بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الماركسية والحزب

« السابق التالي »

2. الفصل الأول: كارل ماركس الطبقة والحزب

1- الأساس الطبقي:

إن أساس جميع الاتجاهات الماركسية فى تحليل الأحزاب السياسية هونظرية ماركس فى الصراع الطبقي. وتفسير الماركسيين لوجود أحزاب سياسية مختلفة ومتنافسة يكمن أساساً في البنية الاقتصادية للمجتمع، فتظهر الأحزاب السياسية إلى حيز الوجود وتجتذب الدعم وتواصل وظيفتها المبدئية كممثلة لمصالح طبقية.

ومن الطبيعي أن تصبح هذه الفكرة -شأنها شأن أي مبدأ ماركسي- بلا معنى لوتم فهمها بطريقة فجة أوعقيمة. إن الأطروحة القائلة بأن الأحزاب السياسية تمثل مصالح طبقية لا تعنى أنها تفعل ذلك ضرورياً بطريقة مباشرة. إنها لا تعنى أنه فى جميع الحالات يمثل الحزب الواحد مصالح طبقة واحدة، أوأن مصالح طبقة ما -بالمعنى التاريخي- يمكن قصرها على الكسب الاقتصادي المباشر، أوأن كل ممارسات كل حزب يمكن تفسيرها بالرجوع إلى الطبقة التي يقوم عليها الحزب فقط. في الواقع لقد قدم التاريخ عدداً كبيراً من الأمثلة لكل نوع من الارتباط الطبقي-الحزبي منها أحزاب بدأت بتمثيل مصالح طبقة معينة ولكن ينتهي بها الأمر بتمثيل مصالح طبقة أخرى، ومنها أحزاب تحاول خدمة مصالح طبقتين أوحتى ثلاث طبقات فى نفس الوقت، ومنها أحزاب تخدم قطاع من طبقة فى مواجهة مصالح الطبقة ككل. ومنها أمثلة لحزبين أوثلاثة صغار يتنافسون على أن يصبحوا الممثل الأوحد لنفس الطبقة. وهكذا…

فعلي سبيل المثال، لدينا اليوم ببريطانيا 3 أحزاب رئيسية:

حزب المحافظين، وهوأساساً حزب كبار الرأسماليين، ولكن يصوت له العديد من العمال، ويلقى تأييد قطاعات كبيرة من البرجوازية الصغيرة… حزب العمال ذوالقاعدة الممتدة في منظمات الطبقة العاملة ويعتمد بالأساس على أصوات العمال الانتخابية، ولكن قيادته تنتمي للطبقة الوسطى ومتقبلة لاستمرارية النظام الرأسمالي، وهكذا تضطر في أحيان كثيرة إلى التحرك ضد مصالح قاعدتها العمالية… الحزب الليبرالي، وهوبالأساس حزب برجوازي صغير يؤيده قلة من كبار الرأسماليين، ويكسب بعض الأصوات الانتخابية من صفوف الطبقة العاملة.

وليس هنالك من هذه الأمثلة ما يفند الأطروحة الماركسية، ولكنها تؤكدها. كل ما يجب التأكيد عليه هوأن نقطة البدء الرئيسية فى تحليل الأحزاب السياسية -والسياسة بشكل عام- يجب أن تكون التركيب الطبقي للمجتمع المعني. إن تلك التشكيلات والتوليفات التي أشرنا إليها تنبع من حقيقة أن الطبقات لا تقف إلى جانب بعضها البعض ولكن الواحدة فوق الأخرى فى حالة من الصراع الحركي الدائم، والأحزاب السياسية تلعب دوراً رئيسياً فى ذلك الصراع. إن تركيبة معينة من الأحزاب السياسية تعكس مرحلة التطور النسبي الذي وصلت إليه مختلف الطبقات ومدى الهيمنة التي وصلت إليها طبقة ما على الطبقات الأخرى. من هنا فإنه عند التعامل مع النظريات الماركسية للحزب -وهذا محل اهتمام ماركس قبل كل شئ-لا يكون الاهتمام بنظرية محدودة ومنفصلة للتنظيم ولكن يكون دائماً بالعلاقة ما بين الحزب والطبقة. إن الأحزاب هي لحظات في تطور الطبقات.

أراد ماركس أن يظهر القوى المحركة للتاريخ لكي يسهل صنع التاريخ. وهكذا لم تكن الطبقات ببساطة عبارة عن أشكال ساكنة بالنسبة لماركس، ولكنها جماعات اجتماعية تظهر إلى حيز الوجود عبر عمليات تاريخية وتمر بمراحل مختلفة من النمووالنضج. وقبل كل شئ تُعّرِف الطبقات نفسها عبر الصراع. فـ”يشكل الأفراد طبقة فقط للدرجة التي يكونون فيها منخرطين في صراع مشترك ضد طبقة أخرى”.1 وفى سياق الصراع تكتسب الطبقات (أوتفقد) التماسك والتنظيم والثقة والوعي، فالأحزاب السياسية إذن هي أسلحة في الصراع بين الطبقات.

في تحليل ماركس للرأسمالية “ينقسم المجتمع ككل بشكل مطرد إلى معسكرين كبيرين متنازعين، إلى طبقتين كبيرتين تواجهان بعضهما بشكل مباشر: البرجوازية والبروليتاريا”.2 لم يكن ذلك إيماناً من ماركس بأن فئتي البرجوازية والبروليتاريا تشمل جميع من فى المجتمع الرأسمالي -وكان هذا سيكون غريباً إن أكد مثل هذه الحقيقة فى عام 1847. ما كان يطرحه هوأن الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا متأصل وأساسي في النظام الرأسمالي. ففي الرأسمالية يتم الإنتاج على أساس استغلال الأجر والعمل. لهذا يكمن فى صميم الاقتصاد الرأسمالي تعارض دائم للمصالح، وهذا التعارض الأساسي يشكل كل مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية، فكما يصفها ماركس في رأس المال:

أنها دائماً العلاقة المباشرة بين ملاك أدوات الإنتاج والمنتجين المباشرين… تلك التي نجد فيها السر النهائي، والأساس الخفي للبناء الكامل للمجتمع، وهذا يشمل الأنماط السياسية للسيادة والتبعية، وباختصار الشكل المعطى المحدد للحكومات. 3
في التحليل الأخير تكون فاعلية الطبقات أوالشرائح الاجتماعية الأخرى محصورة في إطار البدائل التي تحددها الطبقتان الرئيسيتان. في النهاية لا يكون بوسعهم إلا أن يقفوا في صف إحدى هاتين الطبقتين. وكنتيجة لذلك، ومن وجهة النظر الماركسية، لا يكون المعيار الأساسي في تقييم الأحزاب السياسية ببساطة على أي طبقة تقوم، ولكن على موقعها من الصراع الطبقي بين البرجوازية والطبقة العاملة.

ولكن عندما يتحدث المرء عن نظرية ماركس فى الحزب لا يكون الموضوع عن الأحزاب السياسية بشكل عام، ولكن عن الحزب الثوري الذي يهدف للإطاحة بالرأسمالية وبالتحديد يتحدث المرء عن مفهوم ماركس للحزب السياسي البروليتاري، ففي رأيه “أن البروليتاريا وحدها هي الطبقة الثورية الحقيقية… الطبقات الأخرى تتآكل وتختفي في النهاية أمام الصناعة الحديثة؛ في حين أن البروليتاريا هي النتاج الخاص والجوهري لهذه الصناعة”.4 فالتوسع الرأسمالي يقوض التاجر الصغير والحرفي والمزارع الصغير والفلاح، ولكنه يزيد من حجم البروليتاريا. و”بنفس المقدار الذي تتطور به البرجوازية –أي رأس المال- تتطور البروليتاريا أوالطبقة العاملة الحديثة”.5 فكلما توسع الإنتاج كلما تجمع العمال في وحدات أكبر وأكبر. “مع تطور الصناعة لا تزيد البروليتاريا في العدد فقط ولكن تصبح مركزة في تجمعات أكبر وتزداد قوتها ويزداد شعور البروليتاريين بهذه القوة”. تقف البروليتاريا إذاً في قلب البنية الاقتصادية، وهي من ناحية الإمكانية أقوى طبقة مُستغَلة في التاريخ. وهذه القوة تعطى العمال القدرة على تحرير أنفسهم، وهذه القدرة تمثل عنصرا حيوياً فى نظرية ماركس للثورة. 6

والعنصر الثاني المساوي في الأهمية للعنصر الأول فى تقييم ماركس للطبقة العاملة هوأنها أول طبقة لا يكون نتيجة انتصارها شكلاً جديداً من المجتمعات الطبقية ولكن إلغاء كل الطبقات. وهذا الرأي يقوم على الطبيعة الجماعية بالضرورة للنضال العمالي. فلا يستطيع العامل الفرد سؤال مستخدمه زيادة أجره بأي فرصة للنجاح فى تحقيق هدفه، ولهذا يكون مرغما على الاتحاد مع زملائه. فالعامل لا يملك أياً من وسائل الإنتاج ولا يستطيع ذلك كفرد لأن الصناعة الحديثة لا يمكن تقسيمها وتجزئتها إلى ملايين الأجزاء. ولكي تستولي الطبقة العاملة على وسائل الإنتاج يجب أن تفعل ذلك بصورة جماعية وذلك من خلال الملكية الاجتماعية. إن تصميم ماركس على الطبقة العاملة كالطبقة الثورية الوحيدة (وأسبابه فى ذلك) يمكن تلخيصه من خلال موقفه من المرشح الآخر الأكثر وضوحاً لهذا اللقب وهم الفلاحون. فى الوقت الذى عاش فيه ماركس شكل الفلاحون أغلبية ضخمة حتى فى معظم دول أوروبا وكانوا على الأقل فى نفس الفقر والبؤس كالبروليتاريا. بالإضافة إلى ذلك كان هنالك تراث طويل من هبات فلاحية عنيفة ولكن ماركس لم يضع اعتبارا لكل هذا بسبب الطبيعة الفردية والتجزيئية للطريقة الفلاحية فى الحياة:

يشكل الفلاحون من صغار الملاك جمهورا ضخماً يعيش أعضاؤه فى ظروف متشابهة ولكن دون الدخول فى علاقات متشعبة مع بعضهم البعض. أن نمط إنتاجهم يعزلهم عن بعض بدلاً من إدخالهم في تفاعل متبادل.
…وبهذه الطريقة يتشكل الجزء الأعظم من جماهير الأمة الفرنسية من خلال الإضافة البسيطة لكميات متشابهة، كما تشكل البطاطس في كيس؛ كيساً من البطاطس. تشكل الملايين من العائلات طبقة بحسب الدرجة التي يعيشون فيها تحت ظروف اقتصادية تميز نمط حياتهم ومصالحهم وثقافتهم عن الطبقات الأخرى، وتضعهم في مواجهة عدائية مع هذه الطبقات.

ولا يشكل هؤلاء الفلاحين الصغار طبقة طالما علاقاتهم المتبادلة تتواجد فقط على المستوى المحلي، وطالما لا تخلق طبيعةُ مصالحهم مجتمعاً أورابطةً قوميةً أوتنظيماً سياسياً. إنهم عديموالقدرة على فرض مصالحهم الطبقية بأنفسهم، سواء عن طريق البرلمان أومؤتمر. لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ويجب أن يقوم أحد آخر بتمثيلهم. 7

إن قدرة الطبقة العاملة –على عكس الفلاحين- على تمثيل نفسها وبالتالي تحرير نفسها هوأمر جوهري بالنسبة لوضعها كطبقة ثورية ولقدرتها على خلق الحزب الثوري. وعلى أية حال لا يجب أن يخلط المرء إمكانية أن تقوم الطبقة العاملة بخلق حزبها الثوري بالواقع الملموس. فقد كان ماركس على دراية بالفجوة التي بين البروليتاريا كطبقة “في ذاتها” وبين البروليتاريا كطبقة “لذاتها”8، والطريق الطويل من النضال الذى يفصل بينهما. ولم يفت على ماركس أن يرى التأثير السلبي لمجتمع البرجوازية التنافسي على تنظيم ووحدة الطبقة العاملة:

تفصل المنافسة الأفراد عن بعضهم البعض، ليس فقط البرجوازيون ولكن العمال أيضاً على الرغم من أنها تجمعهم سوياً. من هنا فأنه سوف يمر وقت طويل قبل أن يتحدد هؤلاء الأفراد… لذا فأن التغلب على جميع القوى المنظمة الواقفة فى مواجهة هؤلاء الأفراد المعزولين الذين يعيشون فى ظروف تجعلهم يعيشون علاقات تعيد إنتاج عزلتهم يومياً يحتاج إلى صراع طويل. 9

وكان مدركاً أيضاً لقوة الأيديولوجية البرجوازية :

أن الطبقة التي تتحكم في وسائل الإنتاج المادية تسيطر فى نفس الوقت على وسائل الإنتاج الذهنية. ومن هذا المنطلق، وبشكل عام، نجد أن أفكار هؤلاء الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الذهنية تخضع لهذه الطبقة.10

لهذا كان تشكيل الحزب السياسي العمالي ضرورياً لمحاربة النزعة القوية نحوالتفتت ولتحقيق استقلال البروليتاريا كطبقة. وفى الواقع كثيراً ما أكد ماركس أن العمال لا يمكن أن يعدوا طبقة بالمعنى الحقيقي للكلمة حتى يخلقوا حزبهم الخاص المتميز. من ذلك نجد فى البيان الشيوعي أن “تنظيم العمال في طبقة وبالتالي في حزب سياسي يتم تعطيله بشكل دائم وذلك بسبب المنافسة بين العمال أنفسهم”11، وكذلك في قرار مؤتمر لندن للأممية الأولى عام 1871 أن “البروليتاريا تستطيع أن تتصرف كطبقة فقط عن طريق تشكيلها لحزبها السياسي المستقل”.12

وهذه الفكرة ظلت مركزية للنظرية والممارسة عند ماركس وإنجلز منذ منتصف أربعينات القرن الماضي وحتى نهاية حياتهما.

2- الشيوعيون والبروليتاريون:

وهذا ينقلنا إلى المشكلة الأساسية فى النظرية الماركسية للحزب، حيث يؤمن الماركسيون بأن الصراع الطبقي هومحرك التاريخ وأن “تحرير الطبقة العاملة يجب أن ينتزع بواسطة الطبقة العاملة نفسها”13، وفى نفس الوقت فأنهم يرغبون فى خلق حزب سياسي يمثل المصالح التاريخية للطبقة ككل. إذاً ماذا ستكون العلاقة بين هذا الحزب وجماهير الطبقة العاملة. تطرق ماركس بنفسه إلى هذه المشكلة فى جزء من البيان الشيوعي عنوانه “البروليتاريون والشيوعيون”:

ما هي علاقة الشيوعيين بالبروليتاريا ككل؟ الشيوعيون لا يشكلون حزباً منفصلاً في مواجهة الأحزاب العمالية الأخرى. وليس لديهم مصالح منفصلة ومستقلة عن البروليتاريا ككل. وهم لا يطرحون مبادئ حلقية خاصة بهم يشكلوا ويقولبوا من خلالها الحركة البروليتارية. يتميز الشيوعيون عن الأحزاب العمالية الأخرى فقط بالآتي:

1- في النضالات المحلية للبروليتاريا في مختلف الدول يوضح الشيوعيون المصالح المشتركة للبروليتاريا ككل بشكل مستقل عن كل القوميات.

2- في المراحل المختلفة التي يمر بها بالضرورة نضال الطبقة العاملة ضد البرجوازية يمثل الشيوعيون دائماً وفي كل مكان مصالح الحركة ككل.

يشكل الشيوعيون بالتالي ومن الناحية العملية القطاع الأكثر تقدماً وتصميماً من أحزاب الطبقة العاملة في كل بلد. ذلك القطاع الذي يدفع إلى الأمام كل القطاعات الأخرى.

أما من الناحية النظرية فلديهم ميزة عن الجمهور العريض للبروليتاريا وهي الفهم الواضح لخط السير والظروف والنتائج العامة المنتظرة للحركة البروليتارية. 14

تلك الفقرات المكثفة والفذة تحوى بذرة حل مشكلة علاقة الحزب بالطبقة، كما تحوي سلسلة من الخطوط العريضة التي شكلت ممارسات الحركة الماركسية إلى يومنا هذا. بدايةً، استبعدت الفقرات النظرة التآمرية لدور الحزب كفرقة صغيرة من المغامرين تتصرف بالنيابة -وبشكل منفصل- عن الطبقة. كما استبعدت أيضاً الاتجاه السلطوي الذي يطرح أن الحزب يصدر الأوامر من أعلى وعلى الجماهير السلبية الطاعة، وكذلك الاتجاه الدعائي الصِرف؛ للعصبة التي تبشر بتعاليمها حتى تكسب بقية العالم.

ترسخ الفقرات السابقة أيضاً مبدأ القيادة التي تُكتَسب على أساس الأداء فى الصراع الطبقي في خدمة الطبقة العاملة، وكذلك مبدأ رفع الأهداف الكلية للحركة العمالية داخل النضالات الاقتصادية والسياسية اليومية للعمال. ويفهم من طيات هذه السطور بذور الإستراتيجية الماركسية في الجبهة المتحدة15 وسياسة العمل من خلال النقابات العمالية مع إدراك حدود النقابوية. وكذلك الدفاع عن الحقوق الديمقراطية أثناء النضال من أجل تجاوز الديمقراطية البرجوازية.

ومع ذلك فإن صيغة ماركس تتضمن حدوداً وثغرات، فهي مكتوبة على مستوى عال من التعميم وليس فيها ما يتعامل بشكل خاص مع الشكل التنظيمي الذي يجب أن يتبناه الشيوعيون. وهى فى الواقع لا تحوى إشارة صريحة لمعنى الحزب.

عدم الدقة هذه أدت إلى الافتراض الوحيد في الفقرة الذي أثبتت الأحداث اللاحقة بطلانه بوضوح، وهوبالتحديد أن “الشيوعيين لا يشكلون حزباً منفصلاً معارضاً لباقي أحزاب الطبقة العاملة”. وهذا له معنى كمبدأ عام فقط إذا أخذ على أنه مطابق فى المعنى للمقولة بـ”أنهم ليس لديهم مصالح منفصلة ومختلفة عن مصالح الطبقة العاملة ككل”.

وعدم الدقة هذه في استخدام كلمة “الحزب” ليست مقتصرة على البيان الشيوعي. ففي أعماله يستخدم ماركس مصطلح الحزب بمعان متعددة (يعرف مونتى جونستون على الأقل خمس “نماذج” أساسية16) للإشارة إلى ظواهر مختلفة عديدة مثل حركة الشارتيين العريضة والفضفاضة، وللإشارة أيضاً إلى مجموعته الصغيرة من الرفاق والأتباع، وكذلك إلى القضية الثورية العامة. وهكذا يكتب ماركس لجريدة “فريلجراث” شارحاً أن “العصبة (الشيوعية)، مثلها مثل جمعية المواسم في باريس، ومثل مئات الجمعيات الأخرى، كانت فقط حلقة في تاريخ الحزب الذي ينموتلقائياً في كل مكان من تربة المجتمع الحديث….. تحت مفهوم ‘الحزب’، أفهم الحزب بالمعنى التاريخي العظيم للكلمة”17، وكما كتب لـكوجلمان: “إن كوميونة باريس كانت أعظم عمل قام به حزبنا منذ انتفاضة يونيوفي باريس (1848)” 18.

بسبب غموض ماركس فى هذه النقطة فإنه من الصعب بناء أوإعادة بناء أي نظرية واحدة للحزب من الاقتباسات المأخوذة خارج سياقها. والإجراء الوحيد الممكن هوفحص التطور الحقيقي لنشاط ماركس السياسي وتفسير تعليقاته على مسألة الحزب فى سياقها التاريخي. 19 في هذا السياق هناك حقيقة أساسية يجب الانتباه إليها وهي أن عدم وجود تعريف محدد وواضح للحزب السياسي لم يكن محض صدفة ولا نتاج كسل فكري، ولكن ذلك يعكس حقيقة أنه خلال فترة طويلة من حياة ماركس لم تكن الأحزاب السياسة بمعناها الحديث قد وُجِدَت بعد سواء للبرجوازية أوللبروليتاريا. إن الحزب الجماهيري الحديث بتعريفه الواضح للعضوية وتنظيمه ودستوره هوظاهرة حديث، ظهرت إلى حيز الوجود أساساً لكي تواجه تحدي الاقتراع العام والديمقراطية البرجوازية كاملة التطور، وافترضت مسبقاً وجود شبكة اتصالات فعالة وإعلام جماهيري وانتشار التعليم. أما قبل ذلك فالحزب السياسي الحديث لم يكن مطلوباً من قِبَل النظام السياسي البدائي نسبياً. فكل ما كان ضرورياً هوإما جمعيات فضفاضة وغير رسمية قائمة على شبكة من الوجهاء المحليين (عادةً من ملاك الأراضي)، أوتجمعات صغيرة فى نوادي وصالونات المثقفين ذوي النفوذ. من غير المعقول إذاً أن ننتظر من ماركس مفاهيماً تسبق تجربة زمانه. وهذا كلام صحيح خصوصاً لأنه من الأصعب علينا أن نرى المستقبل فى مجال الأشكال الملموسة للتنظيم من أن نراه فى مجال التطور الاقتصادي والاجتماعي العام.

ولرسم الخطوط العريضة لتطور مفهوم ماركس للحزب يمكن تقسيم حياته السياسية إلى أربعة فترات أساسية: 1) من 1847 – 1850 وهي فترة العصبة الشيوعية؛ 2) من 1850 – 1864 وهي فترة الهدوء الطويلة في الصراع الطبقي؛ 3) من 1864 – 1872 الاتحاد الأممي للعمال؛ 4) من 1873 وصاعداً وهي فترة بدايات الاشتراكية الديمقراطية الجماهيرية.

3- العصبة الشيوعية:

بحلول عام 1846 أسس ماركس وإنجلز لجان المراسلة الشيوعية، وكان مركزها بروكسل، وبعلاقات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا. ومن خلال هذه اللجان تم الاتصال بـعصبة العدالة وهي جمعية أممية سرية تكونت أساساً من الحرفيين الألمان. ومع حلول 1847 تم كسب قيادات العصبة ودُعِيَ ماركس وإنجلز للانضمام فوافقا على شرط أن يتم التخلي عن الأشكال التآمرية القديمة للتنظيم. وقد غيرت بعد ذلك عصبة العدالة اسمها إلى العصبة الشيوعية، وأقامت مؤتمر إعادة تنظيم بمشاركة ماركس وإنجلز. كانت أهم النقاط التي نوقشت بالمؤتمر هي تحقيق بنية تنظيمية “ديمقراطية شاملة… بهيئات منتخبة وقابلة للتغيير” والنضال ضد “كل التواقين إلى التآمرية”.20

وقد حارب ماركس وانجلز من أجل التحول نحوالدعاية المفتوحة للأفكار الشيوعية داخل الطبقة العاملة. لذلك نرى أنه بحلول عام 1847 تجمع عدد من الأفكار الأساسية للنظرية الماركسية للحزب. أولا حاجة البروليتاريا فى أي مكان إلى تنظيم أممي، وثانياً الربط بين الصراع الطبقي والتحرر الذاتي للطبقة العاملة، والحاجة إلى تنظيم ديمقراطي يعرض أهدافه بشكل واضح.

أطلقت العصبة على نفسها تسمية منظمة دولية وأحياناً أخرى “الحزب الشيوعي الألماني”، ولكنها في الواقع كانت أضعف من أن تكون نواة للأممية الأولى أوحزباً قومياً قوياً. ولكنها كانت بأعضائها الـ200 أوالـ21300 المنتشرين في بلاد عدة لا تعدوأن تكون نواة لحزب. في البداية كانت الإستراتيجية المتبعة من قِبَل الشيوعيين هي العمل بقدر الإمكان داخل الحركات الموجودة في البلدان المختلفة. فهكذا في بريطانيا عمل أرنست جونز من خلال الشارتيين، وفى فرنسا انضم أعضاء العصبة إلى الاشتراكيين الديموقراطيين التابعين لليدرورولين ولويس بلانك. وسرعان ما ظهر ضعف العصبة حينما غمرت في أحداث أوربا عام 1848. وكما كتب إنجلز “إن البضعة مئات الذين شكلوا أعضاء العصبة اختفوا في الخضم الجماهيري الذي اشترك في الحركة”.22 وليس معنى هذا أن أعضاء العصبة لم يكن بيدهم شئ يقدمونه. بل على العكس فقد لعبوا كأفراد دوراً هاماً فى تطوير الثورة. وكما وضعها ستيفن بورن لـماركس “إن العصبة لم تعد موجودة ولكن على الرغم من ذلك فهي موجودة في كل مكان”.23

إن عدم وجود تنظيم فعال كقاعدة وصغر حجم الطبقة العاملة وعدم نضجها السياسي مع وجود حالة شديدة الثورية… دفع كل هذا أدى ماركس إلى الابتعاد من مخططاته المرسومة فى البيان الشيوعي. فبدلا من ظهوره كمؤيد ومحرض للثورة العمالية، وكممثل لحزب طبقة عاملة مستقل اضطر ماركس إلى العمل بأقصى يسار الديمقراطية الراديكالية من خلال جريدة نيوراينيش زيتونج، والعمل على دفع الثورة البرجوازية إلى النقطة التي تتفجر فيها التناقضات تحت أقدامها.

كان ماركس واعياً للمشاكل المتضمنة فى موقفه، وفى عام 1849 عندما أعربت البرجوازية الراديكالية الألمانية عن عدم مقدرتها على القيام بثورة، استقال هووزملاؤه وولف وشابر وبيكر من لجنة منطقة راينلاند التابعة للاتحاد الديمقراطي. وقد كتبوا “فى رأينا أن شكل التنظيم الحالي للاتحادات الديمقراطية يحوى الكثير من العاصر غير المتجانسة إلى الدرجة التي يستحيل معها عمل نشاط يعيد تطوير أهدافها. وفى رأينا أن تشكيلات أضيق مكونة من منظمات عمالية ستكون أكثر فائدة لأن تلك المنظمات تتكون من عناصر أكثر تجانساً”.24 وبدءاً من هذه النقطة، أصبح النضال من أجل تكوين المنظمة السياسية المستقلة للطبقة العاملة أساسياً للنظرية والممارسة الماركسية.

وقد منع الانهيار السريع للثورة الألمانية تحقيق هذا التوجه بصورة عملية وفورية. ولكن في خريف 1849 أعاد ماركس -من منفاه في لندن- تشكيل اللجنة المركزية للعصبة الشيوعية. وبدأ إعادة تنظيمها بألمانيا مضطراً في هذه المرة كحزب سري مركزي. في مارس 1850 وفى بيان اللجنة المركزية للعصبة الشيوعية (المعروف باسم بيان مارس) جمع ماركس خبرة هذه الفترة والدروس التنظيمية المستقاة منها :

وفي نفس الوقت كان التنظيم الصارم للعصبة متراخيا بشكل ملحوظ، وقد ظن جزء كبير من الأعضاء الذين شاركوا فى الحركة الثورية أن وقت الجمعيات السرية قد مات وأن النشاطات العامة العلنية وحدها فعالة. وقد سمحت الحلقات الفردية والجمعيات لاتصالاتها باللجنة المركزية بالتراخي وتدريجياً انقطعت نتيجة لذلك. وبينما كان الحزب الديمقراطي -حزب البرجوازية الصغيرة- ينظم نفسه أكثر فأكثر فى ألمانيا؛ فَقَدَ حزب العمال موطئ قدمه الوحيد وبقى منظماً في الأغلب في بلديات متفرقة بأهداف محلية، ولهذا في الحركة العامة وقع تحت سيطرة وقيادة الديمقراطيين البرجوازيين الصغار بالكامل. يجب أن توضع نهاية لهذا الوضع المتردي، ويجب إعادة استقلالية العمال…

إن إعادة التنظيم ممكنة فقط عن طريق مبعوث، وتؤكد اللجنة المركزية على أهمية أن يرحل هذا المبعوث فى الحال، فى وقت تكون فيه ثورة جديدة على الأبواب، فى وقت يجب أن يعمل فيه الحزب العمالي بأكثر الوسائل تنظيماً، وأكثر الطرق الممكنة استقلالية، لوأراد ألا يُستَغَل من قِبَل البرجوازية مرة ثانية كما حدث فى 1848. 25

في بيان مارس يسجل ماركس أقصى نقطة اقتراب من مفهوم لينين للحزب الطليعي (على الرغم من وجود اختلافات كبيرة بالطبع). ومفتاح هذه الأطروحات التنظيمية هوأنها نتاج أكبر انخراط مباشر لماركس في العمل السياسي الثوري وأنها صممت كدليل للعمل في موقف يفترض فيه أن “ثورة جديدة على الأبواب”. إن الخطة الموضوعة لتشديد تنظيم العصبة وتقوية استقلالها لا تشكل بنفسها جهازاً تنظيمياً منعزلاً، ولكنها جزء مكمل في منظور العمل الثوري الحيوي الذي تقوم بمقتضاه الطبقة العاملة بتقلد القيادة في الثورة الديمقراطية لدفعها في اتجاه اشتراكي.

جنباً إلى جنب مع الحكومات الرسمية الجديدة التي عليهم أن يؤسسوا بالتوازي حكوماتهم العمالية، سواء كان ذلك على هيئة لجان محلية أومجالس محلية أوعلى هيئة نوادي عمالية أولجان عمالية… الأسلحة والذخيرة لا يجب تسليمها مهما كانت الظروف، وأي محاولة نزع سلاح يجب أن تجابه ولوبالقوة إن لزم الأمر. تدمير تأثير البرجوازيين الديمقراطيين على العمال، منظمة عمالية مستقلة مسلحة فوراً، فرض أصعب شروط ممكنة على حكم الديمقراطية البرجوازية المؤقت بطبيعته- هذه هي النقاط التي يجب أن تضعها البروليتاريا ومن ثم العصبة نصب أعينها خلال وبعد الانتفاضة الوشيكة. 26

لذا فإن وجه التشابه بين مفهوم ماركس للحزب فى هذه النقطة ومفهوم لينين بعد خمسين عاماً أوأكثر ينبع من تشابه ظروفهم. وليس من قبيل الصدفة أن يشتق تروتسكي نظريته في “الثورة الدائمة” من بيان مارس. وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن كثيراً ما كان لينين يستشهد بكتابات ماركس وإنجلز في هذه الفترة من أجل تقديم الدعم النظري لتكتيكات البلاشفة في الثورتين الروسيتين.

لكن ماركس لم يؤله أبداً أي شكل تنظيمي على وجه التحديد أوأي حزب بعينه. وكما تغيرت الظروف تغير مسلكه. في صيف 1850 عندما أصبح واضحاً أن المنظور الذى ترتكز عليه الخطط التنظيمية فى البيان كان خاطئاً وأنه لن يكون هناك اندلاع مبكر للثورة تخلى ماركس عن هذه المقترحات بسرعة. وأدى هذا بشكل حتمي إلى انشقاق فى اللجنة المركزية بين الذين اعترفوا بانحسار الموجة الثورية وبين الذين رفضوا مواجهة الحقيقة. وأراد الفريق الثاني بقيادة ويليس وشابر أن يعجل من الثورة فمارس مختلف أشكال الخطط المغامرة: مثل وضع خطة غزومسلح لألمانيا.

وقد وضع هذا الانشقاق نهاية العصبة الشيوعية كمنظمة فاعلة. وعلى الرغم من قيام محاولة لإنقاذها، وذلك بنقل اللجنة المركزية إلى كولون، سرعان ما استقال ماركس وبعد ذلك بفترة قصيرة تم حل العصبة نفسها.

4- سنين التراجع:

عند هذه النقطة بدأ ماركس فترة من حياته مكرسة بأكملها تقريباً لأبحاثه الاقتصادية علاوة على سعيه لكسب عيشه. وقد لخص نظرته للأعوام القادمة فى آخر عدد من نيوراينيش ريفيوفى نوفمبر 1850:

بالنظر إلى الازدهار العام المنتشر حالياً، والذي يسمح لقوى إنتاج المجتمع البرجوازي بالتطور بقدر ما يمكن أن يسمح لها إطار المجتمع البرجوازي، فإنه لا يمكن الحديث عن ثورة حقيقية. إن ثورة جديدة ستصبح فى طور الإمكان فقط كنتيجة لأزمة جديدة. لكن قدومها حتمي كحتمية قدوم الأزمات نفسها. 27

كانت أوساط المهاجرين دائماً ذات سمعة سيئة بالشجارات التافهة والفضائح والصراعات المدمرة. لذلك كان من الضروري لصحة ماركس النفسية ونجاح أعماله النظرية أن ينسحب من هذا الوسط المؤذى. واستقبل ماركس وإنجلز هذه الراحة من تلك المعارك الحزبية بارتياح شديد. وكتب ماركس إلى إنجلز “إنني مسرور جداً بعزلتنا التامة والمعلنة والتي نجد أنفسنا فيها الآن نحن الاثنين. إنها تتفق تماماً مع مبادئنا وموقفنا”.28 ورد إنجلز “أخيراً أخذنا -لأول مرة منذ فترة طويلة- فرصة لنثبت أننا لسنا فى حاجة إلى تأييد أي حزب كان من أي بلد كانت، وأن موقفنا مستقل بالكامل عن مثل هذه القمامة”.29 ويحذر فرانز مهرنج من أن تؤخذ هذه الملاحظات الخاصة على محمل الجد. 30 ولكن بعض المعلقين من أمثال برترام د. وولف وشلوموافنيرى رأوا أن يقدموها كآراء ماركس “الحقيقية” في الحزب. لكن هذه المحاولة تنزع هذه التعبيرات الجافة بعيداً عن السياق التاريخي العام الذي كُتِبَت فيه وملابساتها الخاصة (أي عن الخطابات الخاصة بين الأصدقاء المقربين)، 33 وتضعها في مواجهة نصوص لها وزنها واعتبارها الأكبر ومكتوبة بغرض النشر. عند أخذ هذه التعليقات -وتعليقات أخرى لماركس وإنجلز- حرفياً، يمكن أن تؤخذ على أنها تعارض العمل السياسي بأكمله وهوالشيء السخيف للغاية. فحتى أيام الخمسينات والستينات عندما كان ماركس منهمكاً حتى النخاع في كتاب “رأس المال” لم ينسحب من الحياة السياسية بالكامل مطلقاً. كان يواصل إسهاماته فى الجرائد الشارتية ويراقب إرنست جونز الذي قال عنه (ماركس) في 1857 بأنه يجب أن “يؤسس حزباً يمتد إلى المناطق والأحياء العمالية”.34

لكن ماذا كانت العوامل الرئيسية فى غياب ماركس 12 عاماً عن أي حزب سياسي؟

أولاً، وكما أسلفنا، بسبب رأيه في أن المجتمع البرجوازي قد دخل في مرحلة طويلة من الاستقرار والتوسع. ثانياً، كانت هناك الأهمية العظيمة التي أولاها ماركس لأعماله النظرية. وعندما جاءه مهاجر ألماني في نيويورك يريد إحياء العصبة الشيوعية قال ماركس :”[أنا] مقتنع تماماً بأن عملي النظري له فائدة أكبر للطبقة العاملة من المشاركة فى تنظيماً عفي عليه الزمن”.35 ثالثاً، كانت هناك فجوة كبيرة فرقت مفهوم ماركس عن الحركة الثورية عن المفهوم الذى كان يؤمن به غالبية الثوريين فى ذلك الوقت.
بما أن القوى المحركة للتاريخ عند ماركس كانت الصراع الطبقي وكان هدفه هوالتحرر الذاتي للطبقة العاملة، فأن وظيفة الحزب هي قيادة وخدمة البروليتاريا، وليس “وضع مبادئ عصبوية تخصه ليستطيع من خلالها تشكيل الحركة العمالية”. ولكن الحركة الثورية فى منتصف القرن التاسع عشر كانت تحت سيطرة مفاهيم وتراث مختلفين تماماً. كانت الاتجاهات الشائعة في ذلك الوقت إما بقايا التراث اليعقوبي التآمري الذي انبثق عن الثورة الفرنسية، أومن الاشتراكيين الطوباويين البرجوازيين صغار الذين آمنوا بالتوفيق بين رأس المال والعمل على أساس مثلهم المستنيرة. كان الفريقان نخبويين من حيث موقفهما من الطبقة العاملة. الأولون أرادوا العمل من وراء وبالنيابة عن الطبقة والآخرون أرادوا أن تبقى الطبقة سلبية حتى يتم إقناع ذوي النوايا الطيبة باستخدام قوة الإقناع. كان ماركس قد طرح جانباً تلك الأفكار منذ زمن بعيد، وكان مستعداً لخوض معركة معهم فى سياق حركة للطبقة العاملة. ولكنه اعتبر -في خارج هذا الإطار (فى جمعيات ونوادي صغيرة)- أنه سوف يضيع وقته لوأنخرط معهم بأي شكل من الأشكال.

5- الأممية الأولى: الممارسة والنظرية:

الذي سحب ماركس من عزلته التي فرضها على نفسه كان دعوته إلى الاجتماع التأسيسي لاتحاد العمال الأممي الذي عقد في سانت مارتينز هول في 26 سبتمبر 1864. لم يكن تأسيس الأممية بواسطة ماركس ولا إلهاماً ماركسياً، ولكنه جاء كنتيجة تصاعد عام للنضال الاقتصادي للطبقة العاملة الأوروبية، ونتيجة اهتمام الطبقة العاملة بالقضايا الدولية كتأييد الشمال فى الحرب الأهلية الأمريكية؛ وقضية الاستقلال البولندي؛ وتوحيد إيطاليا؛ ومنع استخدام العمال المهاجرين لكسر الإضرابات. جاءت المبادرة الفورية لاجتماع سانت مارتينز هول من أعضاء من نقابيين في لندن وباريس. وكان ذلك التميز والعفوية هما العاملان الأساسيان اللذان جذبا ماركس، فكتب إلى إنجلز “أعلم أن في هذه المرة تشارك ‘القوى’ الحقيقية في لندن وباريس. ولهذا السبب قررت التخلي عن موقفي المعتاد الرافض لجميع مثل هذه الدعوات… لأن من الواضح أن هناك صحوة للطبقات العاملة”.36

كان لهذه المعالم الإيجابية جانب سلبي متمثل في الارتباك وعدم التجانس النظري والسياسي. فمن بين المشتركين في الأممية كان هناك أتباع مازينى من القوميين الإيطاليين، وفرنسيون برودونيون الذين أرادوا التوفيق بين رأس المال والعمل، وأوينيون مثل وستون37 الذين عارضوا فكرة الإضرابات، وأيضاً جمعيات سرية اتبعت الشكل الماسوني مثل الفيلادلفيين.38 اضطر ماركس إلى استخدام اللباقة وكثير من المكر حتى يتسنى له أن يعمل في مثل هذا الهيكل غير المنظم ليوجهه إلى الطريق الذى تبناه. كان الأمر محتاجاً لكثير من التسوية عند استلامه لمهام رسم الخطوط العريضة للأممية، و”الخطاب الافتتاحي”39، وذلك لتجنب مضايقة المشاركين الآخرين.

لقد كان من الصعب علينا أن نصوغ أفكارنا بحيث تظهر فى شكل مقبول من وجهة نظر الموقف الحالي للحركة العمالية. خلال بضعة أسابيع سيعقد نفس الناس اجتماعا للتوكيل مع برايت وكوبدن وسوف يمر بعض الوقت قبل أن تسمح الحركة الناهضة بالحديث الواضح القوى ثانية.40

كانت طريقة ماركس هي التركيز على الطبيعة الطبقية للحركة وأمميتها، مع التركيز على أطروحة التحرر الذاتي المنتشرة آنذاك،41 بدون التركيز على الأهداف أوالطرق الثورية. لهذا نصت القواعد على أن “تحرير الطبقة العاملة يجب أن ينتزع بواسطة الطبقة العاملة ذاتها”، وأن “التحرر الاقتصادي للطبقات العاملة هوالهدف الأسمى الذى يجب أن تكون كل حركة سياسية خاضعة له كأداة”، وأن “تحرير العمل ليس مشكلة محلية ولا قومية بل مشكلة اجتماعية تضم جميع البلدان التي يوجد فيها المجتمع الحديث”.42 ولكنهم لا يذكرون تجميع وسائل الإنتاج -الأمر الذي كان ليغضب البرودونيين، ولا الثورة التي كانت لتخيف النقابيين الإنجليز. وقد نجحت هذه الإستراتيجية تماماً. وجنّبت الأممية نفسها عن أن تكون كما قال مهرنج: “جسم صغير برأس كبير”.43 ولكن في نفس الوقت استطاع ماركس تدريجياً، من خلال تفوق تصوره الأشمل للحركة أن يفرض سيطرته الفكرية على المجلس العمومي. وبنموقوة الأممية -مستفيدة على وجه الخصوص من موجة الإضرابات التي تولدت من الأزمة الاقتصادية 66 – 1867- أقنع ماركس مؤتمرات متتالية بتبني سياسات أكثر اشتراكية. وقد أقر مؤتمر لوزان (1867) أن : “التحرر الاجتماعي للعاملين لا ينفصل عن تحررهم السياسي”.44 وشهد مؤتمر بروكسل (1868) هزيمة البرودونيين في مسألة الملكية الجماعية للأراضي والسكك الحديدية والمناجم والغابات، وقد قرر مؤتمر لندن (1871) أن يضيف الفقرة التالية إلى القواعد:

في نضالها ضد القوة الجمعية للطبقات المالكة تستطيع البروليتاريا أن تتصرف كطبقة فقط إذا شكلت حزباً سياسياً معارضاً لكل الأحزاب القديمة التي شكلتها الطبقة المالكة.

إن تشكيل البروليتاريا فى حزب سياسي لهوضرورة لا يمكن الاستغناء عنها من أجل انتصار الثورة الاجتماعية وهدفها النهائي: إلغاء الطبقات. 45

ولكن على الرغم من هذا التقدم فقد بقيت الأممية خليطاً من اتجاهات مختلفة إلى الدرجة التي يستحيل معها أن تقترب من أن تكون حزباً شيوعياً عالمياً. ولم يحاول ماركس أبداً أن يفرض مثل هذا المفهوم عليها. ولكنه وافق على أن الأممية لا تعدوكونها اتحادا عريضاً للمنظمات والأحزاب العمالية فى مختلف البلدان وأنه عليها أن “تدع لكل فريق أن يشكل برنامجه النظري بحرية”.46
إن الحالة الفضفاضة -التي كانت قوة للأممية سمحت لماركس بأن يحافظ على تكتلاتها العديدة في نفس الوقت الذي وفر فيه التوجيه العام- كانت أيضاً نقطة ضعف لها وجعلت الأممية هدفاً سهلاً للاختراق من قِبَل ميخائيل باكونين ومنظمته الفوضوية الأخوة العالمية والتي دخلت الأممية في 1868 من داخل الحلف الأممي للاشتراكية الديمقراطية. وكانت عاملاً أساسياً فى الانهيار النهائي لها. كان باكونين مغامراً رومانسياً أومتآمراً أكثر من كونه منظراً. وكان البرنامج الذى وضعه ساذجاً ومشوشاً، دعي إلى “المساواة بين الطبقات”، وأيد الإلغاء المباشر للدولة، وكذلك إلغاء حق الميراث… كل هذه كمطالب أساسية للحركة، وفوق كل هذا الابتعاد التام عن السياسة. نظر ماركس إلى هذه الأفكار بازدراء: “سخافة تم جمعها بطريقة سطحية من اليمين ومن اليسار… كتاب لأطفال التمهيدي… الفوضى التي جمعها من بقايا البرودونيين وسان سيمون وغيرهم”.47 ولكنه لم ينكر حق الفوضويين فى مناقشة قضيتهم داخل الأممية. لقد كان صراعا -ليس على المبدأ- ولكن على نوع التنظيم الذى ستسير عليه الأممية، وهذا هوأساس الصراع المدمر بين ماركس وباكونين. استغل باكونين العدد الهائل من التوترات والانقسامات فى داخل الأممية، وبدأ حملة ضد “سلطوية” المجلس العمومي تهدف إلى استغلال الانتقادات المختلفة للمجلس العمومي. ولكن فى خلال إطار الحملة “المضادة للسلطوية” حاول باكونين فرض “الديكتاتورية الشاملة الخفية”48 الغير منتخبة لجمعياته السرية.

حقيقة الأمر كما يصورها مونتي جونستون أن “كان الأمر إما وجوب أن تُدار الأممية كمنظمة ديمقراطية عامة بما يتوافق مع القواعد والسياسات الموضوعة من قِبَل المؤتمرات، أوالسماح لباكونين بأن ‘يشل نشاطها بمؤامراته الخفية’ وكذلك السماح للاتحادات والفرق بعدم قبول قرارات المؤتمرات التي اختلفوا معها”.49

اكتسبت نشاطات باكونين أهمية بسبب تزامنها مع العنصر الأساسي الآخر في فشل الأممية وهوكوميونة باريس. لقد أدى تعاطف ماركس مع الكوميونة في الحرب الأهلية في فرنسا إلى إلصاق الكوميونة بالأممية وبالتالي إلى انتشار “الذعر الأحمر” وحملة مطاردة ضد الأممية فى أنحاء أوربا. في الوقت ذاته، أدى ظهور ثورة اجتماعية واقعية -بإشكاليات سياسية مطروحة بصورة أوضح- إلى تحطيم الوحدة الهشة التي ارتكزت عليها الأممية.

للتعامل مع هذا الوضع طالب ماركس فى مؤتمر لندن بسلطات إضافية للمجلس العمومي، وتمت الموافقة على هذا. ولكن ذلك أدى بدوره إلى دفع الذين استاءوا من “تدخل” المجلس العمومي إلى المعسكر “المضاد للسلطوية” بزعامة باكونين. وبحلول عام 1872 قرر ماركس أن الأممية قد حان أجلها (على الرغم من عدم إعلانه لذلك)، ولكنه كان مصمماً على إلا تقع فى أيدي المتآمرين سواء الباكونينيين أوالبلانكيين الذين كانوا يحاولون تسوية الإنجازات الإيجابية للأممية بمغامرات لا طائل من وراءها. وقد حقق ماركس هذه الأهداف فى مؤتمر “هيج” وذلك بتأمين طرد باكونين (على أساس أسباب مشكوك فيها) 50 وأيضاً بنقل مقر الأممية إلى أمريكا حيث انتهت في سلام في عام 1876.

كان اتحاد العمال الأممي بدون شك أهم أعمال ماركس السياسية طوال حياته. وقد أعطت قوة دافعة كبيرة لتطوير الحركة فى كل مكان. وخلقت وعياً أكثر انتشارا بكثير لبعض مبادئ ماركس الأساسية عنها فى أي وقت مضى. وفوق هذا كله فقد كرست تقليد الأممية وكذلك تقليد التنظيم الأممي في قلب حركة الطبقة العاملة الاشتراكية. كانت تلك إنجازات ضخمة، ولكنه من الواضح أن الأممية احتوت على بذور التفكك فى أساس إنشائها. ولتقييم مفهوم ماركس للحزب فإنه من الضروري اختبار قوة وضعف الأفكار النظرية التي بنى عليها عمله فى خلال هذه الفترة.

بما أن ماركس كان دائماً يتناول الحزب مقروناً بالطبقة العاملة، وأن الطبقة العاملة تُعّرف أساساً بوضعها الاقتصادي، فإن المشكلة النظرية الأساسية تكمن فى طبيعة العلاقة بين الاقتصاد والسياسة وعلى وجه التحديد بين الصراع الاقتصادي للطبقة العاملة وتطور وعيها السياسي وتنظيمها. وهناك عدة كتابات في هذه الفترة تشير إلى تبني ماركس الرأي القائل بأن الوعي السياسي يظهر بشكل تلقائي من الأوضاع الاقتصادية والصراع العمالي. هكذا يقول ماركس في خطبة له أمام ممثلين من النقابيين الألمان عام 1869:

“إن النقابات هي مدارس الاشتراكية. ففيها يعلم العمال أنفسهم ويصيرون اشتراكيين لأن الصراع مع رأس المال يحدث كل يوم على مرأى من عيونهم… إن غالبية العمال مهما كان انتماؤهم الحزبي، قد فهمت أخيراً أن وضعها المادي يجب أن يتحسن. ولكن بمجرد أن يتحسن وضع العامل المادي فسوف يستطيع أن يكرس نفسه لتعليم أطفاله، ولن يحتاج أطفاله وزوجته للذهاب إلى المصنع، ويستطيع هونفسه تطوير فكره بشكل أفضل، ويولي صحته رعاية أفضل ويصبح اشتراكيا دون أن يلحظ ذلك”.51

أعاد ماركس طرح المفهوم النظري الأساسي نفسه في رسالة إلى ف.بولت عام 1872، بالرغم أنه توجد بعض العبارات هنا لا يجب أخذها حرفياً:

إن هدف الحركة السياسية للطبقة العاملة هوبالطبع انتزاع السلطة السياسية لصالح هذه الطبقة، وهذا يتطلب تنظيماً مسبقاً للطبقة العاملة متطوراً إلى نقطة معينة ونابعاً من نضالاتها الاقتصادية. ومن ناحية أخرى فإن كل حركة تظهر فيها الطبقة العاملة كـطبقة ضد الطبقات الحاكمة وتحاول الضغط عليها من أسفل هي حركة سياسية. على سبيل المثال، فإن المحاولة داخل مصنع معين أوحتى قطاع معين لفرض يوم عمل أقصر ضد رأسماليين معينين من خلال الإضرابات، الخ… هي حركة اقتصادية صِرْف. ولكن من ناحية أخرى فإن محاولة فرض قانون (أوما إلى ذلك) ليوم عمل من ثمان ساعات هي حركة سياسية. وبهذه الطريقة تنموبكل مكان حركة سياسية من حركات اقتصادية منفصلة للعمال. وبعبارة أخرى، حركة الطبقة تملك قوة فرض مصالحها في شكل عام، وفي شكل يملك قوة الإخضاع الاجتماعي (التشديد لكارل ماركس).52

تكمن قوة رؤية ماركس في ماديتها، وفي تأكيدها على التعلم من خلال التجربة والنضال. ولكن يكمن ضعفها في حتميتها الاقتصادية وتفاؤلها بالتطور. لم يوضح التاريخ فقط عملية التطور التي رسمها ماركس، فبجانب هذا أوضح العديد من القوى المضادة التي تعمل على قطع طريق تطور التحول من الوعي النقابي إلى الوعي الاشتراكي. وبالأخص، في قدرة المكاسب الاقتصادية –حتى تلك التي اكتُسِبَت من خلال النضال- على العمل كمسكنات لا منشطات، بالإضافة إلى تقليل ماركس من خطورة سيطرة الأيديولوجية البرجوازية على البروليتاريا وبالتالي قدرتها على تقسيم وتجزئة الحركة. في 1890 علق إنجلز قائلاً “يقع اللوم جزئياً على ماركس وأنا لتأكيد الشباب أحياناً على الجانب الاقتصادي أكثر من اللازم. كان علينا أن نؤكد مبدئنا الأساسي في مواجهة أعدائنا الذين أنكروه، ولم يكن لدينا دائماً الوقت ولا المكان والفرصة لإعطاء حق العوامل الأخرى التي تدخل في التفاعل”53، ويقع الجزء الأكبر من لائمة مسألة تطور الوعي الاشتراكي على ماركس لتأكيده الأكثر من اللازم على “المبدأ الأساسي” على حساب “العوامل الأخرى التي تدخل في التفاعل”.

لقد بنى ماركس أفكاره حول التنظيم ونشاطه في الأممية معتمداً على تبسيطه المخل والتفاؤل الشديد الذي حوى رؤيته بكيفية تحول الطبقة العاملة من “طبقة في ذاتها” إلى “طبقة لذاتها”. كانت المسألة الأساسية لماركس هي بناء منظمة سياسية معتمدة على فكرة الصراع الطبقي الذي يشرك قطاعات واسعة من العمال، وفي حالة تحقيق ذلك، اعتقد ماركس أن التنظيم سوف يتطور بنفسه في اتجاه ثوري.

لهذا فإننا نجد عنصراً قوياً من القدرية في منظور ماركس من ناحية تكوين الحزب، إذ رأى أن صراع الأفكار والاتجاهات داخل حركة الطبقة العاملة سوف يحل نفسه بتأكيد وتدعيم الاتجاهات الطبقية للعمال. كانت المشكلة الأساسية عند ماركس هي فشله في تصور إمكانية وجود إصلاحية سياسية عمالية (بعبارة أخرى الاشتراكية الديمقراطية أوالعمالوية) تمسك بقبضتها على الحركة بطريقة لا تسمح لها بتطوير نفسها ولا أن تفسح المجال للعمل الثوري، بل تمثل عقبة كبيرة في طريق الثورة. ولأن ماركس لم ير الخطر فإنه بالتالي لم ير الطريقة لمحاربته وهى خلق حزب طليعي منضبط وضيق نسبياً.

6- الاشتراكية الديمقراطية ومشكلة الإصلاحية:

منذ عام 1872 فصاعداً، لم يكن ماركس وانجلز مشتركين أوأعضاء فى أي تنظيم أوحزب، ولكنهما على الرغم من ذلك اعتبرا نفسيهما “ذوا وضع خاص كممثلين للاشتراكية الأممية”،54 وبهذه الوضعية أسدوا النصح للاشتراكيين فى أرجاء العالم. كان إنجلز في هذا المجال أنشط من ماركس لتردي صحته وتركيزه على دراساته. لكنه يبدومن المعقول اعتبار آراء إنجلز -في تلك الناحية على الأقل- ممثلة بطريقة عامة لآراء ماركس.

كانت أهم ظاهرة في تلك الفترة ظهور أحزاب عمالية اشتراكية ديمقراطية في عدد من البلدان، خاصة في ألمانيا. جمعت هذه التنظيمات بين برنامج اشتراكي معلن وجمهور الطبقة العاملة. أدت مشاهدة هذا التطور مع الخبرة العمل في الأممية -فيما يبدو- إلى إعادة تقييم أوعلى الأقل تغيير في التركيز في وجهات نظر ماركس وإنجلز. هكذا نجد أنه في عام 1873 حذر إنجلز بيبل من أن “ينخدع بنداء ‘الوحدة’… يثبت الحزب انتصاره بالانشقاق وبكونه قادراً على تحمل ذلك”.55 وفي عام 1874 تنبأ إنجلز لسورج بأن “بعد أن تكون كتابات ماركس قد خلقت آثاراً لبعض السنين ستكون الأممية القادمة شيوعية بشكل مباشر وسوف تطبق مطالبنا بحذافيرها”.56

في بريطانيا والولايات المتحدة، حيث تواجدت طبقات عاملة في غاية القوة ولكن العمال خاضعين سياسياً لأحزاب الطبقة الحاكمة وحيث التيار الاشتراكي شديد الضعف، واصل ماركس وإنجلز خط سيرهما القديم في الدعوة إلى تكوين حزب عمالي مستقل وعريض دون النظر إلى برنامجه أوإلى أسسه النظرية. كتب إنجلز سلسلة من المقالات على هذا الأساس في مجلة وضع العمل في عام 1881 مجادلاً -ومتنبأً بطريقة نشأة حزب العمال (البريطاني)- أنه “إلى جانب، أوعلى رأس، النقابات العمالية يجب أن تنبثق رابطة عامة، كتنظيم سياسي للطبقة العاملة بأكملها”.57 وفى 1893 حث كل الاشتراكيين على الانضمام إلى حزب العمال المستقل. وفيما يتعلق بأمريكا جادل إنجلز :

إن الشيء العظيم هوجعل الطبقة العاملة تتحرك كطبقة، وبمجرد حدوث هذا سوف يجدون الطريق الصحيح… إن تَوقُّع أن يبدأ الأميركيون بالوعي الكامل بالنظرية التي تطورت في الدول الصناعية الأقدم هوبمثابة توقع المستحيل… أن أصوات مليونين من العمال فى نوفمبر القادم لصالح حزب عمالي حقيقي جاد لهوأهم بكثير -في الوقت الحالي- من مائة ألف صوت لصالح منبر كامل المبادئ… ولكن أي شئ يمكن أن يعطل أويمنع ذلك التضامن القومي لحزب الطبقة العاملة -ومهما كان الأساس النظري لذلك- أعتبره خطأ جسيماً. 58

وأما فيما يخص فرنسا وألمانيا، حيث كانت الحركة أكثر تقدماً بكثير، كان سلوك ماركس وانجلز مختلفاً تماماً. وهنا رأوا – ولأول مرة – إمكانية خلق أحزاب ماركسية قوية فى هيئة الحزب العمالي الفرنسي والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. ومن أجل تحقيق تلك الإمكانية، أعطوا اهتماما خاصاً لمسائل النظرية والبرنامج. لهذا فانه عندما انقسم الحزب الفرنسي عام 1882 بين ماركسيين بقيادة جيوسد ولافارج، و”امكاناتيين” بقيادة مالون وبروس (وهم فوضويين تحولوا إلى إصلاحيين)، رحب إنجلز بالحدث على إنه شئ “حتمي” و”جيد”، وأن ذلك “الحزب الزائف [الامكاناتيين] هوليس فقط حزب غير عمالي ولكنه ليس حزباً على الإطلاق، لأنه في الواقع لا يملك برنامجاً”59، وعلق قائلا “على ما يبدوا أن كل حزب عمالي في دولة كبيرة يمكن أن يتطور فقط من خلال الصراع الداخلي، بما يتماشى مع قوانين التطور الجدلي بوجه عام”.60 ولكن في تعاملهما مع الاشتراكية الديمقراطية الألمانية، احتفظ ماركس وإنجلز بأعلى درجات الحدة النظرية.

وعندما توحد فى 1875 حزبSDAP مع حزبADAV اللاسالي لكي يشكلا حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الألماني (لاحقاً الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني)، عارض ماركس وإنجلز هذه النقلة “كتهور من جانبنا”61 متضمناً تنازلات نظرية. وقد وجه ماركس إلى برنامج الوحدة نقداً عنيفاً62 موضحاً ليس فقط المدلولات الرجعية للصيغ اللاسالية مثل “قانون الأجور الحديدي” و”الحقوق المتساوية في المردودات غير المنقوصة للعمل” و”جمعيات المنتجين المدعومة من الدولة”، بل أيضاً تناول مسألة الطبيعة الطبقية للدولة في مواجهة الدعوة إلى “دولة الشعب الحرة”، منتقداً البرنامج لافتقاده مبدأ الأممية، وشاكياً من أن البرنامج “لا يطرح شيئاً من ناحية المطالب السياسية عدا تلك القديمة والتي لا تتعدى الشعائر الديموقراطية العامة المعروفة: حق الانتخاب العام، التشريع المباشر، العدالة الشعبية، الجيش الشعبي، الخ”63. في عام 1877، ولكي يحافظ على هيمنة الماركسية في الحركة الألمانية، أخذ إنجلز على عاتقه مشروع ضد دوهرنج الضخم، وفى عام 1879 أرسل ماركس وإنجلز “خطاب دوري” لقادة الحزب منتقدين بشدة ظهور نزعات غير بروليتارية داخل الحزب رافضة للصراع الطبقي وبالتالي الطبيعة الطبقية للحزب، و”تعلن صراحة أن العمال جهلاء إلى درجة لا تؤهلهم لتحرير أنفسهم ويجب أن يتم تحريرهم من أعلى بواسطة محبي الإنسانية من البرجوازية الكبيرة والبرجوازية الصغيرة”.64 وأيضاً في عام 1879 عارضا “ضعف ليبنخت غير المتوقع فى البرلمان الألماني”65 في مواجهة قانون بسمارك المعادي للاشتراكية، وعارضا كذلك التأييد الانتهازي لسياسة بسمارك المتعلقة بالتعريفة الحمائية وذلك بواسطة المجموعة البرلمانية لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، ورداً على ذلك أعلن ماركس “أنهم أصيبوا بالبلاهة البرلمانية لدرجة تصورهم أنهم فوق كل نقد”.66

ولكن لا يجب أن يضللنا هذا السيل المتواصل من النقد. فهولا يعكس عداءً للاشتراكية الديمقراطية الألمانية، بل يعكس اهتمام ماركس وانجلز الاستثنائي بالتنظيم الذي كثيراً ما يشيران إليه بكلمة “حزبنا”. وعلى الرغم من هجومهما العنيف على كل مظهر معلن من مظاهر الإصلاحية والتسليم بالديمقراطية البرجوازية، بقي ماركس وإنجلز مرتبطين بالحزب الألمانى بـ”روابط تضامن”.67 وأصبح الحزب الألماني –بمباركتهما- النموذج للحزب الماركسي لبقية العالم. ما فشل ماركس وانجلز في استيعابه هوأن الخطر الرئيسي لا يكمن فيما قاله الحزب، ولكن فيما فعله، وفي ماهية الحزب أساساً. وقد برزت هذه المشكلة بوضوح بعد ذلك ببضع سنوات، فيما يسمى “الجدل التحريفي”، عندما طلب برنشتاين أن يتبنى الحزب سياسة إصلاحية خالصة. وفى رسالة مؤيدة كتب الاشتراكي البافاري إجناز آور لـبرنشتاين “عزيزي إدي، لا يقرر المرء رسمياً أن يفعل ما تطلبه ولا يقوله ولكن المرء يفعله. إن كل نشاطنا –حتى في ظل القانون المخزي المعادي للاشتراكية- كان نشاطاً لحزب إصلاحي اشتراكي ديمقراطي. إن الحزب الذي يتفهم الجماهير لا يمكن ببساطة أن يكون أي حزب آخر”.68 يكمن أصل المشكلة في مفهوم العلاقة بين الحزب والطبقة العاملة، ذلك المفهوم الذي لم يعارضه ماركس وإنجلز بوضوح؛ مفهوم الحزب الواسع الذي ينموباطراد، منظماً لأقسام متزايدة من البروليتاريا إلى أن يضم فى النهاية الغالبية العظمى.

وكما كتب كريس هارمن “المهم عند الاشتراكي الديمقراطي هوأن الحزب يمثل الطبقة”.69 وإذا مثّل الحزب الطبقة فيجب أن يحتوى على الاتجاهات المختلفة الموجودة بداخل الطبقة. وقد تقبل ماركس وإنجلز هذا المبدأ على الرغم من كفاحهما لتسييد الماركسية. ولهذا كتب إنجلز في 1890 :”إن الحزب من الكبر بحيث أنه من الضروري أن يكون هناك نقاش مطلق الحرية بداخله… إن أعظم حزب في البلد لا يمكن أن يوجد بدون أن تعبر فيه الآراء المختلفة الموجودة به عن نفسها”.70

إذا مثّل الحزب الطبقة في فترة من التوسع والاستقرار الرأسمالي يكون فيها جمهور الطبقة العاملة إصلاحي، فيجب على الحزب عندئذ أن يكون إصلاحياً أيضاً، حتى ولولم يعلن ذلك صراحةً. ولكن العمال الإصلاحيين شئ والقادة السياسيين الإصلاحيين شئ آخر تماماً. إن وعي العامل العادي فى كثير من الأحيان هوخليط من عناصر متناقضة، ومن الممكن لهذا الوعي أن يتغير بسرعة كبيرة تحت ضغط حاجات العامل المادية وانخراطه المباشر في الصراع والتغيرات الدرامية فى الوضع السياسى. أما على الجانب الأخر، فإن وعي القائد متبلور بشكل محدد ومترابط (وهذا ما يجعله قائداً)، ولهذا فهوأكثر مقاومة للتغيير، علاوة على ذلك فإن القائد ليس عُرضة لنفس الضغوط المادية الموجودة على العامل، بل على العكس فغالباً القائد له مركزه الذى يعطيه الامتيازات (مثلاً كعضوفى البرلمان أوكزعيم نقابي عمالي). والنتيجة لذلك، هي أن علاقة تمثيل الطبقة العاملة فى المرحلة الإصلاحية ستتحول إلى علاقة معارضة وخيانة فى المرحلة الثورية. لكي يكون مع الطبقة في موقف ثوري، يجب على الحزب أن يتقدم الطبقة نسبياً في فترة ما قبل الثورة. لا يتوقف الحزب عن تمثيل مصالح الطبقة ككل، ولكن لكي يحقق ذلك يجب أن يقصر عضويته على أولئك الذين تتغلب فيهم مصالح الطبقة ككل على المكاسب الفردية والجزئية والقومية أوالمكاسب الفورية، بمعنى آخر، الثوريين.

كون ماركس لم يطور أويبنى هذه الفكرة التى هى الفكرة الأساسية المبدئية لنظرية حزب ثوري يكمن فيما سميناه مسبقاً بـ”التطورية المتفائلة” التي شابت رؤيته في نمووعي الطبقة العاملة السياسي والذي رأى أنه يتطور نسبياً بنعومة واتساق وإلى حد ما موازي لتطور الرأسمالية. لا يمكن أن يندهش المرء أويلوم ماركس على عدم تخطيه لهذا الرأي. فخلال الجزء الأعظم من حياة ماركس لم تظهر مشكلة الإصلاحية كتهديد أساسي بأي حال من الأحوال، لقد كانت المهام الأساسية هي التغلب على التقاليد البرجوازية الصغيرة، والعصبوية، والتآمرية، والاشتراكية الطوباوية، للتنظيم الثوري -الموروثة عن الثورة الفرنسية، بالإضافة إلى مهمة تحقيق الاستقلال السياسي للبروليتاريا.

لقد كانت إسهامات ماركس عظيمة في تحقيق البروليتاريا لهذه المهام فى معظم البلدان الأوربية. ولوكان -في سياق الصراع- قد “ثني العصا” في اتجاه الحتمية الاقتصادية فإن هذا مفهوم بشكل تام. ولكنه من الضرورى أيضاً أن نفهم إنه في مجال نظريته عن الحزب، فإن تراث ماركس -مهما كانت إنجازاته الإيجابية- كان شيئاً يجب تخطيه بمرور الوقت على يد الحركة الماركسية لوكان للرأسمالية أن تسقط.

——

 الحركة الشارتية (أوالميثاقية) ببريطانيا تعد من أولى الحركات العمالية الجماهيرية في العالم، ذات مطالب نقابية ومطالب أخرى تتعلق بالتمثيل السياسي. (المترجم).

 نسبة إلى اليعاقبة Jacobins)) الذين مثلوا الجناح الراديكالي من البرجوازية الصغيرة في الثورة الفرنسية، وهم من أطلقوا حملة “الإرهاب” الثوري لحماية الثورة في نوازعها الأخيرة من أعدائها في الداخل والخارج. (المترجم).

 نسبة إلى المفكر الفرنسي برودون. (المترجم).

 نسبة إلى المفكر البريطاني روبرت أوين (1771-1858)، أحد الاشتراكيين الطوباويين الذين أسهموا إسهامات ضخمة للفكر الإصلاحي في بريطانيا وأوروبا، وكان لفكره أثر كبير على أيديولوجية حزب العمال البريطاني لاحقاً. (المترجم).

 سان سيمون (1760-1825): أحد كبار المفكرين الفرنسيين الذين أرسوا أسس الاشتراكية الطوباوية في أوروبا. (المترجم).

 نسبة إلى أوجست بلانكي (1805-1881)، وهواشتراكي فرنسي، دعا إلى إقامة سلطة العمال عن طريق انتفاضة مسلحة وقتال شوارع تقوم به “الأقلية الطليعية” من العمال نيابة عن الطبقة العاملة بأسرها. (المترجم).

 نسبة إلى فرديناند لاسال (1825-1864)، وهومفكر ألماني لعب دوراً محورياً في الحركة العمالية الألمانية. اقتصرت مطالبه السياسية على حق الاقتراع العام وإنشاء جمعيات للمنتجين تدعمها الدولة. وقد حاول بجدية البعد عن أي منحى راديكالي وكسب تأييد الطبقة الوسطى، ورأى تدخل الدولة في المجتمع الرأسمالي كحجر زاوية تحقيق الاشتراكية. (المترجم).

 كارل ليبنخت، أحد القادة الماركسيين العظام في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وقد لقي مصرعه بعد نشوب الثورة العمالية الألمانية في 1918. (المترجم).

« السابق التالي »