بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الماركسية والحزب

« السابق التالي »

6. الفصل الخامس: الإرث المزدوج لتروتسكي

هناك وجهان لإضافة تروتسكي للنظرية الماركسية عن الحزب الثوري. أولا. يوجد، دفاعه أساسا من خلال المعارضة، عن الرؤية اللينينية للحزب ضد الهجوم النظري والعملي الذي شقه عليه ستالين والبيروقراطية الستالينية.

ثانيا : هناك محاولته التي انتهت بتأسيس الأممية الرابعة. لإيجاد بديل ماركسي أصيل للأممية الشيوعية التي انحطت. على الرغم بالطبع من الاستمرارية بين هذين الوجهين من حيث أن الأخير نتج منطقها من الأول. إلا أن هناك فارقا نوعيا بينهما.

في فترة المعارضة اليسارية واجه تروتسكي سياسة ستالين الانتهازية بسياسة ثورية متماسكة. مع مجهود بناء أممية رابعة.أصبح تروتسكي مضطرا الآن لاحتواء سياسته في منظمة خاصة به. بسبب هذا الفارق يبدومنطقيا أن نتبع دراستنا لنظرية تروتسكي عن الحزب إلى جزأين : الدفاع عن اللينينية، والأممية الرابعة.

أ- الدفاع عن اللينينية:

افترق تروتسكي مع ستالين والغالبية الرسمية للحزب الشيوعي السوفيتي حول مسألتين أساسيتين : الانحطاط البيروقراطي للدولة الروسية والنظرية الستالينية ” الاشتراكية في بلد واحد ” كانت المسألتان، بالطبيعة. مرتبطتين ببعضهما البعض. لقد صعدت البيروقراطية من خلال إنهاك وتشتت البروليتاريا الثورية كنتيجة للمعاناة المتراكمة للحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية. والانهيار الاقتصادي والمجاعة وفقدان 4 مليون روسي في كل هذا. أرادت هذه البيروقراطية المتكونة في معظمها من طموحين. إداريين موروثين من النظام القديم. مناشفه سابقين وعمال فقدوا الصلة بطبقتهم منذ أمد طويل. فوق كل شئ إنهاء الاضطرابات. وتسيير الأمور بشكل طبيعي.

لم يكن لهم أي مصلحة فيما كان يبدولهم أنه المغامرة الرومانسية والخطرة للثورة العالمية. هكذا لم تكن نظرية الاشتراكية في بلد واحد مجرد اختراع ستاليني على العكس، ” لقد عبرت بدقة عن مزاج البيروقراطية “عندما تحدثوا عن انتصار الاشتراكية كانوا يعنون انتصارهم هم”.

كان هذا إذن خلاف حول أساسيات. في نفس الانقسام بين الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية. خلاف احتوى على رؤيتين مختلفتين ومتعارضتين تماما عن الاشتراكية. في رأى تروتسكي. مثل ماركس ولينين. كانت الاشتراكية هي مجتمع لاطبقي. بدون دولة يحكم ذاته بذاته. مؤسس على التوفر برخاء لسلع المادية. مجتمع يكون فيه ” التطور الحر لكل فرد هوشرط التطور الحر للجميع”

كانت الديكتاتورية، تخطيط الدولة، النموالاقتصادي والكفاءة، الانضباط الحديدي.. الخ، هي الوسائل لهذه الغاية، وسائل لم يتخلى عنها تروتسكي أبدا). ولكنها لم تكن غايات في حد ذاتها، في رأى ستالين، كانت مهمة بالنسبة للبيروقراطية والتي كان ممثلها الرئيسي. كانت الاشتراكية تعرف بالتحديد على أنها التأميم، تحكم الدولة والنموالاقتصادي والعسكري لروسيا لتصبح قوة عالمية من الدرجة الأولى، من وجهة نظر تروتسكي، لم يكن من الممكن تجنب درجة ما من البقرطة، ولكنها ظلت خطرا عظيما يجب مراقبته عن قرب والتخلص منه بأسرع ما يمكن، من وجهة نظر ستالين، كانت هذه هي جوهر الأساس لنظام جديد، لذا اعتبرت إمكانية تحقق رؤية تروتسكي في بلد واحد – في روسيا المتخلفة بالتحديد – يوتوبيا رجعية، واعتبرت رؤية ستالين الوحيدة العملية والواقعية.

ولأنه كان خلافا حول الأمور الجوهرية، اتسع هذا الصراع بالضرورة حتى وصل إلى الحد الذي أصبح يؤثر فيهما على كل حدث وكل سياسة في حياة حركة الطبقة العاملة، متضمنا بالطبع طبيعة ودور واستراتيجية وتكتيك الحزب الثوري والأممية الثورية، ويمثل التعامل مع خلافات تروتسكي مع ستالين حول النظرية اللينينية للحزب، من أجل الوضوح تحت عنوانين : الديمقراطية الحزبية في الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي، واستراتيجية الأحزاب الشيوعية العالمية.

1- الديمقراطية الحزبية:

طرحت البقرطة التدريجية للدولة السوفيتية في غياب طبقة عاملة نشطة وفعالة سياسيا، بالضرورة مسالة بقرطة الحزب الشيوعي وتحطيم الديمقراطية الحزبية الداخلية. لأنه على الرغم من وجود فصل شكلي بين الدولة (السوفيتية) وأجهزة الحزب شكل البلاشفة في حقيقة الأمر حزب الدولة. بعد الحرب الأهلية حافظ الحزب على احتكار سياسي وسيطرة كاملة على كل المناصب الهامة. بالتالي فإذا كان جهاز الدولة في طريقه للتبقرط لحتم ذلك أن يكون له أثر على الحزب. الذي جعل هذا خطيرا جدا هوأن الحزب. طليعة البروليتاريا المتضمنة للبلاشفة القدامى الذي لا يمكن إفسادهم. بتراثه الثوري. بمكاسب حكمه الضخمة وانضباطه الشديد. كان يعتبر عموما الدرع الأساسي ضد البيروقراطية.لوهوى الحزب أواستسلم. في ظل غياب فاعلية العمال. لما تبقى هناك أي خط دفاع آخر.كان الوقت هو1923 عندما شعر تروتسكي بان الموقف أصبح خطيرا جدا. ويتطلب شن نضال علني من أجل الديمقراطية داخل الحزب بدأه بمجموعة من المقالات في برافدا أسماها ” الطريق الجديد “.

إن نبرة الطريق الجديد حذرة وبعض الصياغات مترددة. ولكن من زوايا عديدة هي عرض يستحوذ على الإعجاب دفاعا عن الديمقراطية داخل الحزب الثوري.لا يعرض تروتسكي مسالة الديمقراطية كحق مجرد بل يحدد ضرورتها لتطور الحزب والمرحلة التاريخية الجديدة التي كانت على الأعتاب. فهوأولا. يختبر العلاقات بين الجيل القديم والجديد (ما قبل وما بعد أكتوبر) من أعضاء الحزب. ” لقد أعقب الاستيلاء على السلطة نموسريع. حتى غير طبيعي للحزب “.

“انضمت للحزب أعداد غفيرة من العمال غير المتمرسين ذوى القليل فقط من الوعي وعناصر غريبة من الطبقة العاملة. وموظفين ومتسلقين. ” وفى هذه الفترة الفوضوية استطاع (الحزب) أن يحافظ على طبيعته البلشفية فقط بفضل الديكتاتورية الداخلية للحرس القديم الذي اختبر من قبل في أكتوبر.

ولكن منذ ذلك الحين تغير الوضع. الآن يجب جذب الجيل الجديد بفاعلية في الحياة السياسية وعملية صنع القرار داخل الحزب. من اجل مصلحة تطور الجيل الجديد ذاته ومن أجل مستقبل الحزب ككل. بعد ذلك ينظر تروتسكي للتركيب الاجتماعي للحزب موضحا كيف أدت الحاجة لملء الوظائف الإدارية بالعمال إلى إضعاف “الخلايا الرئيسية للحزب “نواته في المصنع” وكيف كان هذا مصدرا مهما للبقرطة. يجادل تروتسكي من أجل تقوية القاعدة البروليتارية للحزب ومن اجل استخدام الطلبة والشباب كقوة ضد البيروقراطية عن ضرورة الديمقراطية يكتب تروتسكي:

تمثل الميزة الجوهرية لحزبنا.والتي لا نجد لها مثيل في قدرته في كل لحظة على النظر للصناعة بأعين الشيوعي والمدير الشيوعي والبائع الشيوعي. على تجميع تجربة كل هؤلاء العمال الذين يكملون بعضهم البعض. استخلاص نتائج منهم وبالتالي تحديد خطة في إدارة الاقتصاد عموما وكل مصنع خاصة انه من الواضح أن مثل هذه القيادة يمكن الاعتماد عليها فقط على أساس ديمقراطية قوية وفاعله داخل الحزب.

هذه الملاحظات موجهه لحزب في السلطة وفي موقف محدد.ولكن المبدأ الذي تتضمنه ضرورة الديمقراطية من اجل القيادة السليمة هوصحيح عموما.

تمثل الهم الثقيل لدى القيادة في ردها على نقد تروتسكي في دفاع بعنف عن التقاليد العظيمة للحرس القديم مع تركيز على الحاجة الملحة للوحدة الحزبية وعلى مخاطر التكتلات.ويثير رد تروتسكي إلى أن “التقاليد” لها وجه سلبي مثلما أن لها وجه إيجابي في الحركة الثورية. معددا الأمثلة ومن ضمنها موقف البلاشفة القدامى ضد كتيب لينين “أطروحة إبريل” يجادل تروتسكي أن اكثر صفة تكتيكية جوهرية للبلشفية هي قدرتها التي لا تساويها قدرة على تكييف ذاتها بسرعة. وعلى تغير التكتيك بسرعة. على تحديث أسلحتها واستخدام وسائل جديدة. بعبارة : قدرتها على اتخاذ تغيرات مفاجئة. وانه لا يوجد تقليد يقدم في حد ذاته ضمانات أكيدة عبر تاريخه ضد الانحطاط.وحول مسالة التكتلات يعترف تروتسكي بالخطر الكبير للتكتلية في مثل ذلك الموقف. وبإمكانية أن تعكس الاختلافات التكتلية بسرعة ضغوط القوى الاجتماعية والطبقية المعادية للبروليتاريا. ولكن يؤمن تروتسكي بان نظاما حزبيا غير ديمقراطي هوفي حد ذاته سبب للتكتلية.

يجب أن تصغي الأجهزة القيادية في الحزب لصوت جماهير الحزب العريضة. لا أن تعتبر كل القضاء تغير. وبالتالي يدفع الشيوعيين نحوالحفاظ على سكوت دائم أوتدفعهم أن يكونوا من أنفسهم تكتلا.
إن جوهر طرح تروتسكي في الطريق الجديد هوأن :

تطور الرأي العام للحزب:

في الوقت ذاته ظلت ادعاءات السلطة عن الموقف الموضوعي البالغ الصعوبة تمارس أثرا قويا على تروتسكي.فرغم أنه طالب بديمقراطية حزبية داخلية بقى موافقا على أننا الحزب الوحيد في البلد. وفي فترة الديكتاتورية لا يمكن أن يكون هناك ترتيب آخر. وبفعله شارك تروتسكي في الممارسة السارية حينذاك في إضفاء صفة مبدأ عام على ما كان معتبرا في البداية مجرد ترتيب مؤقت نتج عن الظروف غير العادية للحرب الأهلية. يرى ماكس شاختمان وهوأحد رفاق تروتسكي لفترة طويلة. في هذا الموقف تناقضا جوهريا.

لم يعط تروتسكي… أي دليل على انه استوعب أن حرمان من في خارج الحزب من الحقوق الديمقراطية لا يمكن أن ينفذ إلا من خلال حرمان أعضاء ذات الحزب. إن عاجلا أم آجلا من نفس الحقوق هذا قانون ثابت في السياسة. كل خلاف جاد في الرأي داخل حزب سياسي يسفر عن دعوة مباشرة أوغير مباشرة صريحة أوضمنية. مقصودة أوغير مقصودة لجزء أولآخر خارج الحزب.

هذه نقطة مهمة ولكنها لم تقلل حقيقة من موقف تروتسكي في كليته. لا يوجد شك انه على المدى الطويل إن عاجلا أم آجلا ستؤدى ديكتاتورية حزب واحد إلى ديكتاتورية داخل الحزب. ولكن كما قال تروتسكي كثيرا. الوقت هوعامل مهم في السياسة من وجهة نظر تروتسكي كان البلاشفة مشتبكين في عملية حفاظ غير عادية الصعوبة والحساسية : فبين ” عاجلا” أو” آجلا” كانت هناك فرصة وصول الغوث من الثورة العالمية.

فكلما مد ستالين تحكمه الاستبدادي على الحزب والبلد وكلما افترقت سياسته اكثر عن الماركسية الثورية. كلما زاد إصرار الدعوات من اجل الديمقراطية الحزبية وكلما أصبحت المعارضة لأساليب ستالين التنظيمية اكثر استحالة في الحل.

يتضمن بيان منبر المعارضة الموحدة لعام 1927 الذي وقعته تروتسكي وزينوفييف و11 عضوا آخر في اللجنة المركزية تحذيرا من نظام الحزب :

شهدت الأعوام القليلة الماضية إلغاء منظم للديمقراطية الداخلية الحزبية في مخالفة لكل تراث الحزب البلشفي في مخالفة القرارات المباشرة لسلسة من مؤتمرات الحزب أن الانتخاب الحقيقي للمسئولين هوفي واقع الأمر مسالة تغنى وتختفي. يتم قلب المبادئ التنظيمية فى كل خطوة تتخذ. يتم بشكل منظم تغيير لائحة الحزب لزيادة حجم الحقوق في القمة وتقليل حقوق الآخرين في السفح.

تعتبر قيادة اللجان الإقليمية، اللجان التنفيذية الإقليمية. المجالس الإقليمية للنقابات الخ قيادات في واقع الأمر، لا يمكن استبعادها.. يعتبر حق كل عضوفي الحزب كل مجموعة من أعضاء الحزب في طرح اختلافاتها أمام محكمة كل الحزب. (لينين) أمرا في الواقع تم إلغاؤه. يتم دعوة المؤتمرات والندوات دون نقاش حر مسبق (كما كان الحال بواسطة كل الحزب. وطلب مثل هذه المناقشة يعتبر خرق للانضباط الحزبي…

إن فناء الديمقراطية الحزبية الداخلية يؤدى إلى فناء الديمقراطية العمالية عموما، في النقابات. وفى كل المنظمات الجماهيرية الحزبية.

في بيان المنبر تبلور التحليل والتحذيرات والاقتراحات التي جاءت في سلسلة مقالات الطريق الجديد. وأصبحت مطالب برنامجيه : الإعداد للمؤتمر الخامس عشر على أساس ديمقراطية داخلية حزبية حقيقة. أن يكون لدي كل رفيق أومجموعة من الرفاق الفرصة للدفاع عن وجهة نظرهم أمام
الحزب. تحسين التكوين الاجتماعي للحزب بالسماح فقط للعمال من المصانع والأراضي بالانضمام للحزب.بلترة (نسبة إلى البروليتاريا) وتقليص هيكل وأجهزة الحزب. الإعادة الفورية للمعرضين المطردين. إعادة بناء لجنة التحكيم المركزية باستقلالية عن هيكل الحزب. ولكن عن هذه المرحلة مازالت تعمل الإدانة والمطالب داخل إطار من الولاء الكامل للحزب الشيوعي الروسي وقبول لاحتكاريته السياسية.

سنناضل بكل قوتنا ضد تكوين حزبين. فمن اجل ديكتاتورية البروليتاريا تتطلب كجوهرها الأساس حزب بروليتاري واحد.

بحلول 1933، بعد شلل الكومنترن في مواجهة هتلر (انظر ما يأتي) والتصفية ومعلنا أن الحزب البلشفي للينين تم تحطيمه بواسطة الستالينية دعا تروتسكي لبناء أحزاب ثورية من جديد والتخلص من البيروقراطية بالثورة السياسية. وفي 1936 في عمله الضخم الثورة المغدورة استطاع تروتسكي أن يوضح بجلاء آراءه عن الديمقراطية الحزبية.

كان النظام الداخلي للحزب البلشفي يتصف بوسيلة الديمقراطية المركزية.لا يوجد به أدنى تناقض. لقد كان الحزب متيقظا جدا ليس فقط لكي تبقى حدوده معرفة بدقة ولكن أيضا أن يستمتع كل من يدخل هذه الحدود بالحقوق الفعلية لتعريف توجه سياسة الحزب. كانت حرية النقد والنضال الفكري مضمون لا يمكن التراجع عنه للديمقراطية الحزبية. إن المقولة الحالية هي أن البلشفية لا تسمح بالتكتلات هي خرافة من خرافات حقبة التدهور.في الحقيقة أن تاريخ البلشفية هوتاريخ نضال التكتلات. وبالفعل كيف يمكن لمنظمة ثورية حقيقية تضع على عاتقها مهمة تغير العالم. وأن توحد تحت رايتها اكثر الناس جرأة والمحاربين والثوريين أن تحيا وتتطور بدون صراعات فكرية، وبدون تجمعات وتشكيلات تكتيكية مؤقتة، لقد جعل بعد نظر البلاشفة من الممكن تخفيف حدة الصراعات وتقصير زمن النضال التكتلي، وليس اكثر من ذلك. اعتمدت اللجنة المركزية هذا التأييد الديمقراطي الغالي. من هذا استمدت الجرأة لاتخاذ القرارات وإعطاء الأوامر. أعطت الصحة الواضحة للقيادة في كل المراحل الحرجة السلطة العليا والتي تعتبر راس المال الأخلاقي الذي لا يقدر بثمن المركزية. وقف نظام الحزب البلشفي، خاصة قبل وصوله للسلطة، في تناقض تام مع نظام الأجزاء الحالية للأممية الشيوعية.بقيادتها الذين يعينون من أعلى، ويقومون بإجراء تغيرات كاملة في السياسة بكلمة واحدة من القيادة، بهياكلها التي يتحكمون فيها، المتعجرفين في تعاملهم مع القاعدة، الخانعين في تعاملهم مع الكريملين.

لا يعيد تروتسكي فقط الموقف البلشفي الأصلي من مسالة التكتلات بل يقطع من مقولة دولة الحزب الواحد.

في البداية تمنى الحزب أن يحافظ على حرية النضال السياسي داخل إطار السوفيتات. أدخلت الحرب الأهلية تعديلات شديدة على هذه الحسابات. تم تحريم إضراب المعارضة واحد بعد الآخر. اعتبر القادة البلاشفة هذا الأسلوب، الواضح تعارضه مع روح الديمقراطية السوفيتية. ليس كمبدأ ولكن كفعل دفاعي عن الذات مؤقت.
يرفض تروتسكي المساواة بين ديكتاتورية الطبقة وديكتاتورية الحزب.

بما أن للطبقة “أجزاء” كثيرة بعضها ينظر للأمام وبعضها ينظر للوراء يمكن أن يعتمد حزبا ما في وجوده على أجزاء من طبقات مختلفة. لا يوجد مثل لحزب مرتبط بطبقة واحدة في كل مجرى التاريخ السياسي – ويتوقف هذا بالتأكيد على أن لا تساوى بين المظهر البوليسي والواقع.

ويقول برنامج الأممية الرابعة 1938 أن مقرطة السوفيتات مستحيلة بدون إعطاء قانونية للأحزاب السوفيتية. سيصل العمال والفلاحين بأنفسهم من خلال اختيارهم الحر إلى أي الأحزاب التي يعترفون بها كأحزاب سوفيتية.

عندما يراجع المرء سجلات نضال تروتسكي من اجل ديمقراطية العمالية داخل الحزب الشيوعي الروسي والدولة الروسية، يجد انه من الواضح انه ارتكب أخطاء كثيرة. بفضل التدقيق يمكن للمرء أن يقول انه كان يجب على تروتسكي أن يبدأ مقاومته مبكرا. انه كانت هناك أوقات جعل فيها تروتسكي من الضرورة فضيلة، انه كان عليه أن يحارب بنشاط اكثر وتماسك اكثر في 1923-1924، انه كان يجب عليه أن يلجا مبكرا لقاعدة الحزب ولجماهير العمال أنفسهم، يمكن أن يكون مثل هذه الانتقادات سليمة نوعا ما ولكنها أيضا أحادية النظرة لأنها تتجاهل المصاعب الجمة للموقف الذي واجهه تروتسكي، بالذات الخمول العميق للعمال الروس. ويتضمن ذلك جماهير أعضاء الحزب خلال تلك الفترة. أيضا اعتبر تروتسكي بقوة أن من واجب الثوريين. في ظل غياب أي بديل موجود. أن يظلوا مخلصين لحزب الثورة حتى اللحظة الأخيرة الممكنة.لقد كان هذا اعتبارا موزونا.يسهل اكثر التخلي عنه في خضم النضال. يتحتم على أي رؤية متوازنة الاعتراف بالإنجازات الضخمة لتروتسكي في الدفاع والحفاظ على التقليد الماركسي واللينيني للديمقراطية الحزبية. والحزب كجسم جماعي وحي. ضد صعوبات وعواقب هائلة. دون السقوط كما فعل آخرون كثيرون. في رفض اشتراكي ديمقراطي أوفوضوي للديمقراطية المركزية والحزب الطليعي.

2- استراتيجية أحزاب الأممية الشيوعية:

أعلنت نظرية ستالين الاشتراكية في بلد واحد لأول مرة في خريف 1924 في خرق تام لكل تراث الماركسية. وجاءت معظم آثارها المباشرة ليس على روسيا ذاتها بل على الأممية الشيوعية واستراتيجية الأحزاب الشيوعية في جميع أنحاء العالم. فطالما بقيت مسالة نجاة الثورة الروسية مرتبطة بتحقيق الثورة العالمية. بقيت اكثر أشكال التضامن من روسيا ملموسة والواجب الأول لكل حزب “أجنبي” هي تحقيق الثورة في بلده. ولكن متى زعم انه يمكن بناء الاشتراكية في روسيا وحدها، أصبحت الثورة العالمية أمرا اختياريا زائدا وليس ضرورة.واصبح دور الكومنترن في أعين موسكو. هوالتأكد انه لم يعوق أي شئ لعملية البناء “الاشتراكي”. بهذه الطريقة تحولت الأحزاب الشيوعية من عوامل مساعدة لثورة الطبقة العاملة إلى وكلاء للسياسة الخارجية للبيروقراطية الروسية. حتم هذا التحول حدوث سلسلة من الابتعادات والتحريفات للتقاليد اللينينية للسياسة الثورية. كان المدافع الرئيسي عن ذلك التقاليد هوليون تروتسكي.

من المستحيل أن نتناول هنا كل مسائل استراتيجية الحزب التي اصطدم عندها تروتسكي مع ستالين، ولكن ستكفى أربعة أمثلة لتوضيح إسهامات تروتسكي لنظرية الحزب في هذا المجال.

عارض تروتسكي من البداية سياسة ستالين في أن يخضع الحزب الشيوعي الصيني نفسه لحزب الكومينتانج البرجوازي الوطني، الأمر الذي أدى للهزيمة الدموية للثورة الصينية في 1927. أصر تروتسكي على طول الخط على المبدأ اللينيني في الاستقلال التنظيمي السياسي الكامل للحزب الثوري. كما عارض تروتسكي التعاون مع قيادات اتحاد نقابات عمال إيطاليا من خلال اللجنة النقابية الإنجليزية السوفيتية، الأمر الذي ضرب في مقتل استقلال الحزب الشيوعي البريطاني وتركه في موقف غير نقدي للقيادات ” اليسارية ” للنقابات العمالية الذين خانوا الإضراب العام في 1926.

أيضا شن تروتسكي نقدا عبقريا وتنبئيا على السياسة الستالينية في ألمانيا بين 1929 – 1933. اعتبر الحزب الشيوعي الألماني، منطلقا من نظرية ستالين “الفاشية الاجتماعية” الاشتراكيين الديمقراطيين كالعدوالأساسي قلل من خطر الفاشية. وضد هذه الاستراتيجية الكارثة أصر تروتسكي على الحاجة الملحة لجبهة متحدة من أحزاب الطبقة العاملة ضد هتلر.

أخيرا أوضح تروتسكي الضعف القاتل لاستراتيجية الجبهة الشعبية التي تم تبنيها في 1934 والتي ربطت الطبقة العاملة وحزبها بالبرجوازية وأدت المزيد من الهزائم في فرنسا وأسبانيا. هذا النقد يعتبر مهما جدا في الحاضر لأن طرازا ما من سياسة الجبهة الشعبية هوسياسة معظم الأحزاب الشيوعية تقريبا في جميع أنحاء العالم. ولقد رأينا مؤخرا كيف تكررت نتائجها التراجيدية كاملة في شيلى 1970 – 1973.

لونظرنا إليها في كليتها،فان الفترة الستالينية شكلت عملية قلب وتشويه منظمين لنظرية لينين حول الحزب إلى درجة تحولت فيها تلك النظرية إلى نقيضها. من نظرية فرز وتنظيم للطليعة الثورية للبروليتاريا أصبحت أسطورة معصومة تستخدم لتبرير كل شكل للتلاعب البيروقراطي والخيانة السافرة. نجحت هذه العملية لدرجة أن تساوت النظريتان اللينينية والستالينية للحزب، المختلفان جدا في الممارسة. واصبح ينظر لها عموما على انهما نفس الشيء. وبدون العمل الشاق لتروتسكي مرت تلك المساواة بدون تحدى في الحركة الماركسية. ولدفنت اللينينية الأصيلة تحت جبل من الأكاذيب.

ب- الأممية الرابعة:

كان دفاع تروتسكي عن النظرية اللينينية للحزب. كجزء لا يتجزأ عن الماركسية واللينينية ككل إنجاز ضخم. ولكن لم يكن هذا الإنجاز كافيا لينام تروتسكي مرتاح البال. فمنذ مطلع القرن وتروتسكي يتطلع للثورة البروليتارية العالمية. وعندما اقتنع أن الأممية الشيوعية التي غيرتها وحولته الستالينية لم يعد بإمكانها تحقيق هذه الغاية. لم يكن لديه اختيار إلا محاولة بناء منظمة جديدة بنفسه. كان الانهيار التام للحزب الشيوعي الألماني أمام هتلر وفشل مجرد واحدة من أجزاء الكومنترن في الاعتراض على الخط الرسمي هما الأمران اللذان جعلا تروتسكي ينحى ذلك المنحى.

أن المنظمة لم تهتز بعاصفة الفاشية. منظمة تخضع بخنوع للأفعال الغاية في الفجاجة للبيروقراطية تعلن إذن أنها ميتة ولا يمكن إحياؤها من جديد.

بالضبط كما أعلن لينين مباشرة بعد تسليم الأممية الثانية في 4 أغسطس 1914 دعوته لبناء الأممية الثالثة. أطلق تروتسكي الدعوة في 1933 لبناء الأممية الرابعة.

1- النضال من اجل الأممية الرابعة:

كان حجم التأييد لتروتسكي في 1933 محدودا جدا. ولم يكن مطروحا على الإطلاق مسالة الشروع فورا في بناء الأممية الجديدة.بدلا من ذلك كان مفترضا أن تبنى بالتدريج. لسوء الحظ كانت الظروف الموضوعية لفعل ذلك غير مناسبة بشكل رهيب. فرغم أن لينين كان معزولا بشدة عند بداية الحرب العالمية الأولى فعلى الأقل كانت لديه قاعدة روسية صلبه في شكل الحزب البلشفي. رغم ذلك فقد استغرق الأمر عامين بعد انتصار الثورة الروسية ليتم تأسيس الأممية الثالثة. لم يكن لتروتسكي مثل هذه القاعدة. كما لم يكن مقدرا له أن يشهد انتصارا ثانيا للثورة البروليتارية أثناء حياته، على العكس، جاءت الثلاثينيات فترة هزائم ثقيلة للطبقة العاملة. بدأت بتهشيم البروليتاريا الألمانية (أقصى واشبع هزيمة لطبقة عاملة شجاعة وواعية سياسيا في التاريخ). تحكمت أنظمة فاشية وشبيهه بالفاشية في مجرى الأمور في وسط أوروبا ثم أعقب ذلك انتصار فرانكوفي أسبانيا. في الوقت ذاته وخلال الثلاثينيات، أنهك الركود والبطالة المزمنة قوة قتال العمال ومنظماتهم في كل مكان.

بالإضافة لهذه الصورة العامة للثورة المضادة السوداء كانت هناك عوامل محددة حالت دون نموالتروتسكية. فالخطر الفظيع للفاشية خلق ضغطا ضخما في صفوف العمال لتقريب الصفوف، للتوحد في مواجهة العدو، وضد انقسامات جديدة. واختلط بهذا الضغط من اجل التوحد شعور بالحاجة لحليف ما.قوة عسكرية عظيمة تقف ضد هتلر، وهذه بالطبع كانت روسيا السوفيتية. لذا كان التخلي عن جبروت ستالين من اجل القوة الشديدة الضالة كانت ضربا من المستحيل. بهذه الطريقة ساعد هتلر ستالين والستالينية داخل الحركة العمالية.

تأتى بعد ذلك حقيقة أن تروتسكي تعرض لقذف وسب لم يسبق لهما مثيلا في التاريخ داخل الحركة العمالية. إن الاتهام الذي وجهه لتروتسكي والمتهمين الآخرين في محاكمات موسكوعلى انهم عملاء لهتلر والميكادوالياباني هوبالطبع اتهام عبثي، ولكن كانت قوة الكذبة الكبرى بالدرجة التي صدقها بها الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم. لم يكن الأمر فقط أن الشيوعيين المتحجرين قد وافقوا على اتهام تروتسكي بالتعاون مع الفاشية. بل الكثير من الفنانين والمثقفين الغربيين مثل رومان رولاند أضافوا أصواتهم لهذا الاتهام آخرون مثل برنارد شووأندريه مالرو. الشاعرين بضغط سياسة الجبهة الشعبية. وافقوا أوظلوا صامتين. هكذا كانت تلفيقة ستالين الكبرى ناجحة جدا في المدى القصير. في المقام الأول صمنت تلك التلفيقة أن الأشخاص ذوى القدرة الشخصية العالية على تحمل الإدانة والسب المستمرين. هم فقط الذين تمسكوا بالتروتسكية. ثانيا. خلقت مانعا هائلا بين التروتسكيين متضمنين أصحاب اكثر السجلات الثورية نصاعة. وبين العمال الواعين سياسيا حارمة إياهم من عرض صادق لرؤيتهم فالنقد بغض النظر عن مدى حسن تقديمه. يصعب أن يجد من يستمع إليه لواعتقد انه يأتي من عميل للفاشية.

أخيرا كانت هناك الحقيقة البسيطة انه كان من الصعب جدا إقناع الناس انه من الضروري البدء من جديد مرة أخرى البدء من لاشيء بعد فترة قصيرة جدا من تأسيس الأممية الثالثة عبر تروتسكي عن الوضع كما يلي:

نحن لا نتقدم سياسيا. نعم إنها حقيقة تعبر عن التحلل العام للحركة العمالية في الخص عشرة سنة الماضية… إن وضعنا الآن اصعب كثيرا بشكل لا يقارن بوضع أي منظمة أخرى في أي وقت مضى بسبب الخيانة العظيمة للأممية الثانية. وتطور انحطاط الأممية الثالثة بسرعة وبشكل غير متوقع لدرجة أن نفس الجيل الذي سمع عن تأسيسها يسمعنا الآن ويقولون ولكن “لقد سمعنا هذا من قبل”.

كان تأثير هذا الوضع المتفاقم الصعوبة هووصف الحركة التروتسكية بثلاث صفات: أولا كانت صغيرة جدا. تتكون من العديد من البلدان من عدد يحصى على أصابع اليدين. ثانيا. كانت في معظمها برجوازية صغيرة في تكوينها الاجتماعي. ثالثا. كانت على الأقل في صفوفها العليا -منظمة مبعدين- ليس بالضرورة مبعدين عن بلادهم رغم أن هذه كانت حالة البعض، ولكن مبعدين عن وطنهم الذي تبنوه الحركة العمالية الجماهيرية. ونعرف أن المجموعات الصغيرة دائما تنقسم بسهولة اكثر وبوتيرة أسرع من الأحزاب الكبيرة، لأنه هناك القليل الممكن خسارته من هذا الانقسام. المثقفون البرجوازيين الصغار هم اكثر عرضة وقابلية للتكتلية والانقسامية عن العمال. “كل الناس من هذه النوعية” كتب الزعيم التروتسكاوي الأمريكي ج ب كانون لديهم صفة مشتركة واحدة : انهم يحبون مناقشة الأشياء بدون حد أونهاية. والعمل السياسي للمبعدين معروف بالفضيحة. في الواقع هذه الظواهر الانعزال عن القوة الانضباطية العظيمة للصراع الطبقي وحركة الأممية الرابعة عانت بشدة من كل تلك الأمور. منذ البداية أصابت التروتسكية بداء الانقسامية، بالانشقاقات والانفصالية الشديدة.

حارب تروتسكي بأفضل ما يملك ليكسر هذا المناخ الميئوس منه وليجد طريقة حتى تصل هذه الحركة للعمال. في البداية وجه اتباعه نحومختلف فئات اليسار، المجموعات الاشتراكية الديمقراطية والوسطية (مثل حزب العمال الأممي البريطاني وحزب العمال الاشتراكي الألماني) المستقلة عن الأمميتين الثانية والثالثة على أمل أن يسفر ذلك عن زيمر فالد جديدة. ثم وجههم نحودخولية القصيرة المدى في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الجماهيرية، وخرج بهم مرة أخرى في 1939 اقترح تروتسكي على حزب العمال الاشتراكي الأمريكي طرد الأعضاء البرجوازيين الصغار الذين فشلوا في اجتذاب عمال للحزب.

ولكن لم يسفر كل ذلك عن أي شيء. تسبب كل تكتيك جديد في انقسامات جديدة وفشلت كل منها في تحقيق هدفها. لم تنجح الحركة التروتسكية أبدا في استقطاب عدد معقول من العمال أوفي أن تصبح جزءا من الحركة العمالية.

السؤال الذي يجب أن نسأله الآن هو: ماذا كان اثر تلك الظروف على نظرية تروتسكي للحزب؟ فرغم انه من الممكن للمنظر أن يقاوم الأثر المحيط للظروف الصعبة بالتمسك بقوة للمكتسبات النظرية للماضي وللنقاط العالية السابقة للحركة مثلما فعل لينين أثناء رجعيه مستولين بعد 1905، ومثلما فعل تروتسكي فيما بعد إلا انه من المستحيل أن تبقى النظرية غير متأثرة على الإطلاق بالممارسة. كان هذا هوالحال مع تروتسكي. أدت الفجوة الكبيرة بين المتطلبات الضخمة للموقف وبين القوة الضعيفة جدا التي كان من الممكن أن يوظفها تروتسكي لمقابلة تلك المتطلبات فقط إلى المبالغة في فاعلية وقوة منظمته الصغيرة جدا بل أخطأ أيضا في تقديره النظري المبالغ فيه للدور الذي يمكن أن تلعبه قيادة أممية منفصلة عن الجماهير، وفى إحلال برنامج الحزب، الذي كتب من هامش الصراع الطبقي، محل الحزب ذاته كتجسيد للطليعة الحقيقية للبروليتاريا كالمعمم لتجارب الطبقة العاملة في خضم الأحداث الكبرى، يمكن توضيح هذه النقاط بجلاء من خلال اختبار القرار الذي اتخذه في 1938 ليؤسس فعليا الأممية الرابعة والآفاق التي صاحبت هذا القرار.

2- الأسس النظرية للأممية الرابعة:

نجد الصفة المباشرة الوضوح للأممية الرابعة هي الاختلاف بينهما وبين الأمميات الثلاثة الأولى. جاء المؤتمر التأسيسي اجتماعا هزيلا مقارنة بالاجتماعات التأسيسية للسابقين.عقد سرا في بيت صديق تروتسكي القديم ألفريد روزن في فرنسا واستمر مدة يوم واحد فقط وحضره 21 مندوب فقط. أدعى هؤلاء المندوبون تمثيل 11 منظمة في 11 بلد. إلا أن معظم هذه المنظمات كانت من أصغر الحلقات، بل أن “القسم الروسي” لم يكن إلا مجرد وهم مثله عميل للمخابرات الروسية يدعى ايتان، فقط جاء ” ماكس شاختمان ” المندوب الأمريكي من قسم ضم أكثر من 200 عضو، في 1935 أدان تروتسكي فكرة أن التروتسكيين يريدون الأممية الرابعة ” يوم الخميس القادم ” وأطلق على تلك الفكرة ” نميمة غبية ” إذن لماذا، رغم عدم حدوث تطور معتبر في الحركة. مضى تروتسكي على أية حال وأطلق الإعلان؟

تقع الإجابة في نظرية تروتسكي ” أزمة قيادة ” البروليتاريا. اقتنع تروتسكي أن كلا من الرأسمالية والستالينية وصلنا لطريق مسدود مستحيل. واعتمد النجاح على هذه الأزمة على بروز قيادة ثورية جديدة. ففي المواقف الثورية التي تقترب بحتمية اعتبر العامل الحاسم هونوعية القيادة الثورية، وهكذا يصبح بالإمكان في تلك المواقف أن تكسب منظمات صغيرة بسرعة جماهير واسعة وتمارس أثرا حاسما على الأحداث.

ويفتتح البرنامج الذى تم تبنيه فى المؤتمر التأسيسى، الرأسمالية ومهمات الأممية الرابعة كالتالي:

يتصف الموقف السياسى العالى ككل أساسا بأزمة تاريخية فى قيادة البروليتاريا… لم ” تنضج ” فقط الشروط المسبقة الضرورية للثورة بل لقد بدأت بشكل ما تتعفن. بدون ثورة اشتراكية، فى الفترة التاريخية القادمة، تهدد كارثة كل ثقافة الإنسان وحضارته. الدور الآن على البروليتاريا أى على طليعتها الثورية أساسا. لقد غدت الأزمة التاريخية للإنسانية أزمة القيادة الثورية.

كانت نظرية ” أزمة القيادة ” تقطيرا للتجربة الثورية لحقبة بأكملها، من المثل الايجابى لأكتوبر 1917 إلى الأمثلة السلبية للمجر 1919، إيطاليا 1920، ألمانيا 1923 – 1933، الصين 1925 – 1927، أسبانيا 1931 – 1937. ولكن هذه “الصحة” العامة للنظرية لا تغطى المشكلة كلها. لم يدع تروتسكي ولوللحظة أن القيادة تخلق أو”تصنع” الثورة (كما يقترح، على سبيل المثال، بعض الجيفاريين)، بل إنها مجرد وصلة حاسمة في سلسلة الأحداث، حيث المكونات الأساسية الأخرى للسلسلة هي الأزمة الاقتصادية والسياسية الموضوعية للرأسمالية، الانتفاض الجماهيري للطبقة العاملة ” وجود حزب ثوري معد بشكل جيد. ولكن بدون هذه الحلقة ستكون “القيادة” معزولة، معلقة فى فراغ وعاجزة نسبيا، وموقفها سيكون أسوأ طالما عندها صورة خاطئة عن قدراتها الذاتية وأهميتها. كانت المشكلة بالنسبة لتروتسكى هى أنه عندما أسس الأممية الرابعة فى سبتمبر 1938 (الحزب العالمي للثورة الاشتراكية). لم تكن توجد وصلات رئيسية فى الحلقة. لم يوجد لا انتفاض للطبقة العاملة ولا حزب ثورى مؤسس بصلابة داخل الطبقة فى أى مكان بالعالم.

من الطبيعي أن تروتسكى كان واعيا بشدة بهذا.”حل” تروتسكي المشكلة بسلسلة من التنبؤات توقع فيها البروز الحتمي للوصلات المختلفة فى السلسلة الثورية فى المستقبل القريب.

أولا : كان تروتسكى مقتنعا أن الرأسمالية كانت قد دخلت أزمتها الأخيرة. ” لقد حقق الشرط المسبق الاقتصادى للثورة البروليتارية عموما أعلى درجة فى النضج يمكن الوصول إليها فى ظل الرأسمالية. لقد ركدت قوة إنتاج البشرية “. لم يكن الموقف يحتمل الحديث عن إصلاحات اجتماعية منظمة ورفع مستويات معيشة الجماهير. ونتيجة ذلك فان الاشتراكية الديمقراطية ستهاجم فى مقتل.

ثانيا : اعتبر تروتسكى الحرب العالمية التى كانت تقترب كسابقتها، بل أكثر، موجة ثورية ضخمة : عادة ما يكون الميلاد الثانى أسهل من الأول. فى الحرب الجديدة لن يكون من الضرورى الانتظار عامين كاملين حتى الانتفاضة الأولى.

ثالثا : كان تروتسكى مقتنعا بشدة اهتراء النظام الستالينى فى روسيا -مثل الهرم المثبت على قمته- غير قادر على تحمل هذه الحرب. “لولم تشله الثورة فى الغرب، ستكنس الإمبريالية النظام الذى خرج من ثورة أكتوبر”. وبينما أيد تروتسكى الدفاع عن الاتحاد السوفيتي، لم يفشل تروتسكي في التعامل مع حقيقة أن التخلص من مثل هذا النظام سيوجه ضربة قاتلة لما اعتبره القوة المضادة للثورة الرئيسية فى الحركة العمالية.

رابعا : بالانسجام مع رؤية لينين فى الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية ومع نظريته هوعن الدائمة اعتقد تروتسكى أن المستعمرات لن تتمكن من الحصول على استقلالها بدون صراع مباشر متصل ضد الإمبريالية وبما أن البرجوازية الوطنية ستعجز عن خوض هذا الصراع، فسيكون على حركات التحرر الوطني الصاعدة اتخاذ طريق الثورة الاشتراكية. “بالفعل صارت راية النضال من أجل تحرر الشعوب المستعمرة وشبه المستعمرة، أى حوالى نصف البشرية، فى أيدى الأممية الرابعة”. وشكل هذا كله لدى تروتسكى منظور يبدوفيه:

“إن الحقبة… التى تشرف على البدء بالنسبة للبشرية الأوروبية لن تترك أثرا فى الحركة العمالية لكل ما هومبهم ومتعفن… ستترك أقسام الأمميتين الثانية والثالثة المسرح بدون أحداث صوت، واحدة تلوالأخرى. من المحتم حدوث إعادة تجميع جديدة وضخمة لصفوف العمال وستحصل الكوادر الثورية الشابة على لحم ودم”.

كانت هناك أدلة كافية على احتمالية وقوع كل التنبؤات المكونة لهذا الأفق، ولكن بقيت حقيقة أن التاريخ أثبت عدم صحة كل واحدة منها. بدأت الاستعدادات للحرب تخرج الرأسمالية من الركود، وتحولت الأزمة الأخيرة للرأسمالية، كما شخصها تروتسكى، إلى أكثر انتعاشات النظام قوة وعظمة. لم يسقط نظام ستالين فى الحرب بل خرج منتصرا وأقوى مما سبق، وبسط سيطرته على كل أوروبا الشرقية. وبدلا من أن “تترك المسرح بدون إحداث صوت ” اكتسبت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية، على أساس هذه التطورات، صك حياة جديد فى جميع أنحاء أوروبا. استطاعت الإمبريالية عموما، أن تمنح الاستقلال للمستعمرات من خلال صفقة مع برجوازيات المستعمرات، وهكذا قطعت الربط بين التحرر الوطنى والثورة البروليتارية. وهكذا الأممية الرابعة معلقة فى السماء.
لقد تنبأ تروتسكى :

“خلال العشر سنوات القادمة سيصبح برنامج الأممية الرابعة مرشدا للملايين. وستعرف هذه الملايين الثورية كيف تدك السماء والأرض”.
ولكن، عندما انعقد المؤتمر العالى الثانى للأممية الرابعة بعد عشر سنين فى 1948 كانت الأممية الرابعة مازالت تمثل مجموعات صغيرة جدا.

أن ثبوت خطأ تنبوءات تروتسكى جعلت من نظريته السليمة فى المجرد، ” أزمة القيادة ” غير ذات أهمية للأغراض العملية :
ولكن لنفترض أن الرؤية، في أساسياتها، كانت قد أثبتت صحتها، هل كان كل شئ سيكون على ما يرام؟ هل كان سيكون بمقدور الأممية الرابعة الصغيرة الوصول لقيادة العملية الثورية العالمية المنبثقة بثقة وترشدها نحوالانتصار؟ بالطبع لا يمكن الإجابة بالقطع على مثل هذا السؤال، كما هوالحال بالنسبة لكل أسئلة “كان يمكن أن يحدث”. إلا أن الواضح هوأنه كانت تبرز مشكلتان كبيرتان من قرار تأسيس الأممية أولا، كانت المجموعات التروتسكية صغيرة، ضعيفة جدا (أضعف بكثير، مثلا، من البلاشفة فى 1903، أوالسبارتكوسيين فى 1914، أومجموعة تروتسكى، ميزرا يونتس، فى 1917) بحيث يصبح من الصعب جدا عليها أن تجعل أحدا يشعر بها وسط انتفاضة ثورية عظيمة. أجل يمكن لحزب صغير أن ينموبشكل رائع فى وقت ثورة. ولكن يجب أن يمتلك فى البداية حجما وفاعلية معقولة على الأقل وإلا عصفت به الأحداث. هذه هى نقطة أهم مسألة عملية بناء الحزب الطويلة المرهقة فى فترة قبل الثورة. آمل تروتسكى فى التغلب على هذه الصعوبة بواسطة نظام من المطالب الانتقالية يمكن المجموعة الصغيرة من الارتباط وقيادة الجماهير. كتب :

تتكون المهمة الاستراتيجية للفترة القادمة… فى التغلب على التناقض بين الشروط الموضوعية وعدم نضج البروليتاريا وطليعتها… من الضرورى مساعدة الجماهير فى عملية النضال اليومى لخلق الجسر بين المطالب الحالية وبين البرنامج الاشتراكى للثورة يجب أن يتضمن هذا الجسر نظاما من المطالب الانتقالية ينبع من ظروف اليوم والوعى الحالى للشرائح الواسعة من الطبقة العاملة. نظام يؤدى بوضوح ودقة نحواستنتاج نهائى وحيد استيلاء البروليتاريا على السلطة.

ولكن لأن تروتسكى قرر إعلان الأممية بدون أن يكون لديه قاعدة الطبقة العاملة مدفوعا لاقتراح هذه المطالب الانتقالية صياغتها فى نظام ثابت بمعزل عن وبشكل يتقدم النضالات الجماهيرية. كان هذا أسلوبا خاطئا. لا يمكن ببساطة أن تستخلص المطالب التى تنبع حقيقة من “الوعي الحالي” وتؤدى فعليا إلى الاستيلاء على السلطة من رأس منظر. مهما كانت عبقريته، ولكنها يجب أن تكون تعبير وترجمة لنضالات الجماهير. لهذا الغرض يجب أن يوجد حزب ذوجذور ليعمل كهمزة اتصال وتفاعل بين العمال والقيادة. ولكن كانت الأممية الرابعة أضعف كثيرا من أن تستطيع لعب هذا الدور. لقد تم قبول برنامج تروتسكى الانتقالى. “الرأسمالية ومهمات الأممية الرابعة”. بدون تعديلات وتقريبا بدون نقاش، ولكن لم يحدث أبدا أن تبنى العمال مطالب البرنامج – من أجل سلم متصاعد للأجور، من أجل فتح ملفات الشركات الكبيرة. من أجل تأميم البنوك، من أجل ميليثيا عمالية.

كما أنه ليس من الممكن، مثلما ظن تروتسكى، التوقع بدقة والتخطيط المسبق لبرنامج الثورة – من الممكن رؤية الخطوط العريضة لمعركة، ولكن ليس الأشكال الخاصة للنضال، وعلى هذه الأشكال الخاصة يتم تحديد المطالب المعينة. فلكى يقودوا الثورة الروسية كان على البلاشفة أن يراجعوا كلية برنامجهم، وحتى شعارات أساسية مثل “فلتسقط الحكومة المؤقتة” وكل السلطة للسوفييتات كان لابد من سحبها فى أوقات وإعادة طرحها بعد ذلك.
المشكلة الثانية كانت ستتكون أن رؤية تروتسكى تضمنت “إعادة” تجميع جديدة وضخمة لصوف العمال. لم يكن من الممكن حدوث ذلك إلا من خلال انشقاقات فى الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية ومن خلال ظهور الكثير من المنظمات الثورية وشبه الثورية. إلا أن تروتسكى، بتأسيسه للأممية قبل حدوث أى من هذه التطورات أوحتى بدء حدوثها، كان يحاول أن يقرر مسبقا وبشكل محدد الشكل التنظيمى الذى ستأخذه عملية إعادة التجميع. فى هذه الظروف كان الوجود المسبق لأممية تتكون من مجموعات صغيرة جدا. ذات عادات حلقية، والتى كان سيجب على المنظمات والحركات الجديدة أن تنضم إليها، سيشكل فى الغالب عقبة صعبة أمام خلق أممية حقيقية لجماهير العمال.

فى فحصنا لمسألة الأممية الرابعة ونظرية تروتسكى عن الحزب يكون من المفيد الإشارة إلى كلمات كتبها هوفى 1928 (وجهها ضد السياسة الستالينية فى اللجنة النقابية الإنجليزية-الروسية) :
انه أسوأ وأخطر شئ لواتخذت مبادرة من الرغبة الانتهازية نافذة الصبر للقفز فوق تطور الحزب ولتخطى المراحل الضرورية فى تطوره (انه هنا بالتحديد حيث يجب عدم تخطى أوالقفز فوق أى مرحلة).
من المحتمل أن إعلان الأممية لم يكن انتهازية. إلا أنه كان بالقطع محاولة للقفز على تطور الحزب. في الأساس كانت خطوة ضخمة رفعت فيها راية ثورية عالية فى فراغ. أدت هذه الخطوة، إلى جانب بقية عمل تروتسكى، دورها فى الإبقاء على شعلة الماركسية غير المشوهة فى وقت كادت تنطفئ، فيه هذه الشعلة تماما. إلا أن هذه الخطوة أعطت، أيضا، لحركة التروتسكية رؤية خاطئة عن دور وطبيعة القيادة الثورية، أعطتها عددا من الرؤى الخاطئة عن البرنامج والمطالب الانتقالية وكم من الأوهام حول مدى قوتها وأهميتها.

3- انحطاط الأممية الرابعة:

يجب هنا أن نتطرق باختصار لما حدث للأممية الرابعة بعد موت تروتسكى. لأنه حينذاك ظهرت أخطاء السنوات الأخيرة من حياة تروتسكى بوضوح كامل. كان تروتسكى قد كتب فى 1938 :

لوكانت أمميتنا مازالت ضعيفة من حيث العدد. فهى قوية فى الفكر. البرنامج. التراث فى الصلابة التى لا تقارن لكوادرها ومن لا يعتقد ذلك اليوم فلندعه ينتحى جانبا فى الوقت الحاضر. غدا. سيصبح الأمر أكثر تأكيدا ووضوحا.

أثبتت بقية ” القيادة الأممية ” والتى لم يكن لديها أى خبرة حقيقية فى الحركة العمالية وبدون أى إنجازات نظرية مستقلة. أنها غير قادرة على تكييف ذاتها فى عالم متغير. انه لأحد عيوب أممية بدون قاعدة أنه يمكن لرؤيتها ” العالمية ” أن تبتعد أكثر فأكثر عن الواقع بدون أن تخضع لاختبار ودروس الممارسة، وهذا بالضبط ما حدث. على الرغم من كل الأدلة المعاكسة، تمسكت قيادة الأممية الرابعة ببرنامجها وأعلنت تحقق رؤاها وتوقعاتها. فى أوقات صارت هذه العملية ” كوميديا “. مثلما كتب جيمس ب.كانون. زعيم حزب العمال الاشتراكى الأمريكي بعد ستة أشهر من نهاية الحرب العالمية الثانية :

توقع تروتسكى بأن مستقبل الاتحاد السوفيتي سيتحدد فى الحرب يظل هذا هواقتناعنا الراسخ فقط نحن نختلف مع هؤلاء الذين يعتقدون، بدون تفكير، أن الحرب قد انتهت… الحرب لم تنته، والثورة التى قلنا أنها ستخرج من الحرب فى أوروبا مازالت على الأجندة.
فى مناسبات أخرى كان العمى عن رؤية الواقع أكثر خطورة. مثلا عندما كتب أرنست ماندل فى 1946:

لا يوجد أى سبب على الإطلاق يدعونا أن نعتقد أننا نشهد حقبة جديدة من الاستقرار والتطور الرأسمالى، على العكس. لقد عمقت الحرب من عدم التوازن بين زيادة إنتاجية الاقتصاد الرأسمالى وبين قدرة السوق العالمية على استيعابها.

فى مثل تلك الحالة كان من المحتم حدوث انشقاقات وانقسامات فى الحركة. المسألة التى أحدثت هذه الانقسامات ودمرت الأممية كانت “المسألة الروسية” وبالتالي مسألة أوروبا الشرقية. من وجهة نظر تروتسكى بقيت روسيا دولة عمالية بسبب علاقات ملكيتها المؤممة، ولكن دور البيروقراطية الستالينية رجعيا فى الداخل ومضاد للثورة على الصعيد العالمى. هذا الافتراض الأخير كان فى الحقيقة التبرير التاريخى لوجود الأممية الرابعة. لم يكن هناك وجود على الإطلاق للاستيلاء الشيوعى على أوربا الشرقية فى هذا التحليل، ولكن متى حدث هذا الاستيلاء ظهرت مسألة لم يكن ممكنا تجاهلها ولا الإجابة عليها بالإشارة ل ” البرنامج ” ما هوالطابع الطبقى للدول الأوربية الشرقية الشيوعية؟ هنا وجدت الحركة التروتسكية ذاتها في وسط أمر محير للغاية. فلوكانت أوروبا الشرقية دولا عمالية لما أبطلت وسخفت هذه الحقيقة فقط من الرأي القائل بأن الستالينية كانت مضادة للثورة، بل ولكانت ناقضت أيضا النظرية الماركسية عن الثورة الاشتراكية لأنه تقريبا في كل الحالات لم تلعب الطبقات العامل لأوربا الشرقية أي دور في تحررها. لوبقيت دول الشرقية رأسمالية أذن كيف يتم تفسير التطابق والتماثل التام بين بنيتها الاقتصادية والسياسية مع بنية الاتحاد السوفيتي؟ كان المنطق الوحيد المتماشى والمنسجم مع الماركسية الثورية هوالتخلى عن توصيف روسيا كدولة عمالية، ولكن هذا سيعنى مراجعة صريحة للبرنامج المقدس.

بدلا من ذلك راوغت الأممية الرابعة وانقسمت. في البداية حاولت المحافظة على موقف اعتبار هذه الدول دول فصل ما تزال رأسمالية، ثم بعد ذلك وتحت تأثير انفصال ستالين – تيتوفى 1948 ذهبت الأممية الرابعة لوجهة النظر المؤيدة للستالينية ضمنيا… خلق الجيش الأحمر، خلق سلسلة من الدول العمالية المشوهة. صاحب ذلك التحول محاولة انتهازية لمغازلة المارشال تيتو، ثم بعد ذلك، وتحت قيادة ميشيل بابلو، تحول ضخم نحوالستالينية بلغ ذروته فى نظرية أن هناك حربا عالمية أخرى تقترب ستضطر فيها الأحزاب الستالينية أن تجذر من مواقفها. من هذا استخلص بابلوالنتيجة المنطقية أن الأحزاب التروتسكية يجب أن تحل نفسها وتستأنف اتخاذ مواقف يسار الأحزاب الشيوعية. صاحب كل تلك العملية عدد لا يحصى من الانقسامات والطرد، ولكن حدث هنا انقسام ضخم. اعترضت أجزاء كبيرة من الأممية تحت قيادة حزب العمال الاشتراكى الأمريكي على هذه السياسة التصفوية وقاطعت القيادة : لكن لم ترفض هذه الأجزاء إلا استنتاجات بابلووليس مقدمات وتحليل بابلو. صارت الحركة الأممية التى أسسها تروتسكى حطام – نظريا وسياسيا وتنظيميا.

أن نتيجة هذه القصة الحزينة هى أنه توجد اليوم أربعة منظمات تدعى أنها الأممية الرابعة والعديد من المنظمات التى تحاول إعادة بناء الأممية الرابعة. يوجد الآن فى بريطانيا أكثر من عشر مجموعات تروتسكية ” أرثوذكسية ” تدعى كلها الالتزام بـ”أسفار” برنامج 1938.

بالطبع لم تنج النظرية اللينينية فى التنظيم، والتى دافع عنها تروتسكى طويلا، من آثار انحطاط التروتسكية. فبينما تلتزم كل المجموعات التروتسكية بكلمات النظرية حرفيا، تعرضت “روح” النظرية لنوعين من التحريف. يمكن وصف النوع الأول بالحلقية الدوجماتية المتطرفة. فى هذا النوع تعلن المنظمة وتطلب حق قيادة الطبقة العاملة، مهما كان صغر حجم المنظمة وعدم أهميتها. تعرف نفسها أنها الحزب الثورى ليس على أساس دورها فى الصراع الطبقى بل على أساس امتلاكها “النظرية السليمة” و”الخط السليم”. أساسا ينظر للحزب على أنه منفصل ليس فقط عن الطبقة العاملة ككل بل أيضا عن العمال الطليعيين.

ولوكان الحزب بالنسبة للينين هومعلم وتلميذ فى ذات الوقت، ففى هذه النسخة من التروتسكية يحاول الحزب لعب دور ناظر المدرسة على الطبقة العاملة. داخليا تميل تلك المنظمات للشمولية والعقابية بل وأحيانا لعبادة القائد. خارجيا تعيش تلك المنظمات أوهام خاطئة عن العظمة والأهمية وتتصف بالبارانويا وعدم القدرة على النظر فى وجه الحقيقية.

النوع الثاني من تلك المنظمات يمكن وصفه بالانتهازية البرجوازية الصغيرة. فعلى الرغم من أنها تؤدى طقوس الطاعة فى المناسبات لـ”دور الطبقة العاملة” إلا أن الفشل في تحقيق قاعدة في الطبقة العاملة، في الممارسة، تقبل كأمر واقع طبيعى ويتم البحث عن بدلاء. يتراوح هؤلاء البدلاء من الحركات المتضامنة مع العالم الثالث، للطلبة الثائرين، للراديكاليين السود (سلطة السود)، لتحرر المرأة. ولكن هذا النوع من المنظمات التروتسكية يتميز بالآتي: أ- البقاء داخل والتكيف مع مناخ برجوازى صغير، ب- التأجيل للمستقبل غير المحدد للمهمة المركزية لاختراق وتنظيم الطبقة العاملة الصناعية. هكذا تصبح المجموعة الصغيرة تشبه مجموعة نقاش أكاديمية تهتم بالحذاقة النظرية، وهوالجوالذى لا يمكن أن يستريح فيه العمال.

يعتمد كل من هذين النوعين من “التروتسكية” بثقل في نظريتهما عن الحزب على نظرية لينين قبل 1905 وهي أن الاشتراكية يجب تقديمها إلى الطبقة العاملة من الخارج، أن كلا من هذين النوعين يستخدمان هذه الفكرة كعذر وتبرير لعزلتهما عن الطبقة العاملة. فى واقع الأمر، وباسم لينين وتروتسكى، وصلت تلك المنظمات إلى صنع كاريكاتير تام من النظرية اللينينية التروتسكية عن الحزب.

بالطبع أنه من غير المعقول تحميل تروتسكى مسئولية كل الحماقات التى ارتكبها ويرتكبها متبعوه ولكن على الرغم من ذلك، يوجد نوع ما من الاستمرارية بين الأخطاء فى رؤاه عن الأممية الرابعة وتطورها اللاحق وإذا استخدمنا صورة بلاغية لتروتسكى ذاته يمكن القول بأن الخدش فى نظريته عن الحزب، الذى نتج عن الظروف اليائسة فى الثلاثينات، قد تلوث وتضخم وأدى فى النهاية لغرغرينة التخلى عن رؤية الحزب الثورى كتنظيم العمال المتقدمين.

« السابق التالي »