الأناركية – رؤية نقدية من المنظور الماركسي
لطالما كان للأناركية جاذبية شديدة على المتمردين على هذا المجتمع الفاسد وبالأخص على الشباب منهم وهي نقطة تُحسب لها تمامًا. ففي كل حركة راديكالية وثورية لعب الشباب فيها الدور الأكبر، فالشباب غير المنكسر والمنحني يتمتع بأعلى درجات النشاط والحماس والمثالية.
تصرخ الأناركية صرخة تحدى واستنكار في وجه الاستغلال والظلم المتفشي والهيمنة الساحقة للدولة الرأسمالية والقبضة المُحكمة لأيديولوجيتها، وتنفي أننا مُجبرين على أن نحيا بهذه الطريقة، وأن نقبل أن سُنة الحياة هي أن يكون هناك الغني والفقير والمُستَغِل والمُستَغَل والحاكم والمحكوم، وأنه غير صحيح أن الحرب والعنصرية والقمع كُتب علينا وأن أقلية لا بد أن تسيطر على أغلبية أو حتى أغلبية على أقلية.
على عكس عملية التلقين غير المنقطعة التي تعتبر أن جموع البشر بطبيعتهم إما أغبياء أو أنانيين وأنه من ثَم يلزم إخضاعهم للأوامر والسيطرة على أعمالهم من قبل سلطة أعلى منهم، تؤكد الأناركية أن في مقدورنا العيش في تعاون وألفة.
وترفض الأناركية بازدراء نفاق ممارسات (المؤسسات) البرجوازية وانتهازيتها التهكمية التي يقوم الساسة فيها بتغليف أنفسهم وطرح أشخاصهم للبيع كما لو كانوا منتجات تجميل ومساحيق بدرة. وتمثل الأناركية خاصةً رد فعل ضد الاندماج المتزايد لتيار اليسار الإصلاحي الرئيسي وأحزاب المعارضة في عالم السياسة الرسمية الفاسدة، وتعبر براديكالية عن الرؤية المنتشرة بين عامة الناس أن كل الساسة من نفس الفصيل، لا يريدون سوى السلطة لأنفسهم وتعمير جيوبهم بأموال الغير.
فمن ثم من غير المستغرب في الظرف الحالي أن تشهد الأناركية نوع من الانتعاشة في أنحاء أوروبا. نادرًا ما حدث، إن كان حدث في التاريخ الحديث للرأسمالية، أن تخلت الأحزاب الاشتراكية الإصلاحية بهذا السُفور الذي نشهده الآن عن أدنى نية لتحد النظام، أو باتت مفضوحة بهذا الجلاء وهى تلعب دور مجرد أحزاب متواطئة مع الدولة.
وكان الأهم من ذلك هو تفسخ ما سمي بالنظم الشيوعية في شرق أوروبا وروسيا في بداية التسعينات التي اعتبرتها ملايين الناس في العالم لعقود طويلة بدائل “تقدمية” للرأسمالية الغربية. إلا أن أحداث الأعوام 92-1989 كشفت هذا الوهم بلا رحمة، مُبينة الفشل الذريع للاقتصاديات الشمولية البيروقراطية بل وكذلك كراهية الشعوب الرهيبة لهذه الأنظمة. انهارت بشكل أو آخر الستالينية، التراث الذي هيمن لمدة ستين عامًا على جزء كبير من اليسار العالمي؛ وأنتشر مع هذا الانهيار الإحباط بين الكثيرين متجاوزا بكثير صفوف الأحزاب الشيوعية نفسها ممتداً إلى كل من كان يعتبر الشرق “الاشتراكي” مُتفوقًا نوعًا ما على الرأسمالية الغربية.
أما والوضع أصبح هكذا، فكان من المتوقع أن ينظر البعض الباحث عن بديل راديكالي للرأسمالية إلى الأناركية على أنها الأيديولوجية الوحيدة التي مازالت يداها نظيفة حتى الآن.
كما أن للأناركية جاذبية شديدة كمنطق أيديولوجي لفئات ذات أسلوب حياة معين. فبالنسبة لفئة من الشباب، يعيش أغلبه في فقر ولا يجد معظم الوقت عملاً ولا سكنًا ويقطن في عشوائيات، يتواجدون على هامش المجتمع تقريبًا في المناطق المهمشة، فالأناركية ترمز إلى رفضهم للنظام الظالم.
إلا أن الغايات النبيلة والجاذبية الشديدة لأيديولوجية ما لا تقدم على أية حال أي ضمانة بأن هذه الأيديولوجية بإمكانها فعلا تحقيق الغايات التي تعلن عنها. فالستالينية، على سبيل المثال، كان لها جاذبية هائلة لفترة طويلة عند مناهضي الرأسمالية والإمبريالية إلا أنها أثبتت أنها طريق مسدود تمامًا. فهل الأناركية إذن أيديولوجية قادرة على إرشاد نضال التحرر الإنساني إلى النصر في النهاية؟
هذا ما تنفيه حُجة هذا الكتيب حيث نرى أن الأفكار الأناركية بها علة خطيرة ستؤدي إلى ممارسات معيقة للنضال من أجل التحرر. سيقدم الكتيب نقدًا للنظرية والممارسات الأناركية من المنظور الماركسي، أي من منظور الماركسية الكلاسيكية لماركس ولينين وتروتسكي وليس الستالينية؛ وسنجادل بأن الماركسية وحدها هي التي تشير إلى الطريق الذي يؤدي إلى مجتمع المستقبل الحر والخالي من الطبقية، والذي يتشارك في استهدافه الماركسيين والأناركيين معًا كغاية نهائية.