الماركسية والحزب
7. الفصل السادس: جرامشي والأمير الحديث
في الوقت الذي ناضل فيه تروتسكى لتطبيق نظرية التنظيم اللينينية قضى أنطونيوجرامشى إحدى عشر عاما فى سجن فاشى طور فيهما أفكارا جديدة وأصيلة فى الإستراتيجية الثورية. كان نتاج هذا المجهود الضخم مفهوم جديد عن دور ومهام الحزب الثورى ويعتبر هذا المفهوم محور الاستراتيجية الجرامشية والإضافة الجوهرية الوحيدة لنظرية التنظيم الماركسية منذ لينين. استطاع جرامشى تحقيق هذه الإضافة النظرية أساسا بسبب منظوره الفلسفى الفريد الذى تناول من خلاله مسألة الحزب وبالتالى فان أى تحليل لنظرية الحزب عند جرامشى لبد أن يبدأ بتناول الأسس الفلسفية التى بنيت عليها.
1- فلسفة الممارسة:
وصل جرامشى إلى الماركسية، كما فعل جورج لوكاتش (الفيلسوف الماركسى البارز الآخر فى فترة ما بعد الحربين)، عن طريق هيجل. أى طريق الفلسفة. كان لبنديتو كروس وأنطونيو لابريولا التأثير فى تكوين جرامشى الثقافى. كان كروس فيلسوفا مثاليا يرى أن الهدف الأساسى للفلسفة هوفهم التاريخ ولذا أطلق على نفسه تسمية مؤرخ مطلق. اعتبره جرامشى أعلى تمثيل للثقافة البرجوازية الإيطالية واحد أبرز المتحدثين باسم الليبرالية فى العالم. كان كروس ناقدا للماركسية وعلى الرغم من ذلك كان جرامشى يرى أن أعماله كانت على مستوى ثقافى أرقى من الأعمال الماركسية الفجة والوضعية المنتشرة فى إيطاليا ما قبل 1914، لذا تماثل علاقة جرامشى بكروس تلك العلاقة بين ماركس وهيجل. فى البداية وقع تحت تأثيره ثم اعتبره بعد ذلك فأكثر كشخصية أساسية لابد من تحديها وتخطيها من خلال مزيج نظرى جديد. أن ما أخذه جرامشى من كروس وطوروه هورفض الحتمية الاقتصادية والوضعية كما أخذ منه أهمية القوى الأخلاقية السياسية أوالأيديولوجية فى التاريخ.
قدم انطونيولابريولا الجسر بين الماركسية والمثالية الكروسية حيث يعد مؤسسس الماركسية الإيطالية فى أواخر القرن التاسع عشر. كان لابريولا أستاذ فلسفة فى جامعة روما، جاء إلى الماركسية فى فترة متأخرة فى حياته بعد أن كان أبرز قيادات المدرسة الهيجلية الإيطالية. كان لابريولا أول من قدم مصطلح فلسفة الممارسة والذى استخدمه جرامشى كمصطلح بديل للماركسية فى ” مذكرات السجن ” لتخطى رقابة السجن. كان جرامشى يكن له احتراما كبيرا وقدر بالذات تركيزه على الوحدة بين النظرية والتطبيق واستقلال الماركسية عن كل الاتجاهات الفلسفية الأخرى. فى مذكرات السجن وصفه جرامشى بأنه ” الرجل الوحيد الذى حاول بناء فلسفة الممارسة عمليا “.
وضح الاتجاه الذى تسير فيه أفكار جرامشى فى المقال الذى استقبل به الثورة الروسية، الثورة ضد رأس المال والذى مدح فيه البلاشفة لرفضهم أن يتقيدوا بالقوانين التاريخية الحيدية. وعندما أصبح جرامشى بعد الحرب العالمية ماركسيا ناضجا وشيوعيا، كانت ماركسيته مختلفة تمام عن المادية العلمية التقليدية التى كانت تميز الأممية الثانية وتهيمن بدرجة كبيرة على الأممية الثالثة أيضا باستثناء لينين الذى كان قد غير موقفه الفلسفى فى 1914.
بالنسبة لجرامشى الناضج فى مذكرات السجن كانت فلسفة الممارسة هى التأريخ التام والعلمية التامة والمادية التامة للفكر والإنسانية التامة للتأريخ. هذه الفلسفة تتعارض كليا مع جميع أشكال الميتافيزيقا سواء كانت ميتافيزيقا لطبيعة إنسانية مجردة أم الإنسان بشكل عام التى نجدها فى الدين والفلسفات المثالية المشتقة من الدين أم كانت ميتافيزيقا تؤسس نفسها على أساس قوانسن موضوعية.
يميز جرامشى نفسه، من خلال تعريفه للماركسية بشكل تاريخى / أنساني ليس فقط عن بوخارين وكاوتسكى والكانطيين الجدد. بل أيضا عن بليخانوف المعلم الفلسفى لكل الماركسيين الروس. يؤدى به هذا إلى نقد التصور السائد لمسائل فى غاية الأهمية لنظرية الحزب ” الحتمية التنبؤ العلمى، الحتمية الاقتصادية.
تؤدى التحليلات الحتمية للماركسية، كما أشرنا كثيرا من قبل. إلى عرقلة فهم الحزب ولذا يعتبر أعظم إنجازات لينين هوفصل نفسه عن الفهم الحتمى للتنظيم فى الأممية الثانية. ولكن ما يميز جرامشى عن لينين وتروتسكى ومعارضين آخرين للحتمية أن هؤلاء لم يواجهوا الحتمية أبدا على هذا المستوى الفلسفى. فقد تجنبوا المسألة الأساسية وتناولوا الحتمية كعنصر زمن. فيقولون أنه بالطبع على المدى الطويل تكون وحدة البروليتاريا وانتصار الاشتراكية… الخ أمورا حتمية، ولكن السؤال هوكيف نسرع هذه العملية، ما العمل الآن؟ وبهذه الطريقة يتم الالتفاف حول الآثار السلبية للحتمية ولكن بسبب التنازل للحتمية فى النهاية لم يتم نبذها بشكل كلى. أما بالنسبة لجرامشى فعلى الرغم من فهمه لدور المفيد تاريخيا الذى تلعبه الحتمية لكنه لم يقع فى هذا اللبس : ” لابد من ملاحظة كيف أن العنصر القدرى والحتمى والميكانيكى هوبمثابة عطر يخرج من فلسفة الممارسة شبيه بالدين والمخدرات. (فى تأثيره السلبى).
فى فترات الهزيمة تكون الفكرة الحتمية أن التاريخ على جانبنا مصدر للقوة والمقاومة ولكن تكون البروليتاريا تلعب الدور الرئيسى فى التوجيه الفعلى للأحداث (فى الثورة مثلا) تصبح الميكانيكية فى لحظة معينة خطر وشيك. أن القوة الكبيرة التى تمتلكها الماركسية بالنسبة للماركسى الحتمى أمام الأيديولوجيا البرجوازية هى قدرتها على قراءة المستقبل بسبب كشفها لقوانين التاريخ. أما جرامشى فيرى :
فى الواقع لا يمكن التنبؤ إلا بالصراع وليس الظروف الملموسة للصراع والتى لا يمكنه أن تكون إلا نتاج لقوى متناقضة فى حركة مستمرة لا تقلل أبدا إلى كميات محدودة، ففيها يتحول باستمرار الكم إلى كيف فى الواقع نستطيع التنبؤ بالدرجة التى نمارسها أى بالدرجة التى نبذل بها جهد تطوعى. وبذلك نشارك بشكل ملموس فى خلق النتائج المتنبأ بها. يكشف التنبؤ نفسه ليس كعملية معرفة علمية ولكن كالتعبير المجرد للجهد المبذول. الوسيلة العملية لخلق إرادة جماعية.
إذا كانت القدرية بالنسبة لجرامشى شبيهة بالدين فان الحتمية للاقتصادية كانت بالنسبة له ليست أفضل كثيرا من الخرافة وتشويه فج للماركسية ولمواجهة هذه الحتمية الاقتصادية كمنهج تاريخى يرجع جرامشى إلى الشهادة الأصلية لماركس. مؤلف أعمال سياسية وتاريخية ملموسة.
يرى جرامشى الاقتصادوية أوالنقابية كاتجاه فى حركة الطبقة العاملة يجد أصوله فى الليبرالية البرجوازية (الحركة الحرة للقوى الاقتصادية) وليس فى الماركسية والتى تهدف إلى تطويع القوى الاقتصادية لإرادة الإنسان من خلال السياسة. النقابية هى نظرية طبقة مضطهدة ” وتمنعها هذه النظرية من أن تصبح طبقة مسيطرة “.
يربط جرامشى بين الامتناع اليسارى المتطرف فى الانتخابات والرفض المطلق للتنازلات والعداء للتحالفات وبين الاقتصادية فى أنها كلها مبنية على اقتناع بأن القوانين الاقتصادية (خاصة فى وقت الأزمة الرأسمالية) ستؤدى فى حد ذاتها إلى الاشتراكية. كانت هذه الرؤية لدور الأزمات الاقتصادية بالنسبة لجرامشى ” روحانية تاريخية ” انتظار معجزة مضيئة من نوع ما. على العكس من ذلك لا تؤدى الأزمات الاقتصادية المباشرة فى حد ذاتها إلى أحداث تاريخية جوهرية : بل تحدث بيئة أكثر ملائمة لنشر أفكار معينة ووسائل معينة لطرح وحل مسائل متعلقة بالتطور اللاحق للحياة القومية ككل.
أن التحليل الماركسى الأصيل لموقف ما بالنسبة لجرامشى ربد أن يكون دراسة ملموسة لعلاقات القوى بالنظر إلى تغييرها. أن تحليل مثل هذا لابد أن يشتمل على الأقل المستويات الثلاثة التالية :
علاقات القوى الاجتماعية وثيقة الارتباط بالبنية الموضوعية المستقلة عن الإرادة الإنسانية والتى يمكن أن تقاس بأساليب العلوم الطبيعية. على هذا الأساس نستطيع أن نكتشف إذا كان يوجد فى مجتمع معين الظروف الضرورية والكافية لتحويل هذا المجتمع.
علاقات القوى السياسية، تقييم لدرجة التجانس والوعى الذاتى والتنظيم التى وصلت إليها الطبقات الاجتماعية المختلفة.
علاقات القوى العسكرية.
كتب جرامشى ” أن التطور التاريخى يتأرجح بشكل مستمر بين المستوى الأول والثالث بواسطة المستوى الثانى ” يهتم جرامشى بشكل خاص بهذا المستوى الثانى الوسيط أى المستوى السياسى.
يعطى جرامشى أذن للفلسفات والتصورات عن العالم وللأفكار التى يتبناها الناس دور مهم وفعال فى خلق التاريخ. بالطبع يفتح هذا عليه باب الاتهامات بالإرادية والمثالية (كانت هذه الاتهامات توجه إليه بشكل متكرر فى الصراعات الداخلية للحزب) فى الواقع لا يهتم جرامشى بالفلسفة فى المجرد ولكن بالتطور التاريخى الملموس لفلسفات معينة وخاصة تأثيرها على التفكير اليومى والوعى الدارج للجماهير.
أن يستطيع جمهور من الناس التفكير بانسجام وبشكل وحدوى فى الواقع الحاضر هوحدث فلسفى أكثر أهمية وأصالة من عثور عبقرية فلسفية ما على حقيقة جديدة تبقى ملكا لمجموعات صغيرة من المثقفين.
يصر جرامشى على أن كل شخص فيلسوف ولكن بطريقته الخاصة وبشكل غير واعى. ولكن من الضرورى تحويل ما هوضمنى ومتناقض ومفك فى الجماهير إلى وعى منظم ونقدى من الممكن أن ينتج عنه تكوين إرادة فعل جماهيرية جماعية. ولكن النظرة الكونية هذه لا يمكن أن تنموبشكل عفوى فى أفراد منعزلين. أن تكوين إرادة جماعية يستلزم نقطة انطلاق ونقطة انتشار. لابد أن توجد قوة تعمل على تطويره من الناحية النظرية والعملية.
لذا أدت فلسفة الممارسة عند جرامشى بتركيزها على الفاعل الإنساني الواعى فى التاريخ ونبذها للحتمية الميكانيكية والجامدة بشكل مباشر إلى مسألة الحزب الثورى وجعلته متمكنا لدرجة كبيرة فى التعامل مع هذه المسألة ولكن بالتعمق الفلسفى وحده لم يكن جرامشى ليستطيع تطوير نظرية الحزب بشكل ملموس. كان هناك شرط آخر لظهور نظرية الحزب عند جرامشى وهوالاشتراك بشكل متعمق فى الفعل السياسى فى حركة الطبقة العاملة والتحليل الملموس لها.
2- التجربة الإيطالية – الثورة والهزيمة:
كانت التجربة السياسية الفاصلة فى تكوين فكر جرامشى هى انتفاضة عمال إيطاليا بقيادة بروليتاريا تورينوفى 1919 و1920. أن تدخل جرامشى فى هذه الأحداث من خلال المجلة الأسبوعية ” النظام الجديد ” جعلته قريبا جدا من عمال تورينو. يتذكر جرامشى أنه :
فى ذلك الوقت لم نتخذ أى مباشرة لم تكن قد اختبرت فى الواقع… وأخذ رأى العمال بشكل كامل فى الموضوع. لهذا لا سبب ظهرت مبادرتنا كتفسير لحاجة ملموسة وليس أبدا كتطبيق بارد لنموذج ثقافى.
كان إنجاز جرامشى العظيم فى ” النظام الجديد ” هوترجمة فكرة السوفييتات الروسية إلى إيطاليا وذلك من خلال تطوير اللجان الداخلية للمصانع كأساس لدولة جديدة. فى نص مهم كتب فى 1920 لخص جرامشى تصوره للشيوعية كالتالى :
تؤكد لذلك على التالى : أن الثورة ليست بالضرورة بروليتارية وشيوعية إذا طرحت ونفذت عملية الإطاحة بالدولة البرجوازية، ولا تكون بروليتارية وشيوعية إذا طرحت ونفذت عملية تدمير المؤسسات التمثيلية والجهاز الإداري الذى تمارس من خلالها الحكومة المركزية السلطة السياسية للبرجوازية، لم ولن تكون بروليتارية وشيوعية حتى إذا وضعت موجة الانتفاضة الشعبية السلطة فى أيدى أشخاص يسمون أنفسهم (ويكونوا بصدق) شيوعيين. تكون الثورة بروليتارية وشيوعية فقط بالدرجة التى تحرر بها قوى الإنتاج البروليتارية والشيوعية، قوى كانت تتطور بداخل المجتمع المحكوم بالطبقة الرأسمالية. تكون بروليتارية وشيوعية بالدرجة التى تدفع إليها وتشجع نمووتنظيم القوى والبروليتارية والشيوعية القادرة على بدء العمل الصبور والمنهجى الضرورى لبناء نظام جديد فى علاقات الإنتاج والتوزيع.
أن هذا التأكيد على الجانب الخلاق والبناء للثورة العمالية وليس على الجانب التدميرى. الإطاحة بالرأسمالية ظل كخيط أساسى فى فكر جرامشى. كانت هذه التجربة أيضا سلبية فى أنها فضحت الضعف الشديد للحزب الاشتراكى الإيطالي ولتراث الاشتراكية الإيطالي ككل. فشلت التيارات الرئيسية للاشتراكية الإيطالية تماما فى تقدير أهمية مجالس المصانع واعتبرتها تهديدا لنظام النقابات القائم وتركت البروليتاريا. فى تورينولتناضل وحدها. وفى اللحظة الحاسمة، ظل الحزب الاشتراكى الإيطالي مثلولا بالبيروقراطية غير قادرا أوراغب فى تقديم قيادة واضحة للحركة الثورية الصاعدة، وكنتيجة لذلك فقدت المبادرة وفتح الطريق أمام الثورة المضادة الشرسة والتى وصلت إلى قمتها فى تقدم موسولينى إلى روما. كان رد فعل جرامشى لهذه الخيانة هونقد مدمر بعنوان ” نحوتجديد الحزب الاشتراكى ” والذى أدان فيه قيادة الحزب لفشلها فى خلق حزب نضالى متجانس مطهر من العناصر الإصلاحية وغير الشيوعية وفشلها فى اشتراك الحزب فى نشاط الأممية الثالثة ونقص المعارضة الثورية فى الاتحاد العام للعمل وارتباطها بالديموقراطية البرلمانية وامتناعها عن شن هجوم على السلطة. توصلت هذه الأطروحات، والتى نالت تأييد لينين، إلى أن :
وجود حزب شيوعى على درجة عالية من الانضباط والتماسك وله خلايا فى المصانع والنقابات والجمعيات ويستطيع من خلال لجنته المركزية التنفيذية تركيز وتنسيق الفعل الثورى البروليتارى كله. هوالشرط الجوهرى والذى ل يمكن الاستغناء عنه لأى تجربة سوفييتات.
لذا لم يكن موقف جرامشى الفلسفى فقط ولكن أيضا تجربته العملية هوالذى أدى به إلى مسألة الحزب. ولكن فى البداية لم يكن إبداعه ظاهرا ولم يكن يستطيع تبنى سياسة مستقلة. تسبب فى هذا جزئيا ضغوط الأحداث اليومية والقمع الفاشى وأيضا الموقف الذى وجد نفسه فيه بداخل الحزب الشيوعى الإيطالي حديث التأسيس. كان الحزب منقسما بين الشخصية المهيمنة لاماديوبورديجا اليسارى المتطرف وجناح يمينى انتهازى بقيادة انجليلوتاسكا.
اختلف جرامشى بعمق مع بورديجا ولكنه كان يقدر قيمة وجوده فى قيادة الحزب ولم يرغب فى تحديه خوفا من أن يقع الحزب تحت سيطرة تاسكا. لم تكن الفرصة متاحة لجرامشى لتطوير وإيضاح أفكاره حتى اعتقاله فى 1926. وفى ذلك الوقت كانت الأحداث على المسرح العالمى تشكل جزءا كبيرا من اهتمامه. أراد جرامشى أن يتعلم دروس هزيمة الموجة الثورية التى أعقبت الحرب ليس فقط فى إيطاليا ولكن فى جميع أنحاء أوربا. ورأى جرامشى فى نموالدولة الفاشية وظهور الفوردية فى أمريكا تطورات حديثة فى الرأسمالية تطرح مسائل استراتيجية جديدة أمام الحركة العمالية.
كانت هذه الخلفية التاريخية التى كون أثناءها جرامشى فى كتابات السجن مفاهيمه عن الحزب الثورى.
3- الأمير الحديث والمنظور المزدوج:
تناول جرامشى مسألة فى مذكرات الحزب فى مذكرات السجن من خلال دراسة لكتاب الأمير لمكيافيللى. كانت أهمية مكيافيللى بالنسبة لجرامشى تكمن فى أنه يمثل تجربة رائدة فى إيطاليا فى إيضاح كيفية خلق إرادة قومية جماعية من أجل تأسيس دولة جديدة (إيطاليا برجوازية موحدة).كان مكيافيللى ” يعقوبى النزعة ” وطرح من خلال الشخصية الأسطورية ” الأمير ” القيادة السياسية، الإستراتيجية والتكتيك الضرورين لتحقيق هذا الهدف. أن تأسيس دولة عمالية جديدة يتطلب مثل هذه القيادة السياسية – أمير حديث – ولكن يقول جرامشى :
أن الأمير الحديث.. لا يمكن أن يكون شخصية حقيقية أوفرد ملموس. لا يمكن أن يكون الأكائن عضوى، عنصر مركب فى المجتمع بإرادة جماعية قد ظهرت من قبل واستطاعت لدرجة ما أن تثبت نفسها فعليا وبدأت تأخذ شكلا ملموسا. لقد قدم لنا التاريخ هذا الكائن وهوالحزب السياسى – أولى الخلايا التى يتجمع فيها بذور إرادة جماعية تتجه نحوالكونية والكلية.
وكما يوضح مكيافيللى الخواص الضرورية لأمير ناجح، يمضى جرامشى، مستندا على أساس الموقف الفلسفى الموضح أعلاه، لتناول الخواص الضرورية للحزب الثورى ولكن للأسف لا يفعل ذلك بشكل منظم بل من خلال سلسلة من الملاحظات الغنية جدا والمعقدة جدا، فيها درجة ما من التفكك والتى تتداخل فيها مواصفات الحزب الثورى مع نقاط تحليلية عن الأحزاب بوجه عام. ولذا سيكون أي عرض مختصر نسبيا لهذه الأفكار، كما هوالحال فى هذه الدراسة مضطرا إلى محاولة انتقاء الخيوط الرئيسية وإدخالها فى بنية ليست موجودة (على الأقل ظاهريا) فى الأصل. لابد أن يكون فى هذه العملية بعض التعسف ولن تكون مرضية بشكل كامل، ولكن لن يمكننا تجنب هذا.
يعارض جرامشى أى فصل ميكانيكى للمستويين وأى محاولة لعرضهما كمراحل متتالية، منفصلة زمنيا. أن عنصر القبول دائما موجود فى تطبيق القوة وعنصر القوة موجود دائما فى كسب القبول. يلاحظ محرروا كتاب مذكرات السجن أن :
من الممكن أن نرى هنا محاولة لتنظير الصراع الذى خاضه جرامشى فى الحزب الشيوعى الإيطالي ضد بورديجا من جهة وتاسكا من الجهة الأخرى. يمثل بورديجا فى هذا النموذج العزل غير الجدلى للقوة والسيطرة ويمثل تاسكا عزلا متوازيا للقبول والهيمنة.
حول جرامشى أن ينظر وحده هذين المنظورين. ولكن كما هوصحيح أن فى الجدلية الثورية للهدم / إعادة البناء يركز جرامشى على جانب البناء ومع أنه لم يتغافل أبدا عن لحظة القوة فان اهتمامه الأساسى هوبمسألة القبول الجماهيرى وطور أبحاثه التالية على هذا الأساس. يعتبر السجال (الصراع ضد البورديجية) سببا جزئيا لهذا الاهتمام. ولكن السبب الرئيسى هوإعادة النظر العميقة التى قام بها جرامشى للمهام التى تواجه الأحزاب الثورية بعد هزيمة الحركة الثورية بعد الحرب وتطورات الرأسمالية الحديثة.
إذا كان لابد على الحزب الثورى تبنى المنظور المزدوج فهذا لأن الطبقة الحاكمة تبقى على نفسها بنفس الأسلوب أى بمزيج من الديكتاتورية والهيمنة والذين يتم تجسيدهم فى سلطة الدولة السياسية والمجتمع المدنى. ولكن سلطة الدولة القمعية ومؤسسات المجتمع المدنى لا يتطوران بشكل متكافئ ولا يقفان فى نفس المواقع بالنسبة لبعضهما فى كل الأوقات وفى كل البلدان. لابد على الحزب الثورى أن يقوم بتحليل ملموس لهذه العلاقة بين سلطة الدولة ومؤسسات المجتمع المدنى وأن يشكل استراتيجية على هذا الأساس. وقد اعتقد جرامشى أن فشل ما بعد الحرب فى الغرب كان نتيجة لاختلاف أساسى بين روسيا والغرب من هذه الناحية :
فى روسيا كانت الدولة كل شئ، وكان المجتمع المدنى متخلفا وغير متماسك. أما فى الغرب كانت العلاقة بين الدولة والمجتمع المدنى متوازنة فلما اهتزت الدولة ظهر فى الحال بناء صلب للمجتمع المدنى.
وأيضا :
فى حالة أكثر الدول تقدما… يصبح المجتمع المدنى بناء شديد التعقيد ويقاوم كارثة الهجوم المفاجئ للعنصر الاقتصادى المباشر (الأزمات. الكساد،… الخ).
لذلك وقفت الدولة الرأسمالية فى روسيا معزولة فى وظيفتها القمعية غير قادرة على مواجهة هجوم أمامى سريع. ولكن فى الغرب حيث الرأسمالية أقدم ولها جذور أعمق كثيرا فى المجتمع هناك احتياج لاستراتيجية مختلفة، يستخدم جرامشى مصطلحات من الاستراتيجية العسكرية ليعرف الاتجاهين : حرب المواقع وحرب المناورات. حرب المواقع هى الصراع طويل الأمد على الهيمنة الاستراتيجية التى يجب اتباعها فى الغرب. حرب المناورات هى إستراتيجية الهجوم الأملمى المباشر والتى استخدمت فى الثورة الروسية. فى أماكن أخرى من المذكرات يطرح جرامشى مسألة الانتقال من حرب المناورات إلى حرب المواقع بشكل مختلف. ليس فى المقارنة بين روسيا والغرب ولكن فى المقارنة الزمنية. ” فى العصر الحالى نفذت حرب المناورات سياسيا بين مارس 1917 ومارس 1921، أعقب ذلك حرب المواقع “.
على عكس حرب المناورات والتى تقدم إمكانية انتصار سريع، تعنى حرب المواقع عملية حصار متبادل طويلة المدى وتحتاج إلى تركيز غير مسبوق للهيمنة. يجب على الحزب الثورى أن يناضل من أجل تقويض القبول الذى تناله سلطة الطبقة الحاكمة من الجماهير (والذى يتم من خلال ألف قناة مؤسسية وجماعية تخترق الفكر الدارج للجماهير) وأن يخل هيمنة جديدة وهذا على ثلاثة مستويات. أول هذه المستويات يتعلق بمسالة التحالفات :
تستطيع البروليتاريا أن تصبح الطبقة القائدة والحاكمة فقط للدرجة التى تنجح فيها فى خلق نظام للتحالفات الطبقية يمكن من خلالها تعبئة غالبية الجماهير العاملة ضد الرأسمالية والدولة البرجوازية.
يوضح جرامشى أن مثل هذا التحالفات ستتضمن بالضرورة عنصر التنازلات. إذا كان اتحاد قوتين ضرورى لهزيمة قوة ثالثة. تكون الإمكانية العملية الوحيدة هى التنازلات التكتيكية. يزعم جرامشى أن رفض اليساريين المتطرفيين المبدأ للتنازلات هونتاج للحتمية الاقتصادية :
إذا كانت الظروف المناسبة ستظهر بشكل حتمى… فمن الواضح أن أى مبادرة لتوجيه وتخطيط هذه الظروف لن يكون غير مفيد فقط بل أيضا مضر.
أما جرامشى فقد وضع أهمية خاصة لاستراتيجية التحالفات لأن فى إيطاليا لم تكن الثورة ممكنة إلا على أساس تحالف بروليتاريا الشمال مع فلاحى الجنوب. كان تاريخ الاشتراكية الإيطالية فى هذه المسالة سئ جدا. أن التغلب على كل الاتجاهات الحلقية فى الحزب هو شرط اساسى لتحقيق الهيمنه لذا فليس من المستغرب أن جرامشى كان معاديا تماما للتكتيك الستالينى فى الفترة الثالثة. ولكن لم يكن هذا معروفا فى ذلك الوقت.
أما المستوى الثانى للنضال من اجل الهيمنه فهوعملية تثقيف ففى حرب المواقع لا يمكن الاعتماد فقط على تعبئة الجماهير العمال وراء مطالب مباشرة وشعارات. لابد أن يكتسبوا درجة من الوعى برؤيتهم الكونية ويندمجوا إلى قوة منظمة بشكل دائم ومستعدة على المدى الطويل لان توضع فى ساحة القتال فى اللحظة المناسبة. لإنجاز هذا لابد على الحزب :
إلا يتعب أبدا من إعادة طرح أفكاره (من خلال تقديم أشكال أدبية متعددة) فالإعادة هى افضل الوسائل التعليمية للعمل على العقلية الجماهيرية ولابد من العمل بشكل دائم لرفع المستوى الثقافى لشرائح متنامية باستمرار من الجماهير.
يتطلب هذا تعديل التوازن بين التحريض والدعاية لصالح الدعاية فعلى الحزب إلا يكون فقط تعبيرا عن الطبقة بل أن يتفاعل بشكل نشيط معها ليطورها ويقويها ويوحدها أن الدوجمائية الحلقية فى النظرية خطيرة جدا لمثل هذا العمل من اجل التغيير الثقافى والاخلاقى. وكان جرامشى دائما يعارض ظهور مثلا معاداة الدين الفجة فى الدعاية الاشتراكية. ولا يمكن رفع المستوى الثقافى للجماهير من خلال فرض دوجما، بل يجب أن يأتي هذا من خلال فصل العناصر الصحيحة فى الفكر الدارج للجماهير عن عناصر التعصب المرتبك.يحتاج هذا إلى منهج ماركسر عميق وغير اقتصادى.
أما المستوى الثالث والذى يشترط تواجده لانجاح العنصرين الآخرين فيمكن أن يسمى بالصراع من اجل المثقفين، ولهذا الصراع جانبان : الولا، من الضرورى خلق شريحة من المثقفين العضوين للطبقة العاملة. ويستخدم جرامشى مصطلح المثقفين هنا ليس للإشارة للكاتب أوالفيلسوف أوالمفكر التجريدى… الخ. وإنما للعامل الذى يمتلك رؤية واضحة للعالم ولأهدافه ويشارك بشكل فعال فى الحياة العملية، مقنع دائم يشكل العنصر الموجه فى الطبقة العاملة. وبكلمات أخرى، الجانب البروليتارى لمثقفى البرجوازية العضوين – المهندسون الصناعيون، الاقتصاديون السياسيون، القضاة، المحامون،… الخ.
أن تشكيل نخبة من المثقفين من نوع جديد يخرجون بشكل مباشر من الجماهير ولكن يظلون متصلين بهم… هوبالفعل ما سيعادل من الصورة الأيديولوجية للعصر. ولكن جرامشى ليس طوبويا فى هذا الموضوع. فهويدرك من تجربته الشخصية صعوبة العمل الثقافى والدراسة المنتظمة خاصة للعمال ويدرك أن تشكيل العمال المثقفين عملية طويلة وبطيئة لا يمكن إتمامها إلا بعد الاستيلاء على سلطة الدولة.
من الضرورى أيضا العمل مع المثقفين غير البروليتاريين، ولكن هنا أيضا جرامشى واضحا حول حدود هذا العمل :
يتطور المثقفون ببطء، ابطأ بكثير من أي جماعة أخرى. وهذا بسبب طبيعتهم ودورهم التاريخى… من العبث الظن بأنه من الممكن لهذه النوعية أن تنفصل ككتلة عن الماضى كله من اجل أن تتضع نفسها بشكل كامل على جانب أيديولوجية جديدة. من العبث المثقفين ككتله وربما من العبث لكثير من الأفراد على الرغم من الجهود التى يقومون بها أويريدون القيام بها الآن، يهمنا المثقفين ككتلة وليس فقط كأفراد. من المهم والمفيد طبعا للبروليتاريا أن يقوم مثقف أوعدد من المثقفين الفرادى يتبنى برنامجها ومبادئها وأن يدمجوا أنفسهم مع البروليتاريا ويصبحوا جزء لا يتجزأ منها… ولكن من المهم ولا مفيد أيضا أن يحدث انقسام من النوع العضوى، بشكل تاريخى، داخل المثقفين ككل : أي أن يشكل، بشكل تكتلى جماعى تيار يسارى، بالمعنى الحديث للكلمة، موجها نحوالبروليتاريا الثورية.
أن ضرورة هذا لا تأتى فقط من اجل تقويض الهيمنه البرجوازية بشكل عام ولكن أيضا لان جرمشى يرى أن المثقفين يلعبون دورا هاما فى إبقاء نظام التحالفات التى تبنيها الطبقة الحاكمة مع الشرائح المقهورة ولذا بإمكانهم أن يلعبوا دورا مشابها فى نظام التحالفات ولابد أن يبنيها حزب البروليتاريا.
يحلل جرامشى، بالنسبة لإيطاليا، دور المثقفين فى الكتلة الزراعية الجنوبية والتى قاموا فيها بدور الوسطاء بين الفلاحين وكبار مالكى الأرض ويزعم أن خلق تيار يسارى بين هؤلاء المثقفين هوشرط مسبق لكسر هذه الكتلة وتامين التحالف بين الفلاحين والبروليتاريا. فى هذا الشان يعلق جرامشى انه كلما ازداد تطور الشريحة المثقفين العضويين للبروليتاريا زادت قدرة الحزب الثورى على جذب المثقفين بشكل عام وأن مثل هؤلاء المثقفين سينفروا إذا قدم لهم نموذج مادى فج للنظرية الماركسية.
4- العفوية والقيادة:
أن الأساس الذى تبنى عليه نظرية الحزب عند جرامشى هوتصوره للعلاقة بين العفوية والقيادة الواعية والتى يمكن اعتبارها على الأقل جزئيا مساويا لتلك العلاقة بين الحزب والطبقة والتى تشكل المسالة الأساسية فى نظرية الحزب الماركسية. أن ما يعرضه فى هذه المسالة فيه تقدم واضح عما حققته روزا لوكسمبورج أوما حققه لينين فى البدايات وأيضا لوكاتش، ويطابق لدرجة كبيرة الموقف الناضج للينين. يبدأ جرامشى بنقد مفهوم العفوية النقية فى حد ذاتها.
لابد من التأكد على أن العفوية النقية لا وجود لها فى التاريخ فهى لن تختلف كثيرا عن الميكانيكية النقية. فى اكثر الحركات عفوية تكون المسالة ببساطة أن عناصر القيادة الواعية لا يمكن حصرها. ولا تترك وثائق يمكن الاعتماد عليها. يمكن القول أن العفوية إذا سمة الطبقات المقهورة وبالفعل لأكثر عناصرها هامشية… لذا يكون فى مثل هذه الحركات عناصر متعددة من القيادة الواعية ولكن لا يهيمن أحد منهم أويتخطى مستوى العلم الشعبى لشريحة اجتماعية معينه وعيها الدارج أوتصورها التقليدى للعالم.
يعارض جرامشى هؤلاء الذين يواجهون الماركسية بهذه العفوية ويعتبرونها منهجا سياسيا. أن أساس هذا الخطأ فى النظرية والتطبيق فى تناقض فج يفضح أسبابه الأصلية أي الرغبة المباشرة فى استبدال قيادة ما بقيادة مختلفة.
ولكنه يعارض بنفس القوة الموقف المتعالى تجاه العفوية الجماهيرية :
أن إهمال أواحتقار الحركات المسماة بالعفوية. أي الفشل فى إعطائهم قيادة واعية أورفعهم إلى مستوى أعلى من خلال إدخالهم فى السياسة، كثير ما يكون له عواقب وخيمة. كلما قامت حركة عفوية يصاحبها، فى كل الأحوال تقريبا، حركة رجعية للجناح اليمنيى للطبقة الحاكمة ولأسباب مماثلة تؤدى الأزمة الاقتصادية، مثلا، إلى سخط الطبقات المقهورة وإلى الحركات الجماهيرية العفوية من ناحية أومن ناحية أخرى إلى تآمر الجماعات الرجعية المضادة للثورة التى تستغل فرصة الضعف الموضوعى للحكومة لمحاولة تنفيذ انقلابات. ومن الأسباب الهامة لهذه الانقلابات فشل الجماعات المسئولة فى إعطاء قيادة واعية للهبات العفوية أوتحويلها إلى عنصر سياسى إيجابي.
على الرغم من أن جرامشى يتبع هذا الإشارة إلى انتفاضة صقلية عام 1282 غالبا ليخدع رقيب السجن، من الواضح انه كان يقصد موقف الحزب الاشتراكى الإيطالي والبورديجيين من أحداث 1919-1920 كعامل من العوامل التى ساعدت على انتصار موسولينى. استشهد جرامشى، كمثال للعلاقة الصحيحة بين العفوية والقيادة الواعية بعمل مجموعة النظام الجديد :
اتهمت حركة تورينوبأنها عفوية وارادويه فى نفس الوقت. هذا الاتهام المتناقض، إذا حللناه يبرهن على أن القيادة الحركة كانت خلاقة وصائبة. لم تكن هذه القيادة مجرد، لم تردد معادلات علمية ونظرية ولم تخلط بين السياسة، الفعل الحقيقى والخطاب النظرى. لقد اتجهت نحوأناس حقيقين، تشكلوا فى علاقة تاريخية، لهم مشاعر محددة وتصورات جزئية للعالم… الخ.والتى تكونت كنتاج لتركيبات عفوية لوضع معين للإنتاج المادى مع التجمعات العرضية لعناصر اجتماعية متباينة. لم يتم إهمال أواحتقار عنصر العفوية بل تم تثقيفه وتوجيهه وتطهيره من التلوثات الداخلية، كان الهدف هوتطويرها نحوممارسة النظرية الحديثة الماركسية ولكن بأسلوب حيوى وفعال تاريخيا. وقد تحدثت القيادات نفسها عن العفوية الحركة وكانوا محقين فى ذلك، كان هذا التأكيد منشطا كعنصر توحيدى فى العمق، وفوق كل شىء فقد نقت أن الحركة كانت اعتباطية أومغامرة مطبوخة على ضرورتها التاريخية. وقد أعطت الجماهير وعيا نظريا لكونهم خالقى ومؤسسى قيم تاريخية، لكونهم مؤسسى دولة. هذه الوحدة بين العفوية والقيادة الواعية أوالانضباط تعبر عن دقة العمل السياسى الحقيقى للطبقات المقهورة، طالما أن هذا العمل سياسى جماهيرى وليس مجرد مغامرة تقوم بها مجموعة تزعم أنها تمثل الجماهير.يطرح جرامشى، كنتاج لهذا التحليل : ما يسميه بالمسالة النظرية الجوهرية والتى تتعلق، من زاوية مختلفة بمنظور لينين فى ” ما العمل ” والذى يقضى بان الاشتراكية لابد وأن تقدم إلى الطبقة العاملة من خارجها. يتسائل جرامشى :
هل يمكن للنظرية الحديثة (الماركسية) أن تكون متعارضة مع الحس المعنوى للجماهير (العفوى هنا بمعنى انه ليس نتاج لأي نشاط تثقيفى تقوم به مجموعة قيادية وعية. بل تشكلت من خلال التجربة اليومية ينبرها الوعى الدارج أي التصور الشعبى للعالم).
يجيب جرامشى :
لا يمكن أن تكون معارضه لها فالاختلاف بين الاثنين هواختلاف فى الكم وليس فى الكيف. ولابد أن يكون التحويل المتبادل. أي الانتقال من هذا إلى ذاك والعكس ممكنا.
أن التباين بين رؤية جرامشى وتلك التى تبناها لينين (فى البدايات) ولوكاتش. لابد وأن يكون واضحا. يكشف جرامشى عن الارتباط والعلاقة المتبادلة (والتى ينفيها ” ما العمل ” و ” التاريخ والوعى الطبقى “) بين الوعى والتجربة والممارسة الفعليين للطبقة العاملة والوعى الطبقى الاشتراكى الكامن. ويفعل جرامشى هذا بدون السقوط فى الخطأ العفوية. لا يتناول جرامشى فقط المهام الاستراتيجية للحزب وكيف يجب أن تكون علاقته بجماهير الطبقة العاملة. تتضمن مذكرات السجن عدد من الملاحظات حول التنظيم والحياة الداخلية الضرورية لتمكن الحزب من القيام بدوره. يذهب جرامشى إلى حد القول بان الطريقة التى يؤدى بها الحزب عمله تعطينا معيار دقيق للحكم على الحزب ككل، عندما يكون الحزب تقدميا يعمل بشكل ديموقراطى (المركزية الديمقراطية) وعندما يكون رجعيا بشكل بيروقراطى (المركزية البيروقراطية).
لا يوجد أيضا أي طوبوية فى تصور جرامشى عن الحزب وعضويته. فهويبدأ بالتأكيد على انه بالرغم من أن التقسيم إلى قيادات وتابعين يجد اصله التاريخى فى التقسيم الطبقى، فهوموجود أيضا فى المجموعات المتجانسة اجتماعيا. وعلى هذا الأساس يقسم عضوية الحزب إلى ثلاث عناصر :
عنصر جماهيرى، يتكون من أناس عاديين تأخذهم مشاركتهم شكل الانضباط والولاء اكثر من أي روح إبداعيه أوإمكانيات تنظيمية. من الصحيح انه بدون هؤلاء لا يمكن للحزب أن يوجد ولكنه أن يوجد أيضا بهم وحدهم. فهم قوة طالما كان هناك من ينظمهم ويمركز جهودهم.
العنصر الرابط الأساسي، والذى يمركز ويعطى كفاءة وقوة لتركيبة معقدة من القوى لم تكن لتساوى شيئا أن تركت وحدها. هذا العنصر يتمتع بقدرات كبيرة فى التنظيم والانضباط وأيضا من الممكن أن يكون هذا هوأساس القدرات الأخرى – يتمتع بقدرة على الإبداع.
عنصر وسيط يصل بين العنصرين الأول والثانى ويحافظ على العلاقة بينهما ليس جسديا فقط بل أيضا أخلاقيا وثقافيا.
يرى جرامشى أن العنصر الثانى، القيادة، هواكثر العناصر الثلاثة أهمية :
من الصحيح أيضا أن هذا العنصر لا يستطيع تشكيل الحزب وحده ولكنه اكثر قدرة على ذلك من العنصر الأول. فنحن نتحدث عن جنرالات بلا جيوش ولكن فى الواقع أن تكوين جيش اسهل من تكوين جنرالات.
يوازن هذه الواقعية مبدأ آخر على نفس درجة الأهمية :
فى تشكيل القيادات… هل المقصود هوأن يكون هناك دائما حاكمين ومحكومين، أن الهدف هوخلق الظروف التى يصبح فيها هذا التقسيم غير الضرورى. وبما أن هدف جرامشى هوبالطبع هوالأخير فأن سلطة القيادة والانضباط لابد أن يكون على أساس :
قبول سلبى للأوامر أوتنفيذ ميكانيكى للتكليفات (والتى ستكون ضرورية فى مناسبات بعينها) ولكن على أساس استيعاب وضح وواعى للتوجهات التى يجب تنفيذها.
ما يجب تحقيقه فى الحزب هوإذا المركزية فى الحركة – اى تكيف دائم لمنظمة مع الحركة الحقيقة وتوافق بين الدفع من اسفل والتوجهات من أعلى وإدخال مستمر لعناصر من عمق القاعدة إلى إطار الجهاز القيادى. يقول جرامشى ” أن إحداهم المسائل المتعلقة بالحزب السياسى هى قدرة الحزب على مواجهة قوة تأثير العادة “. تخلق الأحزاب من اجل التحضر لمواقف الأزمة ولتكون قادرة على الفعل فى لحظات التحول التاريخية ولكنها كثيرا ما تصبح روتينية وغير قادرة على التكيف مع المهام الجديدة وفى هذا المضمار يكون العدوالرئيسى هوالبيروقراطية :
أن البيروقراطية هى اعند واخطر القوى المحافظة، وإذا استطاعت تشكيل جسم متماسك يقف وحده ويشعر باستقلاليته عن جمهور الأعضاء، يصبح الحزب منفصلا عن دوره التاريخى وفى لحظات الأزمة الحادة يخلومن مضمونه الاجتماعى ويصبح كأنه معلق فى الهواء.
يجب على الرغم من ذلك إلا ننظر لهذه القضية من جانب واحد لا غير. فمع وجود مشكلة العادة والروتين فان هناك حاجة للحفاظ على استمرارية العمل وخلق تراث :
من الصحيح أن هناك خطر البقرطة ولكن هذا الخطر موجود فى كل استمرارية عضوية ولابد أن يراقب ولكن خطر الانقطاعات والارتجال يكون اكبر لذا ففى الحياة الداخلية للحزب كما هوالحال فى المنظور المزدوج والعلاقة بين الحزب والطبقة يرى جرامشى وحده جدلية بين الانضباط والمبادرة وبين الاستمرارية والتغيير.
5- التقييم:
ماذا الزعم القائل بأن جرامشي هو منظر الثورة فى الغرب؟
أن اللينينية أثبتت نفسها فى روسيا وبذلك فتحت آفاقا جديدة ذات أهمية عالمية. كان جرامشي. من خلال تحليله لتطور المجتمع المدنى وللجذور العميقة للهيمنة البرجوازية. هوالذى رأى بوضوح اكثر من الكل الفرق الأساسي بين روسيا والرأسمالية المتقدمة والذى يتطلب بذلك توسيع الإطار اللينيى. بدا لينين وتروتسكى بحلول 1921 يلاحظون هذه المشكلة وكان جرامشى على علم بذلك ولكن لينين كان منشغلا بروسيا ومات بعدها بقليل، وتروتسكي كان يواجه صعوبات أخرى ولم يستطيع أن يطور أفكاره حول هذا الموضوع إلا على المستوى التكتيك. أما جرامشى فقد طور أفكاره واستتباعات تحليله لأقصى درجة من الدقة والوضوح الممكن في ظروف انعزاله فى السجن. وفضلا عن ذلك فقد اثبت التاريخ بأنه على جانب جرامشي في هذه المسالة فقد وضح أن الرأسمالية الغربية تمتلك قدرات على المقاومة والبقاء لم تكن في حسبان ماركسي الكومنترن الأوائل، ويكشف تحليل جرامشي لتوسيع السيطرة الاجتماعية للبرجوازية في دراسته “المنهج الأمريكي والفوردية”. عن قدراته العظيمة فى التنبؤ بالاتجاهات الجديدة فى الرأسمالية.
فقد اثبت التاريخ أيضا صحة فلسفة جرامشى بعد نشر أعمال ماركس الأولية والجروندريس والدراسات الحديثة العديدة فى الفكر الماركسى. هل يستطيع اى ماركسى جاد اليوم أن يشكك فى الآثار السلبية للقدرية والحتمية الاقتصادية على الحركة الثورية؟ يتميز جرامشى عن الماركسيين اللاحقين الذين تناولوا بشكل اقل إبداعا مسالة بنية المجتمع الرأسمالي والفلسفة الماركسية. فى انه الوحيد الذى استطاع صياغة أفكاره فى استراتيجية ثورية واضحة على أساس تطوير نظرية الحزب. لذا يعتبر جرامشى الماركسى الوحيد الذى أضاف إضافات أساسية لنظرية لينين فى الحزب.
على الرغم من ذلك تظل هناك علامة استفهام حول مساهمات جرامشى. فلم تطبق أفكاره فى الواقع فى اى وقت. فهولم يكن فى وضع، كما لم يكن ميكافيللى من قبله، يسمح له بتغيير الواقع. لم يتسع إلا إظهار بشكل ملموس ما كان يجب على القوى التاريخية أن تفعله لتكون مؤثرة.
لم تجد أفكار جرامشى من يتبناها ويطبقها وفى الواقع لم يكن هذا ممكنا أصلا فاستراتيجية جرامشى تحتاج إلى وجود حزب لينينى كنقطة انطلاق. ولكن الآثار المشتركة للازدهار الرأسمالي الاقتصادى ما بعد الحرب والخراب الذى تسببت فيه الستالينية أدت إلى عدم ظهور مثل هذه الأحزاب. فمن الممكن فى حدود ضيقة جدا، للمبادئ الأساسية للبششلفة أن ترشد نشاط منظمة أومجموعة صغيرة ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لأفكار جرامشى. من الممكن أن تشن حرب المناورات بقوات قليلة نسبيا ولكن حرب المواقع تحتاج إلى جيش جماهيرى. فبدون حزب جماهيرى تصبح التحالفات تعاونا مؤقتا بين مجموعات وليس تحالفا بين طبقات وكثيرا ما يؤدى هذا إلى إبهام الخلافات النظرية والبرنامجية. بدون قاعدة البروليتارية واسعة لن يؤدى تشكيل المثقفين العضويين وكسب المثقفين التقلديين إلى تقوية الهيمنة البروليتارية بل سيؤدى إلى الانحطاط إلى الثقافة المدرسية والأكاديمية. لابد وأن نتذكر أن جرامشي كتب فى وقت كانت فيه الأفكار الاشتراكية واسعة فى صفوف الطبقة العاملة وتأسيس الحزب الشيوعى الإيطالي بعضوية 40000 منهم 98% عمال واقل من نصف فى المائة مثقفى (245 مثقف). أن التصور بإمكانية نقل هذه الأفكار إلى وضع فيه الحركات الثورية محملة بالطلاب والبرجوازية الصغيرة وليس لها إلاجذور هزيلة فى الطبقة العاملة لابد وأن يكون تصورا خاطئا للغاية.
نحن لا نعرف كيف تكون حرب المواقع فى تفاصيلها العملية لذا سيكون اى حكم على نظرية جرامشى من الحزب حكما مبدئيا بالضرورة وإذا كنا مبهورين ومقتنعين بعمق ووضوح وحدة أفكار جرامشى فعلينا التمسك بأن اختيارها الحقيقى الحاسم سيكون فى المستقبل عندما تواجه الرأسمالية الغربية المتقدمة من جديد بأحزاب عمالية ثورية جماهيرية.