كان هناك “بزوغ لمنظمات كبيرة فى عدة دول (ليست أحزاب جماهيرية، وإنما من الكبر بحيث تمثل بدايات جادة) تهدف جميعها إلى بناء الحزب الثوري”.

كان المنظور الضمني لكتاب الماركسية والحزب هوأن تلك الاتجاهات سوف تستمر، وأن أحزاباً ثورية حقيقية سوف تنمووتتطور، ليس فى بريطانيا وحدها، بل في عدد من البلدان الأخرى. ولكن للأسف، يجب أن نعترف أن هذه الرؤية لم تتحقق. فعموماً قد أصبحت اليوم الحركات العمالية في الدول الرأسمالية المتقدمة، ومعها قوى الاشتراكية الثورية، بشكل أوبآخر أضعف حالاً من عقد مضى.
وفي بريطانيا تتمثل النقلة في ميزان القوى الطبقية فى المصير المتناقض للإضراب الذين قام بهما عمال المناجم فى 1974 و4-1985. حيث كانت الهزيمة فى 1985 هي الذروة ونتيجة سلسلة طويلة من التراجعات التى أضعفت تلاحم وكفاحية الحركة العمالية.

وتكمن خلف عملية تغير ميزان القوى الحقيقة المتعلقة ببزوغ الأزمة الاقتصادية العالمية، والتى طال انتظارها، فى 1974، واستمرارها إلى يومنا هذا (مقطوعة بفترات انتعاش قصيرة)، والتي لم ينتج عنها تثوير جموع العمال كما توقع الاشتراكيون الثوريون. فعلى العكس تولد إحساس بالإحباط. فقد فضح الكساد الطويل مدى إفلاس الوعي النقابي الإصلاحي الذي تسيد الحركة العمالية، ولكن لم يتزامن ذلك الإفلاس مع حركة قوية بالشكل الكافى للثوريين، تمكنهم من تمثيل مصدر جذب بديل. ذلك أن العمال الذين كانوا على استعداد للهجوم وتحقيق انتصار بعد انتصار عند اعتقادهم بأن الأحوال المادية ميسورة، (وبعضهم توصل لاستنتاجات ثورية خلال تلك العملية)، هؤلاء أصبحوا أكثر حذرًا، وتمهلا فى خوض المعارك عندما بدءوا يستشعرون أن صاحب العمل قد يضار حقاً أوأن “حال البلد لن يتحمل المزيد من الضغوط”.

تلك على كل حال تعميمات واسعة، يقابلها بالطبع إستثناءات عديدة واتجاهات مخالفة. فعلى الصعيد العالمى حدثت نضالات عظيمة وانتصارات بارزة مثل حركة التضامن في بولندا، وثورة الساندينيستا فى نيكاراجوا، والإطاحة بالشاه في إيران، وغيرهم. ولكن لسبب أولآخر لم تقدم أي من هذه الأحداث للاشتراكية الثورية نفس الإلهام العالمي الذي قدمته أحداث مايو1968، أوالهزيمة الأمريكية فى فيتنام. بل كانت النتيجة، فترة هزيلة لليسار الثوري، استطاعت خلالها المنظمة التي أنتمي إليها (حزب العمال الاشتراكي) أن تبقي على نفسها وتحقق القليل من النموفى وقت انكمشت فيه أحزاب ثورية أخرى، أوانهارت، أوانتقلت إلى اليمين.

ولكن على الرغم من هذه النتيجة المعتمة، إلا أنني أعتقد أن الأفكار الأساسية لكتاب الماركسية والحزب مازالت ذات دلالة فى أوضاعنا الحالية. فالهزائم والتراجعات التي حدثت في العقد الماضي لم تكن نتيجة وجود، بل بالأحرى غياب ذلك النوع من الأحزاب الماركسية التي أدعوإليها فى هذا الكتاب. وقد جعلت تلك الهزائم من الأصعب بناء مثل هذه الأحزاب، ولكنها في الوقت نفسه أكدت ضرورة مواصلة المحاولة. بالإضافة إلى ذلك، تظل المحاولة ممكنة، بالنظر لكون الهزائم – رغم أهميتها – تعتبر جزئية أكثر منها شاملة. فالحركة العمالية، أي نعم ضعفت، ولكنها لم تتفكك أوتنسحق كما حدث فى تلك الدول الأوربية التي خضعت للفاشية بين الحربين العالميتين أوفي الاتحاد السوفيتي تحت حكم ستالين.
وهكذا يستمر وجود صراعات عمالية يمكن للثوريين أن يرتبطوا بها، ويستمر وجود أقلية -متنامية- من العمال لا يرغبون فقط فى القتال وإنما أيضاً يريدون تفسيرات لاخفاقات الماضي ويتطلعون لأفكار وإستراتيجيات يمكن أن تقود للنصر فى المستقبل.

إن الحاجة للحزب الثوري مطروحة بوضوح فى بريطانيا بعد التحولات الأخيرة فى حزب العمال البريطاني. فتدهور اليسار الذي تشكل حول توني بِن منذ 1982 والتحول نحواليمين تحت قيادة نيل كينوك يمثلان قضايا تواجه كل اشتراكي مخلص في حزب العمال بضرورة القطع مع الإصلاحية. فقد أصبح الآن واضحاً أن حكومة المستقبل العمالية تحت زعامة كينوك (أوحكومة ائتلافية بين العمال والحزب الاشتراكي الديمقراطي) ستكون كارثة للطبقة العاملة. بل من الممكن أن تكون أسوأ من إدارة ويلسون – كالاهان في نهاية السبعينات، ما لم تواجه بمقاومة جماعية مكثفة من أسفل. وفى وسط هذه المقاومة يجب أن يتواجد الحزب الماركسي الثوري معطياً إياها التماسك والرؤية.

وكنتيجة لذلك فأنه لوأتيح لي الوقت لإعادة كتابة ومراجعة الماركسية والحزب اليوم (وهوالشيء الذى لا أفعله)، ستبقى الخطوط الأساسية للأطروحة واستنتاجاتها الرئيسية كما هي. فالحالة تبقى -كما كتبت وقتها- أن بناء الأحزاب الثورية وتوحيدها عالمياً هوالآن الواجب الرئيسي والعاجل والإستراتيجي الذي يواجه الاشتراكيين الثوريين فى جميع أنحاء العالم. وما لم يتحقق هذا، ستبقى الطبقة العاملة غير قادرة على حل أزمة الرأسمالية -التي تزداد حدتها كل يوم- لصالحها.

على كل حال سيكون هناك بالطبع تغييرات معينة فى التفصيلات، أهمها تقييم جرامشي. ما زلت أعتبر جرامشي ماركسي ثوري عظيم له العديد من الإضاءات الهامة، لكن بالتعرض له اليوم سأقدم مساهمة أقل حجماً بخصوص تعرضه لنظرية الحزب، وسأفرد مساحة أكبر للدفاع بشدة عن جرامشي ضد تفسيرات “الشيوعية الأوروبية” والتفسيرات المشوهة للماركسية الأكاديمية التي تعتبره إصلاحياً ونبي الجبهة الشعبية و”التحالف الديمقراطي الواسع”. هذه النقاط مترابطة، فمن الواضح لي أنه على الرغم من أن جرامشي كان ثورياً مؤمناً بضرورة الانتفاضة المسلحة، والسوفيتات، وتدمير الدولة الرأسمالية، فأن أغلب صياغاته -عن “حرب المواقع” التي تحل محل “حرب المناورة”، والعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، والفروق بين روسيا وأوربا الغربية- كانت غير دقيقة ومشوهة، ومن ثم فتحت الباب للتفسير الإصلاحي، الذي ما كان جرامشي نفسه إلا ليرفضه. وكما أعتقد، فإن الفصل المكتوب عن جرامشي يجب أن يُقرأ جنباً إلى جنب مع ورقة كريس هارمان عن جرامشي ضد الإصلاحية (لندن 1983) التي تمدنا بالتصحيح اللازم.

بالإضافة إلى ذلك، كان على أن أخصص أيضاً مساحة أوسع لمفهوم الحزب والطبقة المتضمن في كتابات تروتسكي الإستراتيجية في الفترة 1928 – 1937، أوفي قول آخر، انتقاده “للفترة الثالثة” اليسارية المتطرفة الستالينية -التي شقت صفوف الطبقة العاملة في مواجهة هتلر، وما أستتبعها من انتهازية في فترة الجبهة الشعبية.

أثبتت تلك الكتابات مدى ارتباطها ونفعها فى السنوات القريبة الماضية وحتى اليوم. فمن ناحية، شكلت تلك الكتابات الخلفية النظرية الأساسية للنضال ضد صحوة النازية -التي كشفت عن نفسها في بريطانيا في النصف الثاني من السبعينيات، والتي لا تزال مستمرة اليوم بفرنسا. ومن ناحية أخرى، تعد تلك الكتابات نقطة انطلاق النقد الماركسي للإستراتيجية الحالية للـ”شيوعية الأوروبية”، وللعديد من اليساريين الآخرين، وإصلاحيين على هامش اليسار. وعلى القارئ الذي يريد الإلمام بهذه المسألة، الرجوع إلى كتاب دانكان هالاس ماركسية تروتسكي (لندن 1985).

رغم ما سبق، إلا أن هناك شيئاً واحدا لم يتغير خلال العقد الماضي، وهوالحاجة الملحة لإسقاط الرأسمالية، إذا كان للإنسانية أن تتقدم، بقيادة الطبقة العاملة، من تحت عتمة السحابة النووية الكثيفة. فإذا استطاع هذا الكتاب أن يساهم فى هذه العملية بأي شكل، فهوقد حقق هدفه.

وأقدم شكري الخاص لتوني كليف على انتقاداته واقتراحاته القيمة وعلى عمله كمحرر. ولأنيتا بروملي على كتابة أجزاء كبيرة من مخطوط هذا الكتاب على الآلة الكاتبة. ولجيل وسارة وجاك لأنهم صبروا على كثير من العطلات الضائعة.

جون مولينو

——

 “التت” هي رأس السنة الفيتنامية. والمقصود هنا الهجوم المفاجئ في يناير 1968 الذي قام به مقاتلوجبهة التحرير القومية (فيتنام الشمالية) ضد القوات الأمريكية وعملائها من قوات حكومة فيتنام الجنوبية، مستهدفين حوالي 160 مدينة وبلدة في الجنوب، وتضمنت الاستيلاء على مقر السفارة الأمريكية في العاصمة سايجون نفسها لفترة قصيرة. وقد كان ذلك الهجوم نقطة تحول في موازين الحرب وفي كسب تأييد جماهيري عالمي للقضية الفيتنامية. (المترجم).
 أطلق مصطلح “الصيف الساخن” على الفترة التي أعقبت 1968 إلى منتصف السبعينيات في إيطاليا، تلك التي شهدت نضال عمالي وطلابي متفجر، واستقطاب عنيف في المجتمع الإيطالي بين اليسار والقوى اليمينية/الفاشية. (المترجم).

 في مواجهة الهزائم المتوالية أمام مارجريت تاتشر وتحول قادة حزب العمال البريطاني إلى اليمين، نشأ تكتل بداخل حزب العمال بقيادة توني بن في بداية الثمانينيات داعياً إلى تدعيم العمل الإصلاحي البرلماني (الركن الأساسي لأيديولوجية حزب العمال) بتأييد الإضرابات العمالية والنضال القاعدي الذي كان يحدث ببريطانيا. (المترجم).

 استراتيجية تم اتباعها من قِبَل الأحزاب الشيوعية الأوروبية، تضمنت التخلي النظري والعملي عن مبدأ التغيير الثوري واعتماد النهج البرلماني بدلاً منه، ومحاولة البعد بقدر الإمكان عن الخط السياسي السوفيتي. واستهدفت تلك الإستراتيجية طمأنة الطبقات الحاكمة الأوروبية بـ”عدم خطورة” الشيوعيين للحصول على نصيب من كعكة السلطة. وقد تم استخدام وتحريف فكر المناضل جرامشي لدعم “الشيوعية الأوروبية” نظرياً. (المترجم).

التالي »