بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الماركسية والحزب

« السابق التالي »

3. الفصل الثاني: لينين وميلاد البلشفية

برغم أن الماركسية عموماً -كما وضعها جرامشي- هى “فلسفة للعمل”، وبالتالي معادية للقدرية، إلا أن ماركس نفسه -كما وضحنا- لم يحرر نفسه تماماً من مفهوم قدري للمنظمة السياسية بسبب الظروف السائدة وتصميمه على تفادي الحلقية. إن الحزب السياسى للبروليتاريا سينشأ تدريجياً وعفوياً من الصراع الواسع للطبقة العاملة. ففى الاشتراكية الديمقراطية قوت هذه النزعة القدرية نفسها فى دائرة التنظيم وبعد ذلك توسعت فى نظرية النموالرأسمالى والثورة البروليتارية وطبيعة النشاط الإنسانى نفسه. إن الممارسات البلشنية وأفكار لينين التنظيمية كانت بمثابة قطع مع هذه القدرية، وبذلك كانت خطوة هائلة للأمام بالنسبة للنظرية الماركسية ليس فقط مع الاشتراكية الديمقراطية. ولكن أيضاً مع ماركس. لينين فقط هوالذى أستبدل مفهوم الحزب العريض الذى “يمثل” الطبقة أوهوالطبقة ذاتها، بمفهوم حزب يتكون من أقلية (قبل المرحلة الثورية) هى طليعة الطبقة. والتى لكونها التعبير التنظيمى عن المنظور الاشتراكي للطبقة. واجب عليها الدفاع عن نفسها، والنضال ضد كل مظاهر الانتهازية.

1- خلفية البلشفية:

إن البلشفية لم تكن “فينوس” مولودة مكتملة النمومن الأمواج – لقد نمت وتطورت من خلال مجموعة من الصراعات الداخلية والخارجية، ولا يمكن رؤيتها أيضاً ببساطة كنتاج لعبقرية لينين التنظيمية. إن إعطاء لينين شكلاً مثالياً كما هوسائد فى الدوائر الماركسية إلى جانب نزعة المنظرين الستالينين فى تصوير التاريخ الثورى الروسى على إنه هناك بطلين هما الشعب الروسى ولينين (ومعظم الأفراد الآخرين ليسوا بشراً) قد خلقت صورة للبلشفية كأن لينين هومخترعها مثلما أخترع واط المحرك البخارى. فى الواقع إن القطع مع التدريجية فى مجال التنظيم كان هونفسه عملية تدريجية ونصف واعية فقط بالرغم من العديد من الصراعات الحادة والواعية. إن اللينينية هى نتاج استجابة ثورية نامية وقوية لواقع ملموس. ولفهم هذه الاستجابة يجب النظر إلى عناصر هذا الواقع التى جعلت منه شيئاً ممكناً.

إن أول عامل قفز إلى الذهن كمصدر للبلشفية هوما يسميه توني كليف (بالتقليد الاستبدالى فى الحركة الثورية الروسية). هذا التقليد كان بالقطع شديد القوة. ففى ستينات وسبعينات القرن الماضى كان أحياناً عشرات وأحياناً أخرى مئات المثقفين البطوليين والمثاليين يضعون أنفسهم ضد الحكم المطلق، فأحياناً يذهبون إلى الشعب كمعلمين ومنورين وأحياناً أخرى “يتصرفون نيابة عن الشعب” بأفعال إرهابية جريئة. وبفعل ذلك اكتسب هؤلاء النارودبيين الاحترام الأزلى وإعجاب الثوريين الروس ومن ضمنهم لينين على وجه الخصوص الذى يشير تكراراً إلى “إصرارهم المخلص وقوة عزيمتهم”. ولتقوية تلك الفكرة يمكن ضم العديد من الأجزاء من سيرته ذات دلالة: التأثير القوى على لينين من قبل كتاب الصفوة مثل: شيرلينشفكى وتكاشيف، وبالطبع قدر أخاه الذى أعدم بتهمة إرهابية. ومع ذلك فإن الحديث السطحى لا يحتمل الفحص النقدى، لأنه يغفل حقيقة أن لينين قد نبتت أسنانه النظرية بالضبط من الصراع ضد النارودنية، وأنه عارض الإرهاب الفردى طول حياته، وأنه رفض تأييد الاستيلاء على السلطة عام 1917 حتى أصبح للبلاشفة أغلبية فى السوفيتات، وأنه شن هجوماً عنيفاً ضد كل أشكال “الانتفاضية” لمحاولات انتفاضات من قبل اقليات، فى المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية عام (1921).

لم يكن الإرهاب وإنما الوضع الذى أنتج الإرهاب هوالعامل المهم فى تطوير أفكار لينين. فقد استطاع لينين أن يقاطع وبشكل فاصل النظريات الرومانسية والطوباوية للإرهاب، واستطاع أن يلتحم تماماً بنظرية الصراع الطبقي كرافع للثورة الاجتماعية، ولكنه لم يستطيع القطع مع حقيقة البوليس القيصري. فتحت القيصرية ظل القمع السياسى التام وبذلك تم حظر كل النشاطات النقابية والاضطرابية.

فى مثل هذا الوضع كان النموذج الاشتراكي الديمقراطي لحزب جماهيري عريض يمثل الطبقة العاملة بكاملها من المستحيل. “فلا يمكن إلا للطوباوى الراسخ فقط أن يدعولمنظمة عمالية واسعة.. فى ظل الحكم المطلق”. في الواقع فإنه من ناحية محاربة البوليس القيصرى، كلما صغر التنظيم كلما كان ذلك أفضل. إن الحاجة إلى الفاعلية والتمرين القويين شديدة الارتباط بمسألة الحجم والسرية. فالحاجة إلى الفاعلية تطرق إليها لينين فى “ما العمل” والتى كانت تقريباً العامل الموضوعي الأساسي فى تحديد نجاح ذلك الكتاب فى ذلك الوقت. تعطى الأساس لمفهوم الثورى المحترف كأساس للتنظيم الثورى. فقد كتب لينين ملخصاً آراءه فى هذا الصدد قائلا:-

“فى الدولة الاستبدادية. كلما اقتصرت عضوية مثل هذا التنظيم على الأفراد الذين يحترفون النشاط الثوري والذين دربوا على فن محاربة البوليس السياسى. كلما صعب القضاء على هذا التنظيم”.

إن إبراز العملية فى التأكيد على السرية والتدريب والاحتراف فى التنظيم يجب أن تكون واضحة. ولكن هذا العنصر من العملية المجردة أوضرورة التنظيم فى نظرية لينين يمكن بسهولة تضخيمها. فإذا كانت الملاءمة الثورية هى الشئ الوحيد الذى تم أخذه فى الاعتبار، فيبقى على الأرجح أن نقول مع ليونارد شابيرد (والعديد من المعلقين الآخرين) “إن مفاهيم لينين قد اقتربت من أفكار نارودنايا فولجا التآمرية، وبعدت عن مفهوم ماركس للدور التاريخى للطبقة بكاملها”. واقع الأمر لم يكن كذلك. فذلك القلب الصلب من الثوريين المحترفين لم ينظر لهم كفاية فى حد ذاتهم، وإنما كوسيلة. وقد شدد لينين على إنه كلما قوي قلب الحزب “كلما كبر عدد الأفراد من الطبقة العاملة ومن الطبقات الإجتماعية الأخرى الذين يستطيعون الانضمام للحركة وممارسة نشاط فيها”. من هنا فإن منظور لينين كان دائماً منظور حركة طبقية عريضة ضد السلطة المطلقة. ولكن يقودها حزب طليعى. “نحن حزب طبقة، ولذلك فتقريباً كل الطبقة (وفى أوقات الحرب، وحقبات الحرب الأهلية، الطبقة بكاملها) يجب أن تعمل تحت قيادة حزبنا”. علاوة على ذلك، فإذا كانت الضرورة العملية فقط هى التى حددت فكر لينين، فأفكاره سيكون لها أهمية محلية ومؤقته. كانت البلشفية لتثبت أنها ظاهرة روسية خاصة استثناء عن القاعدة، بدلا من أساس لحركة وتقليد أممى واسع. فى الواقع لإن العناصر التآمرية فى مفهوم لينين محددة تاريخياً ويعترف لينين بذلك:-

“فى ظروف الحرية السياسية يبنى حزبنا بشكل كامل على مبدأ الأنتخاب. فى ظل الأتوقراطية يكون هذا غير عملي بالنسبة لآلاف العمال الذين يشكلون الحزب”.

وإذا كان مستوى القمع هوما جعل تأسيس حزب عريض على النمط الغربي مستحيل، فإن الوضع الإجتماعي والسياسي الخاص فى روسيا والاتجاهات فى داخل الحركة الثورية هى ما دفعت لينين نحورؤى نظرية جديدة وجعلته قادراً على أخذ خطوة أمام نموذج الاشتراكية الديمقراطية بدلا من خطوة للخلف نحوالتآمرية، لذلك يجب فحص هذا الموضوع.

إن الفرق بين مهام الحركة الثورية فى أوروبا الغربية وروسيا يكمن فى أن الرأسمالية فى الغرب كانت قد رسخت تماماً، بينما الرأسمالية الرويبة كانت ما تزال وليدة فلذلك بينما كانت الماركسية تعرض نفسها فى الغرب بشكل مباشر كنظرية إحاطة البروليتاريا للرأسمالية، ظهرت الماركسية فى روسيا للعديد كنظرية لحتمية النموالرأسمالي. وبما أن السلطات قد اعتبرت الإرهابيين الخطر الأساسى -وقد زعم الإرهابيون أن روسيا يمكنها تجنب الرأسمالية عن طريق ثورة فورية- كان النقد الماركسي للإرهاب والتوكيد على حتمية الرأسمالية محل ترحاب لفترة، فعلى الأقل كان ينظر له كأهون الشرين. وهذا أدى إلى ما أصبح معروفاً بالماركسية الشرعية وأصبحت الماركسية موضة حقيقية:-

“تم تأسيس المجلات والصحف الماركسية، وأصبح تقريباً كل فرد ماركسى، وأطروا على الماركسيين وتوددوا لهم. وأبتهج ناشروا الكتب للبيع غير العادى للأدبيات الماركسية”.

وبشكل حتمي، ومثل هذا الوضع حدث تحالف “لعناصر ظاهرة الاختلاف” وبشكل خاص فالذين سموا أنفسهم ماركسيين كانوا هؤلاء الذين نظروا إلى الماركسية كضرورة وكأمر تقدمى، ولكن الذين أيدوا الواقع الرأسمالية، والذين كانت الاشتراكية بالنسبة لهم بلاغة غير واضحة المعالم بالنسبة للمستقبل البعيد. (الممثل الرئيسى للاتجاه الثانى كان بيوترستروف. والذى كان يتعاون من قبل مع لينين وبيلخانوف، والذى أسس سنة 1905 حزب الكاديت البرجوازى الديموقراطى) هذا كان يعنى أنه منذ وقت مبكر للغاية شعر لينين أن عليه أن يختار بشكل صارم جداً هؤلاء الذين أرادوفعلاً الصراع من بين العديد من الذين تفوهوا بعبارات راديكالية. كان هذا عاملاً أساسياً فى تحديد عناد لينين المذهبى وخصوصاً إصراره على المفارقة بين ما يقوله الناس وما كانوا فعلاً مستعدين لفعله. هذه القدرة الأخيرة. التى كانت نامية بشكل واضح عند لينين والتى هى إحدى الملامح المدهشة فى كل كتاباته. كان لها أن تلعب دوراً مهولاً فى نموالبلشفية كحزب مستقل.

إن الإجابة الماركسية الثورية لمشكلة رؤية الرأسمالية كتقدمية. وفى نفس الوقت الحفاظ على استقلال البروليتاريا التام للصراع ضد الرأسمالية تقع فى نظرية هيمنة البروليتاريا فى الثروة البرجوازية. فبدءا ببليخانوف (إن الثورة الروسية ستنجح كثورة عمالية أوأنها لن تنجح على الإطلاق)، علا الرغم من تركه لهذه الرؤية بعد ذلك. والتى تبناها وصقلها لينين، هذه النظرية كان لها أن تصبح سمة البلثفية فى مرحلة ما قبل سنة 1917. إن جوهر هذه النظرية هوأن البرجوازية الروسية قد ظهرت متأخراً على الساحة. بعدما توقفت البرجوازية عن كونها قوة ثورية على النطاق العالمى. وبناء على ذلك فإن مهمة قيادة ثورة ضد الحكم المطلق ستقع على البروليتاريا التى، برغم صغرها، كانت تنموبسرعة فى الصناعات الحديثة الضخمة، وكانت تستطيع التحالف مع القوى الهائلة للتمرد الفلاحى. من أجل تحقيق هذه المهمة على البروليتاريا أن تتبنى الإطاحة بالقيصرية كمطلبها الأول والأكثر أهمية، وأن تضع نفسها فى طليعة كل صراع من أجل الديمقراطية والحرية السياسية.

2- نقد الاقتصادوية:

كانت هذه هى النظرية التى ولدت الخلاف بين لينين وبين مختلف الاتجاهات التى جمعها تحت أسم “الاقتصاديين”. إن المختلفين الأساسيين “للاقتصادية” فى ذلك الوقت كانوا دابوتشايا ميسل (فكر العمال)، جريدة تنشر فى سانت بيتر سبرج 1897 – 1902، ورادوثيى ديلو(مهمة العمال) وهى مجلة ناطقة بلسان اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس فى الخارج (1899 – 1903) وكانت الأخيرة تتخذ موقفاً يمكن وصفه بشكل أدق كنصف (اقتصادية). إن المحتوى الأساسى “للاقتصاديين” هوأنه يجب على الاشتراكية الديمقراطية ألا تركز عملها فى الصراع ضد الحكم المطلق، ولكن فى خدمة وتنمية الصراع الاقتصادى للعمال، وانبثقت العديد من الأفكار الأساسية للبلشفية من الخلاف مع “الاقتصادية”. من أجل فهم وتقييم هذه الأفكار سيكون من الضرورى النظر فى هذه الخلافات بشئ من التفصيل – ولكن حتى قبل ذلك يجب النظر إلى السياق الذى حدثت فيه هذه الاختلافات والسؤال ببساطة : لماذا كانت بهذه الأهمية؟

إن السبب الرئيسى هوأن لينين رأى أن “الاقتصادوية” تقود حتمياً إلى التخلى عن هيمنة البروليتاريا فى الثورة الديمقراطية القادمة؛ بإرساء تقسيم عمل يكون العمال فيه محددون بصراع النقابات، وأن يتركوا السياسة للبرجوازية. فى الواقع كان التأييد الصريح لمثل هذا التقسيم فى الوثيقة المعروفة باسم (الكريدو) أى (العقيدة) التى كتبها ى. د. كوسكوفا من اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين فى الخارج، هوالذى حدث لينين أن يشن الهجوم ضد “الاقتصادوية” ب “احتجاج الاشتراكيين الديمقراطيين” فى أغسطس عام 1899. وقد كتب كوسوكوفاد (الكريدو) :

بالنسبة للينين كان يعنى هذا الطريق خيانة الثورة؛ لأن نشاط المعارضة الليبرالية، (أى البرجوازية) كان عاجزاً تماماً عن معارضة ثورية متسقة للحكم المطلق. وقد تمسك بأن أى محاولة لتقليل مهام البروليتاريا والحركة الاشتراكية الديمقراطية ستعود على البرجوازية بالفائدة، ونظر إلى أى نزعة نحو”الاقتصادوية” كمؤدية فى هذا الاتجاه وبهذه الطريقة، فإن المناظرة حول “الاقتصادوية”، قد أرهمت بالإشكالية الجوهرية للماركسيين الروس خلال السبعة عشر عاماً التى تلت – أدوار ومهام البرجوازية فى الثورة – باستمرارية جوهرية موجودة بين موقف “الاقتصادوية” المبكر والموقف اللاحق للمناقشة بأن الدور القيادى يجب أن يكون للبرجوازية.

من هنا يمكننا رؤية أن لينين كان أيضاً على صواب عندما ربط “الاقتصادوية” بالاتحاد العالمى للإصلاح أو”التحريفية” فى الاشتراكية الديمقراطية. وهوما فعله بطريقة سليمة فى أول “ما العمل” لقد كرس “الاقتصادويون” الانقسام القائم بين الاقتصاد والسياسة. ودافعوا مع برانشتاين عن أهمية “الحركة” (المطالب الفورية) فى مقابل (الهدف النهائى) (الاشتراكية، أوفى هذه الحالة الإطاحة بالقيصرية).

إن الهجوم العنيف بالنسبة للينين. كان يعنى أخذ المسائل المختلف عليها من جذورها ومتابعة منطقة وحجج خصمه بلا رحمة: ولذلك فتلك المساجلات؛ بالرغم من أنها نشأت من موضوعات محددة، إلا أنها تحتوى على أهمية عامة : إن نتاج الصراعات ضد “الاقتصادويين” كان “ما العمل” الذى كان له باستحقاق تأثيراً قوياً على النظرية الماركسية، وفى الممارسة فى كل مكان فى العالم. ولكنى أطرح فى نفس الوقت أنه قد صور خطأ على أنه النص الماركسى المعيارى فى نظرية الحزب: لذلك فإن أى دراسة نقدية للنظرية الماركسية للحزب يجب أن تنظر بجدية تامة لهذا العمل.

“ما العمل” يلخص كل آراء لينين ضد “الاقتصادوية” وقضيته الخاصة ببناء منطقة ثورية على نطاق قومى تقوم على أساس كادر من المحترفين الثوريين وجريدة لكل روسيا. لذلك فالعديد من النقاط التى يحتويها لها طبيعة عملية من النوع الذى أشرنا إليه من قبل فى المقال، ولكن الموضوع الأساسى هوالعلاقة بين العفوية والوعى فى تنمية الحركة الثورية. إن الاقتصادويين “الذين تمسكوا بأن السياسة تمشى وراء الاقتصاد. وأن لينين والايسكراويين “صغروا من حجم العنصر العفوى” و”ضخموا الوعى” ولكن بالنسبة للينين فحتى هذه الطريقة لعرض المشكلة كانت غير مرضية على الإطلاق. فلم تكن أهميتها تقع بالتحديد فى المطالب التنى دمغتها على الوعى وعلى التنظيم.

إن برنامج “رابوشيى ديلو” يقول:

“نحن تعتبر أن أهم فى الحياة الروسية التى ستحدد بشكل أساسى المهام وطبيعة نشاط النشر فى الاتحاد. هى حركة العاملة الجماهيرية التى صعدت فى السنوات الأخيرة”.

ويعلق لينين:

“إنه لا يمكن الخلاف على أن الحركة الجماهيرية هى ذات أهمية قصوى، ولكن فى هذا الشأن هى كيف نفهم عبارة أن “حركة الطبقة العاملة الجماهيرية” تحدد المهام”؟ يمكن فهمها بأحد المعنيين. ما أنها تعنى الانحناء لعفوية هذه الحركة أى اقتصار دور الاشتراكية الديمقراطية على مجرد التبعية لحركة الطبقة العاملة – أوأنها تعنى أن الحركة الجماهيرية تضع أمامنا مهايا نظرية وسياسية وتنظيمية جديدة، أكثر تعقيداً بكثير من المهام التى اكتشفنا بها فى مرحلة ما قبل صعود الحركة الجماهيرية”.

إن المفهوم الجدلى للعلاقة بين العفوية والوعى، الحركة الجماهيرية والحزب، يمثل خطوة هائلة للأمام بالنسبة للنظرية الماركسية، وهى تتقدم عن أى إسهام سابق فى هذه المشكلة (وفى ضمنها إسهامات ماركس نفسه وخصوصاً إسهامات الاشتراكية الديمقراطية الألمانية). وهى فى الأساس نقطة البداية الضرورية لنظرية ثورية حقيقية فى الحزب؛ لأنها قطع راديكالى مع القدرية. “نحن الاشتراكيين الديمقراطيين الثويين، على العكس، غير راضين بهذا التقديس للعفوية الموجودة حالياً “بالنسبة للينين، فإن نموالصراع الطبقى نفسه، حتى شكله الاقتصادى، هوعملية الانتقال من “العفوية” إلى “الوعى”.

“إن الإضرابات التى حدثت فى روسيا فى السبعينات والستينات (وحتى فى النصف الأول من القرن التاسع عشر) وكانت مصحوبة بالتحطيم “العفوى” للماكينات. الخ. مقارنة بهذه “التمردات” يمكننا وصف إضرابات التسعينات ك “راضية” إلى الحد الذى يوضح التقدم الذى أحرزته الطبقة العاملة فى هذه الفترة. هذا يوضح أن “العنصر العفوى” فى الأساس. لا يمثل شئ أكثر أوأقل من الوعى فى شكله الجنينى”.

لذلك يرى لينين أن واجب الثورى هودائماً مساعدة العنصر الواعى والعمل على التغلب على العفوية. ولكن لينين لا يجادل فحسب من أجل تنظيم فى مواجهة عدم تنظيم. أوقيادة فى مواجهة “ذيلية” “الاقتصادويين”. ولكن الشئ الجوهرى فى محاربته “الاقتصادويين” وفى نظرته لطبيعة مهام الحزب هورفضه لمقولة أن الوعى الطبقى البروليتارى يمكن أن ينموتدريجياً على أساس تراكم صراعات اقتصادية. فكما كتب لوكاتش:

“إن استحالة التطور الاقتصادى للرأسمالية إلى الاشتراكية قد اثبت بوضوح فى مجادلات برانشتاين ومع ذلك فإن نظيره الغيديولوجى قد عاش بدون تناقض فى أذهان العديد من الثوريين الأوروبيين المخلصين. ولم يكن حتى معتبراً مشكلة أوخطراً”.

وكان موقف لينين فى هذا الصدد متطرفاً، ولا يقبل المساومة:

“إن وعى الطبقة العاملة لا يمكن أن يكون وعياً سياسياً حقيقياً حتى يكون العمال قادرين على الرد على كل أشكال الاستبداد، الظلم، العنف وسوء المعاملة دون النظر إلى الطبقة المتضررة إلا إذا تدربوا. علاوة على ذلك، أن يردوا من وجهة نظر اشتراكية ديمقراطية وليس غيرها. إن وعى الجماهير العاملة لا يمكن أن يكون وعياً طبقياً حقيقياً. إلا إذا تعلم العمال من حقائق وأحداث ومواضيع سياسية ملموسة أن يضعوا نصب أعينهم كل طبقة اجتماعية بكل مظاهر حياتها الفكرية والأخلاقية والسياسية. إلا إذا تعلموا تطبيق التحليل المادى لكل نواحى حياة ونشاط كل الطبقات. والشرائح ومجموعات الشعب”.

ولذلك :

إن “الوعى السياسى الطبقى لا يمكن أن يقدم للعمال إلا من الخارج، أى من خارج الصراع الاقتصادى. من خارج محيط العلاقات بين العمال والمستخدمين”.

عملياً، كان هذا يعنى أن على الاشتراكيين الديمقراطيين ليس فقط “الذهاب بين العمال” ولكن “يجب تحريك العمال ليتخذوا موقفاً فى مساندة كل ضحايا الحكم المطلق. ومن ضمنهم مجموعات مثل الأقليات الدينية والطلبة. “إن المثل الأعلى للاشتراكيين الديمقراطيين، لا يجب أن يكون سكرتير النقابة، ولكن المدافع عن الشعب.. القادر على الاستفادة من كل حدث مهما كان صغيراً، من أ جل نشر إيمانه بالاشتراكية ومطالبه الديمقراطية”. وكان أساسياً لهذه الإستراتيجية جريدة لكل روسيا ترقب بعين يقظة كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية فى روسيا وقادرة على شن حملات سياسية على النطاق القومى “بغير أداة سياسية، لا توجد حركة سياسية تستحق هذا الاسم فى أوروبا الآن”.

قد يكون من الضرورى الإشارة بشكل عابر إلى أن لينين بالطبع لم ينظر باى حال إلى تنويعة القوى هذه كتعديل أوتسوية للأساس الطبقى للحزب. على العكس، فقد كان من هذا من الممكن فقط على أساس مرحلة مطولة من التحريض الاقتصادى الواسع وسط الطبقة العاملة. “فى المرحلة السابقة” فى الواقع كان لدينا قوى قليلة – لشدة دهشتنا ‍!. وكان من الطبيعى والمشروع جداً أن نكرس أنفسنا لنشاطات بين العمال، وأن ندين بعنف أى انحراف عن هذا الطريق. فالمهمة بكاملها كانت تقوية مواقعنا وسط الطبقة العاملة؛ وعلى أى حال فإن جل هدف الإستراتيجية كان ضمان هيمنة البروليتاريا فى الصراع ضد الحكم المطلق.

إن ما يميز هذه النظرة اللينينية لفهم الموضوع، وما يفرقها عن طرق الاشتراكية الديمقراطية والأممية الثانية، لم يكن أن الماركسيين يحاربون من أجل حقوق ديمقراطية وإصلاحات، كل هذا كان أرضية مشتركة وفى الواقع طبيعة ثابتة للاشتراكية الديمقراطية. أن الاشتراكيين الديمقراطيين حاربوا من أجل إصلاحات لأنهم “تقدميين” وشكلوا جزءاً من تطور الرأسمالية إلى الاشتراكية. بعبارة أخرى، حاربوا من أجل الإصلاحات كإصلاحيين. فى حين أنه بالنسبة للينين فإن العملية بكاملها كانت جزءاً من معركة الوعى الطبقى للبروليتاريا، لتتمكن من فهم علاقات كل الطبقات والمجموعات الاجتماعية، وبذلك تهيئ نفسها لتولى السلطة. لهذا فبالنسبة للاشتراكيين الديمقراطيين نمت فجوة واسعة بين برنامج الحد الأدنى وبرنامج الحد الأقصى (بين المطالب الفورية والهدف الأساسى) بينما بالنسبة للينين، فالتحريض السياسى متعدد النواحى كان وسيلة لسد هذه الفجوة. وكذلك لضمان سيادة الهدف الثورى النهائى.

3- الاشتراكية من الخارج:

حتى الآن لقد لخصنا التطويرات التي ادخلها “ما العمل” على نظرية الحزب لدى ماركس ولدى الأشكال الدجمائية من” الاقتصادية” الموجودة فى روسيا وإلى حد ما فى الاشتراكية الديمقراطية الأوربية. ولكن يظل هناك منحنى هام فى أطروحة لينين لم نتناوله بعد هام ليس لمحوريته فى فكر وممارسة لينين، ولكن لتأثيره على الاتباع للاحقين.

نحن نتحدث عن فكرة أن” الوعى السياسي” لا يمكن أن يقدم للعمال إلا من الخارج، تلك الفكرة التى قدمت تعطى تبريرا نظريا للهجوم على العفوية. تلك الفكرة تظهر فى “ما العمل” فى شكلين. أحدهما والذى ذكرناه من قبل:

“الوعى السياسى الطبقى لا يمكن أن يقدم للعمال إلا من الخارج. أى من خارج الصراع الاقتصادى، من خارج محيط العلاقات بين العمال والمستخدمين.

والآخر هو:

“لقد ذكرنا انه لا يمكن أن يكتسب العمال وعى اشتراكي ديمقراطي بأنفسهم بل يجب أن يجلب إليهم من الخارج.إن تاريخ كل البلدان يظهر أن الطبقة العاملة بمجهودها الخاص فقط، لا تستطيع إلا أن تطور وعيا نقابيا، أى الاعتقاد بضرورة التجمع للصراع فى نقابات ضد المستخدمين. ومحاولة الضغط على الحكومة لإصدار قوانين عمل مطلوبة، الخ، على حين أن نظرية الاشتراكية تطورت من النظريات الفلسفية والتاريخية والاقتصادية التي شرحها الممثلون المثقفون للطبقات المالكة، بواسطة المثقفين. وحتى مؤسسوالاشتراكية العلمية، ماركس وإنجلز أنفسهم ينتمون اجتماعياً إلى الانتلجنسيا البرجوازية. وبنفس الطريقة، في روسيا ظهرت نظرية الاشتراكية الديمقراطية بانفصال تام عن التطور العفوي لحركة الطبقة العاملة. لقد ظهرت كنتيجة طبيعية وحتمية لتطور الفكر لدى الانتلجنسيا الاشتراكية الثورية”.

هناك فارق ضخم بين الصيغتين، فالصيغة الأولى ما هي إلا طريقة متعثرة لمحاولة قول أن العمال يحتاجون إلى فهم التشكيلة الكلية للعلاقات الاجتماعية وكل أشكال القهر، هذا الفهم الذي لا يتأتى إلا من محيط أوسع(من خارج) من المصنع، هكذا يستطيع المرء أن ينتقد الصياغة اللغوية، ولكن يبقى المضمون على تعميمه صحيحا، ولكن في الصيغة الثانية، (من الخارج) تعنى من خارج الطبقة العاملة، بالذات من المثقفين البرجوازيين وأكثر من ذلك فهي تقدم محاولة وصفة منطقية لفهم أصل وتطور نظرية الاشتراكية العلمية، وهذا يطرح إشكالية ضخمة بالنسبة لنظرية الحزب لذا فإنه من الضروري أن نتعرض لمفهوم لينين هذا بشيء من التحليل النقدي المفصل.

أولا : يجب أن تذكر هنا أن لينين كان يبرز أفكارا منقولة مباشرة من كارل كاوتسكي، حتى أنه استشهد بفقرة من كاوتسكي ليعطى مقولاته سندا نظريا.

” لكن الاشتراكية والصراع الطبقي ينشأن جنبا إلى جنب وليس واحدا من الآخر، وكلاهما ينشأ تحت ظروف مختلفة، الوعي الاشتراكي الحديث ينشأ فقط على أساس المعرفة العلمية. في الواقع إن علم الاقتصاد الحديث هوشرط للإنتاج الاشتراكي مثله مثل التكنولوجيا الحديثة، والبروليتاريا لا تستطيع أن تخلق إيمانها، مهما كانت رغبتها في ذلك، فالاثنان يتطوران من العملية الاجتماعية الحديثة. إن أداة العلم ليست هي البروليتاريا ولكن الانتلجنسيا البرجوازية”
أن هذا الرجوع لكاوتسكى مع معرفتنا بماركسيته الميكانيكية، وتطوره السياسي اللاحق يمثل علامة خطر لمن يعملون منا مستفيدين من النظر في التاريخ، وهناك العديد من اللينينيين اللاحقين الذين انتقدوا ذلك المرجع. يعلق تروتسكي على أن لينين نفسه” أقر بعد ذلك الطبيعة المنحرفة ومدى خطأ تلك النظرية “في مقالة حديثة يسمى لوتثيوما جرى هذا الاقتباس من كاوتسكي بأنه تنويري ويرجع إليه كريس هارمان على انه مقولة نخبوية.

المشكلة الأساسية هي انه إذا قبل المرء الصيغة اللينينية – الكاوتسكية بان الوعي السياسي يأتي من المثقفين البرجوازيين وان النضال السياسي يجب أن يتسيد النضال الاقتصادي، فأنه إذن لا يبقى شئ من مبدأ ماركس الأساسي أن تحرر الطبقة العاملة هوفعل الطبقة العاملة نفسها” بل على العكس –بل إن الطبقة العاملة يصبح دورها ثانويا. فتكون الطبقة الثورية حقا ليست الطبقة العاملة. ولكن المثقفين المتمردين. مؤيدين بهذا النظرة البرجوازية التقليدية للحركات الراديكالية على إنها تتكون من قيادة متمردة من الطبقة المتوسطة وقاعدة “بريئة” من العمال. وهكذا نجد أن الفصل بين العمل الذهني والعمل اليدوي الذي يشكل الأساس في المجتمع الطبقي. على العكس من محاولة تخطيه. نجده ينتقل إلى الحركة الاشتراكية ويكرس في الحزب الثوري.

في الواقع فإن كل ذلك العرض للعلم والنظرية والوعي الاشتراكي غير ماركسي على الإطلاق ولكنه يقترب من مثالية وضعية القرن التاسع عشر هكذا يصور العلم أنه يتطور بانعزال تام عن الحياة الاجتماعية – عن الممارسة – إذا تحدثنا عن العلوم الطبيعية. عن الفلسفة، أوعن العلوم الاجتماعية البرجوازية يبدوهذا صحيحا والمفكر ما ينحوإلى الانعزال في برجه العاجي. ولكن في الحقيقة هذا مجرد وهم ينتجه المجتمع الطبقي لهذا السبب يرفض ماركس أن يعترف بأي تاريخ خاص للفلسفة أوأي فرع آخر للمعرفة منفصلا عن تاريخ هذا المجتمع. وإذا تحدثنا عن نظرية الاشتراكية، فإن تلك الاستقلالية الوهمية للعلم البرجوازي لا توجد ولا يجب أن توجد لوكان لتلك النظرية أن تكون ثورية حقا. على العكس فإنها يجب أن ترتبط وتتأثر وتبنى على نشاط الطبقة العاملة. وهكذا يكتب ماركس:-”

” تماما كما يمثل الاقتصاديين الممثلين العلميين للبرجوازية، فالاشتراكيون والشيوعيون هم منظروالبروليتاريا وطالما أن البروليتاريا لم تتطور بالقدر الكافي لتكون نفسها كطبقة، وطالما أن صراع البروليتاريا ضد البرجوازية لم يأخذ طابعا سياسيا، وطالما أن قوى الإنتاج داخل المجتمع البرجوازي نفسه لم تتطور بالقدر الكافي لإعطاء دليل على الشروط المادية الضرورية لتحرر البروليتاريا وخلق مجتمع جديد، يبنى هؤلاء المنظرون مثاليين طوباوبيين. فيحاولون من أجل علاج كرب الطبقات المقهورة أن يرتجلوا أنظمة مثالية مختلفة، ويبتكروا علوما جديدة. ولكن كما تطور التاريخ، وإذ يأخذ نضال البروليتاريا شكلا أوضح، فانهم ليسوا بحاجة للتفتيش عن علم ما داخل عقولهم، فعليهم فقط أن يراقبوا ما يحدث أمام أعينهم، وأن يجعلوا من أنفسهم أداة التعبير عنه”.

ومن ناحية أخرى،فإن الفكر الاشتراكي والماركسي يدحض بوضوح نظرية لينين – كاوتسكي عن”التطور المنفصل”. ففكرة الاشتراكية والثورة الاشتراكية نفسها لم تكن شيئا أخترعه أوأكتشفه ماركس، بل نبعت من نضالات الجماهير كجناح أقصى اليسار في الثورات البرجوازية في إنجلترا وفرنسا – لاحظ حركة” المساواتيين” في إنجلترا ومجموعة “بابوف” المتساوين(الذي أشار إليها ماركس على أنها أول حزب شيوعي في العالم). دايا دونايفسكايا في كتاب” الماركسية والحرية” تسجل تأثير الحرب الأهلية الأمريكية ونضال العمال الإنجليز حول يوم العمل على تشكيل كتاب”رأس المال” وكتبت:

“إن هناك ما هوأكثر عمى عن عظمة إسهامات ماركس، أن ترفعه إلى السماء لعبقريته، كأن عبقريته تلك نضجت خارج الصراعات الحقيقية في الفترة التى عاش فيها كأنه استمد المؤامرات من نمووتطور أفكاره وليس عن العمال الأحياء الذين يغيرون الواقع الحي بأفعالهم”.

حقا لقد تعلم ماركس من العمال الثوار أن الطبقة العاملة لا تستطيع أن تستولي على الدولة فقط، ولكن أن تحطمها.إن التاريخ يمدنا بأمثلة كثيرة على أن العمال يرتفعون عفويا إلى ذروة أعلى بكثير من النقابة وسياسة النقابات: الشارتيون، ثورة1848 في فرنسا، كوميونة باريس، العمال الروس في 1905 وفى فبراير1917، الثورة المجرية 1956وأمثلة أخرى عديدة.

ولكننا يجب أن نقد الطريقة النظرية التي برر بها لينين موقفه في ذلك الوقت لا تحطم كل قاعدة نظرية لينين في الحزب.

فحقيقة أن العمال يمكن أن يصلوا إلى الوعي الاشتراكي عفويا لا يجب أن يعيدنا إلى النظرة الاشتراكية الديمقراطية التدريجية، لأن ذلك الوعي لا يتطور تدريجيا أويتراكم بصورة منتظمة وحتمية، على العكس فإن ذلك الوعي يأخذ خطوات عملاقة ومفاجئة للأمام، وقد يعانى من انتكاسات بنفس القدر من الضخامة، وفى نفس الوقت لا ينتشر الوعي بطريقة متساوية داخل الطبقة. ولذا فإن وعى العمال الاشتراكيين الطليعيين يجب أن ينظم ويمركز ليزيد من تأثيره إلى الحد الأقصى داخل الطبقة ككل. وسنعود ثانية لهذه الأفكار، وخاصة عند تناولنا لإسهام روزا لكسمبورج.

4- انشقاق البلاشفة والمناشفة:

بسبب أهمية ” ما العمل” النظرية والتاريخية والعملية. ينظر إليه على أنه الوثيقة الأساسية للبلشفية. وهذا صحيح إلى حد ما ولهذا اشتبكنا معه. ولكنه لم يكن” ما العمل” هوالذي أدى مباشرة إلى انشقاق حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي إلى بلاشفة ومناشفة” على العكس، فقد خدم ذلك الكتاب في الصراع من أجل المؤتمر الثاني للحزب. جامعا المناضلين. على أساس كل روسيا.

حاصلا على التأييد الظاهر للقادة المفكرين للماركسية الروسية- بليخانوف، مارتوف،آكسل رود، تروتسكي، الخ. لقد كانت محاولة وضع ” ما العمل” محل التنفيذ هي التي أدت إلى الانشقاق، أولئك الذين ظنوا أنهم متفقون نظريا وجدوا أنفسهم على خلاف عنيف عندما ترجم ذلك النظري إلى قرارات وقواعد عملية في المؤتمر الثاني بلندن1903.

ولقد وصف لينين بدقة الخلافات التي حدثت في ذلك المؤتمر في كتابه” خطوة للأمام خطوتان للخلف” الذي كتبه فى1904 بعد الانشقاق. وباختصار فإن ما حدث كان أن اتجاه”إسكرا” الموحد والمهيمن داخل الحزب انقسم على صياغة الفقرة الأولى من القواعد التنظيمية كانت صياغة مارتولى: ” يعتبر عضوا في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي كل من يعترف ببرنامجه. ويؤيده ماديا، ويبدى له بانتظام مساعدة شخصية تحت قيادة إحدى منظماته” في حين كانت الفترة الأولى من مشروع لينين: يعتبر عضوا في الحزب كل من يعترف ببرنامجه، ويؤيده ماديا، ويشترك شخصيا في إحدى المنظمات الحزبية” حول هذه المسألة انقسم “الإسكرايون” إلى فصيلين محددين، أيد بليخانوف لينين، وعند التصويت، حاز مارتوف بمساعدة معادى المركزية الاقتصادية، على الأغلبية. ولكن بعد احتجاج اقتصاديي” دابوتشى ديلو” ومنظمة “البوند” في جلسة لاحقة انتقلت الأغلبية إلى فصيل لينين مما مكنه من حيازة الموافقة على قائمته لهيئة تحرير إسكرا من:- لينين، بليخانوف، ومارتوف بدلا من هيئة التحرير القديمة.(التي كانت تضم بليخانوف، آكسل رود،ولينين، مارتوف بوتريسوف). رفض مارتوف ومؤيديه هذا القرار واستقال مارتوف من إسكرا. وهكذا تسير التسمية بلاشفة(أي أغلبية)ومناشفة(أي أقلية) إلى التصويت حول هيئة التحرير ولكن لان الفصيلين ظلا أجنحة لنفس الحزب، اقترنت التسميات بهما.

ومن أجل هدف الدراسة يجب طرح سؤالين: أولا إلى أي مدى كانت تلك الخلافات التي تبدووكأنها جدال حول بعض الألفاظ حقيقية؟ ثانيا: ماذا كان تأثير الانقسام على تطور النظرية اللينينية للحزب، علينا إذن لكي نفهم تلك الخلافات أن نضعها في سياقها التاريخي، وهكذا يكتب يول فرولنج:” الذي يلخص الوضع كالآتي:

“من أجل أن نفهم تلك الجدالات، يجب أن نضع أمامنا حالة الحركة الاشتراكية الديمقراطية في ذلك الوقت، بشبكاتها الفوضوية وغير المستقرة عن الحلقات والظروف التي كان يعمل بها حزب غير شرعي تحت الحكم الاستبدادي، وفى نفس الوقت، يجب أن نفهم أن الخلافات سياسية حقيقة كانت لتصطدم في مواجهة النظام الأساسي، خلافات كانت في تلك اللحظة محسوسة فقط ولم يعبر عنها بوضوح في أي مناقشة.

استشعر لينين أخطارا جسيمة في المستقبل وأراد أن يدفعها عن طريق تنظيم الحزب بطريقة محكمة. لقد كان واعيا للمهام الجسيمة التي سيجابهها الحزب في الثورة المقبلة، وأراد أن يجعل من الحزب سلاحا جديدا وأخيرا لقد كان واثقا انه الوحيد من مجموعة إسكرا القادر على قيادة الحزب بالثقة والتصميم اللازمين. وكانت الطريقة الموضوعية التي توصل بها إلى قناعاته تلك هي التي تفسر عناده…

إن صياغة الأطروحتين للفقرة الأولى يعطى ملمحا عن الخلاف. من المؤكد أن مارتوف كان يريد حزبا مائع الحدود متماشيا مع الحالة الواقعية للحركة، مع استقلالية عالية للمجموعات الفردية – حزبا تحريفيا يجمع كل من يسمى نفسه اشتراكيا. على حين كان لينين يرى أهمية تخطى استقلالية وانعزالية المجموعات المحلية وتجنب أخطار أفكارها السطحية والمتحجرة، ناهينا عن تطورها السياسي المتخلف. لقد كان يريد حزبا منظما بإحكام وصرامة. يكون كطليعة للطبقة مرتبطا ارتباطا وثيقا بها، وفى نفس الوقت متميزا بوضوح عنها”.

هناك أيضا جانب آخر للجدال ركز عليه لينين. فهناك تفسير آخر محتمل لصياغة مارتوف أن المنظمات الحزبية ستكون مخولة اعتبار أي شخص يساعدها تحت إشرافها عضوا بالحزب. وأن اللجان ستقوم بتحديد المهام وتراقب تنفيذها ” ويعلق لينين:

“ولكن هذه المهام الخاصة لن تشمل أبدا بالطبع جمهور العمال، آلاف البروليتاريين(الذي يتحدث عنهم الرفيق آكسل رود والرفيق مارتينوف)، وسيعهد بها في غالب الأحيان إلى الأساتذة…إلى الطلاب… إلى الشباب الثوريين……وبكلمة: إما أن تبقى صيغة الرفيق مارتينوف حبرا على ورق، جملة فارغة، وإما أن تصير على الأخص وبوجه الحصر تقريبا” المثقفين المشبعين كليا بالفردية البرجوازية ” والذين لا يريدون الدخول في المنظمة، إن صيغة مارتينوف تدافع بالكلام عن مصالح فئات البروليتاريا الواسعة. إما من حيث الواقع فلن تخدم هذه الصيغة سوى مصالح المثقفين البرجوازيين الذين ينفرون من النظام والتنظيم البروليتاريين”.

تركز رايا دوناينسكايا أيضا على هذه النقطة كمحور الخلاف:

” لقد كان الانتظام من خلال اللجان المحلية أعلى من الالتزام اللفظي بالماركسية، ومن الدعاية للرؤية الماركسية ومن الحصول على بطاقة عضوية… لقد أصر لينين على أن المثقف الماركسي يحتاج إلى المراقبة الأيديولوجية من البروليتاريا في المحليات، وإلا فانه يقاوم ليس فقط الانتظام على مستوى المحليات ولكن أيضا يقاوم أن ينظم بالمضمون الاقتصادي لثورة الروسية.”

لقد كانت تلك الرخاوة تجاه المثقفين البرجوازيين هي السبب في العداء المارتوفى تجاه لينين (وهذا ينطبق تماما على نمط الفروق البلشيفة- المنشفية المقبلة). ولكن بصدد ذلك الانحراف بالذات لم يحتاج لينين إلى نبذ الاشتراكية الديمقراطية الكاوتسكية الأرثوذكسية. إن وجهات النظر التنظيمية للمناشفة يمكن أن تعد داخل التيار الانتهازي العام داخل الاشتراكية الديمقراطية،وكانوا هم أيضا يستشهدون بكاوتسكى. إن النقطة الجوهرية في نظرية لينين والتي مكنته من تطوير نهج ماركس للتنظيم، هي مسألة التفرقة بين حزب الطبقة والطبقة ذاتها، والتي وضحها لينين في الجدال حول شروط العضوية:

كلما كانت منظماتنا الحزبية أقوى، مكونه من اشتراكيين ديمقراطيين حقيقيين، قل التذبذب وعدم الاستقرار داخل الحزب، واتسع وتنوع وأصبح أكثر إثمارا تأثير الحزب على عناصر جماهير الطبقة العاملة التي تحوطه ويقودها. إن الحزب كطليعة الطبقة، لا يجب أن يخلط بينه وبين الطبقة ككل”.

إنها تلك الجملة الأخيرة هي التي تعلن القطع مع منظور ماركس للمنظمة حيث الفرق بين الحزب والطبقة غير واضح. وتعلن قطيعة أكبر مع المنظور الاشتراكي الديمقراطي التقليدي للحزب كممثل للطبقة. وما يجعل تلك القطيعة دائمة، ويجعل لها أهمية عالمية وليست فقط روسية هوكون لينين يبنى تلك الرؤية ليس على أساس ظروف السرية في روسيا أوعلى أساس النظرية الخاطئة لجلب الوعي من الخارج ولكن يبنيها على الحالة الموضوعية للبروليتاريا في النظام الرأسمالي.

“بالضبط لان هناك فروقات في درجات الوعي وفى درجات النشاط يجب أن تكون هناك فروق في درجات القرب من الحزب.. إنها ستكون ذيلية أن نظن أن الطبقة ككل، أوحتى الطبقة ككل تقريبا، تستطيع تحت الرأسمالية أن ترتفع إلى درجة وعى ونشاط طليعتها، حزبها الاشتراكي الديمقراطي.”

ولاتهام لينين في هذه الفقرة لخصومة “بالذيلية” أهمية عظيمة، فهويستخدمها بمعنى(الحتمية)، وذلك للمنظور الذي أودى بعد ذلك بالأممية الثانية، وكان التباين بين المنظور البلشفي الفاعل الثوري للعالم، وبين المنظور المنشفي الحتمي التذيلي للعالم، يقول لينين هنا “خطوة للأمام،خطوتان للخلف” ولا يبرر ذلك أفضل من إحدى جدالات لينين مع تروتسكي

“من ضمن المحاولات التي تبرز عند محاولة تعضيد صياغة مارتوف تلك الخاصة بالرفيق تروتسكي أن الانتهازية تنتج من أسباب أكثر تعقيداً، وأكثر عمقا من بند أوآخر في النظام الداخلي: إنها تنتج عن التطور النسبي للديمقراطية البرجوازية والبروليتاريا” إن النقطة ليست أن البنود المختلفة في النظام الداخلي قد تخلق الانتهازية، ولكن أنه بمساعدتها يمكن أن تخلق سلاحا ضد الانتهازية. كلما كانت أسباب عميقة ” لهو”ذيلية” من الطراز الأول لقد حلل تروتسكي وفسر ظاهرة الانتهازية وتركها على ذلك. في حين أن لينين يوافق على التفسير ولكنه يريد أن يستخدمه لفعل شئ ضد الانتهازية.

« السابق التالي »