بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الأناركية – رؤية نقدية من المنظور الماركسي

« السابق التالي »

4. الأفكار الأناركية

للأناركية أشكال متعددة، فهناك الأناركية الفردية الخالصة الرافضة لكل أنواع التنظيم؛ وهناك العديد من المنظمات الأناركية الصغيرة: هناك أناركيون يعلنون عن ثقتهم في الناس بغض النظر عن الطبقة التي ينتمون إليها؛ هناك أناركيون شيوعيون يضعون آمالهم في الطبقة العاملة؛ هناك أناركيو العصبة الفلاحية على طريقة ماخنو (زعيم الفلاحين في روسيا خلال الحرب الأهلية التي تلت الثورة)؛ هناك أناركية رافضة للنقابات العمالية وأناركية نقابوية مستندة على النقابات العمالية؛ وهناك أناركيون ثوريون، وإرهابيون، سلميين Pacifists، وخضر؛ وهناك أناركيون لا ينطبق عليهم أي من هذه التصنيفات أو لديهم ترتيب تصنيفي خاصة بهم.

وهناك أناركيون متأثرون بالرموز التاريخية للحركة الأناركية مثل برودون وباكونين وكروبوتكين، إلا أنه لا يوجد برودونيون أو باكونينيون أو كروبوتكينيون يتبعون مذهبًا أو خطًا بعينه. ولذا تشكل الأناركية هدفًا مراوغا أمام الناقد؛ إذا ما هاجم نظرية أو توجهات سياسية لتيار أناركى محدد يجد أن أغلب الأناركيون لا يؤيدونها، وإذا ما حلل أفكار مفكر أناركى تقليدي يتبرأ منه أناركيون آخرون.

ومع ذلك هناك أفكار ومواقف عامة تعتبر مشتركة بين جميع أو أغلب الاتجاهات الأناركية يمكن أن تستخدم كنقطة انطلاق للنقد، أهمها: (أ) العداء للدولة بكافة أشكالها بما فيها فكرة الدولة الثورية، (ب) العداء للقيادات بكافة أشكالها بما فيها القيادات الثورية، (ج) العداء لكافة الأحزاب السياسية بما فيها فكرة الحزب الثوري، (د) الميل للفردية Individualism. وسأتطرق لكل نقطة من هذه النقاط على حدة.

الدولة

المعنى الحرفي للأناركية هي “اللاسلطوية”، ومعارضة الدولة والحكومة – لا دولة بعينها ولا حكومة بعينها ولكن كل الدول والحكومات وفى كل زمان ومن حيث المبدأ – وهذه هي السمة المحددة للأناركية كعقيدة.

تصر الأناركية أن ذات وجود الدولة، في شكل هيئات خاصة مكونة من رجال (ونساء) تمارس سلطة قانونية ومادية على المجتمع ككل، هو أمر جائر ولا يتماشى مع الحرية الإنسانية الحقيقية. ولوضع حد للقمع وتوطيد الحرية تري الأناركية أنه لا بد من استبدال حكم الدولة بجماعة ذاتية الحكم، أي جماعة ليس لها سلطة مركزية عليا.

وبحسب الحكمة السائدة في المجتمع، يعتبر تحقيق منظور كهذا أمر مستحيل أو أمر إذا تحقق فسيؤدي إلى وضع كارثي. مستحيل لأن “طبيعة الإنسان” تحتم صعود أفراد أو مجموعة أفراد إلى القمة ليبسطوا حكمهم. وكارثي لأن المجتمع بدون دولة سينزلق إلى حرب فوضوية “يتحارب فيها الكل مع بعضه البعض” ويسود فيها ما يسمى بـ”قانون الغابة” وتصبح حياة الإنسان “كريهة ووحشية وقصيرة” (كما وصفها ذات مرة فيلسوف القرن السابع عشر السياسي توماس هوبز Thomas Hobbes. ولذا فأفضل ما يمكن أن نتعشم فيه، بحسب الحكمة السائدة في المجتمع، هو أن تكون الدولة ديمقراطية، تُنتخب حكومتها وتراعي حقوق ديمقراطية محددة كحرية التعبير وغيرها.

إلا أنه في هذا تخطئ الحكمة السائدة وتصيب الأناركية. فعلم الأنثروبولوجيا يقدم الدليل القاطع بأن البشر يستطيعون العيش في مجتمعات بدون دولة أو حكومة وأن هذه المجتمعات بعيدة كل البعد عن الفوضوية، وعلى ذات درجة تنظيم مجتمعاتنا بل وأكثر منها. فلقد شاهد ودرس علماء الأنثروبولوجيا العديد من هذه المجتمعات غير المرؤوسة، وتعد الكونج سان وقاطني أدغال كالاهاري في أفريقيا الجنوبية أمثلة بارزة على تلك المجتمعات. وهناك أسباب تدعوا للاعتقاد بأن حالة اللادولة في المجتمع كانت النموذج السائد لمئات الآلاف من السنين منذ بداية المجتمع الإنساني حتى تقسيمه إلى طبقات مع ظهور الزراعة والرعي والملكية الخاصة منذ ما يتراوح من عشرة آلاف وخمسة آلاف سنة.

كما أن الأناركية مُحقة في رؤيتها بأن الدولة، بكل أشكالها، تحتوي على قمع مجموعة من المجتمع لمجموعة أخرى. ولم يغير ظهور الديمقراطية البرلمانية من هذا شيئاَ؛ فالبرلمانات، أيًا كانت الطريقة التي انتخبت بها، لا تملك السلطة الحقيقية في المجتمع وإنما تظل السلطة الفعلية مُركزة في أيدي البيروقراطية الدائمة للدولة (كالجنرالات ولواءات الشرطة والقضاة وكبار الموظفين العموميين وغيرهم)، والمصرفيين وكبار رجال الأعمال الذين يستخدمون سلطتهم الاقتصادية في التحكم بالدولة وذلك لرعاية مصالحهم الخاصة وليس مصالح عامة الناس.

ولكن إذا كان وجود مجتمع بدون رأس، أي بدون رؤساء ومرؤوسين، شيئا ممكنا ومرغوبا فيه، فكيف إذن نتخلص من الدولة الموجودة؟ وبالتحديد عند التعامل مع هذا السؤال المهم يبدأ مأزق الأناركية.

لا بد من القول أن بعض الأناركيين لا يحاولون حتى الإجابة على هذا السؤال، فهم مكتفين بمجرد رفض سلطة الدولة كموقف شخصي خالص، ولا يشعرون بحاجة لصياغة إستراتيجية متسقة لإسقاط هذه السلطة. إلا أن هذا الموقف هو موقف متنصل إذ أنه يترك المجال للدولة أن تمارس قمعها ضد الجماهير إلى أبد الآبدين، كما أنه انهزامي لأن مقاومة سلطة الدولة في النهاية عمل لا يمكن أن يقوم به شخص واحد أو حتى مجموعة صغيرة.

وبعض الأناركيين يحاولون الهروب من سلطة الدولة بإقامة مجتمعات صغيرة ذاتية الحكم في الريف أو داخل قمقم في المدن. وللأسف تعاني هذه المجتمعات الأناركية من المشاكل ذاتها التي عانت منها التعاونيات الاشتراكية التي دعا إلي إقامتها داخل المجتمع الرأسمالي روبرت أو ين Robert Owen وأمثاله من الاشتراكيين الطوباويين من أكثر من 150 عامًا: فهي (أ) حل لا يصلح من الناحية العملية إلا لأقلية صغيرة، كما أنه (ب) تظل هذه الأقلية معرضة لكل ضغوط المجتمع الأكبر وعاجلا أو آجلا (وعادة عاجلا بدلا من آجلا) تستسلم لها.

إنما الإجابة الأكثر راديكالية والأكثر جدية على هذا السؤال هي أن الدولة ستهدم بفعل ثورة، أي في انتفاضة شعبية جماهيرية ستقوم فيها الطبقة العاملة عن طريق الفعل الذاتي المباشر بالتغيير الجذري للمؤسسات المركزية للدولة القائمة وهي: القوات المسلحة والشرطة والمحاكم والسجون، إلخ.

ومن المنظور الماركسي يعتبر هذا التغيير الجذري صحيح تمامًا – فقد كرس لينين أهم أعماله النظرية “الدولة والثورة” الذي ألفه في 1917 تحديدًا للتدليل على أن جوهر الثورة هو خلق آلة دولة جديدة (بالمعارضة للفكر الاشتراكي الديمقراطي والإصلاحي والذي يهدف إلى مجرد تولي زمام الدولة القائمة). وتمتلك عملية بناء دولة جديدة ميزة أن لها سابقة في التاريخ، فقد طُبقت للمرة الأولى كومونة باريس في عام 1871 ثم مرة ثانية في الثورة الروسية في عام 1917؛ كما أن كل ثورة شعبية كبيرة، سواء الثورة الألمانية في 23-1918 أو الثورة الأسبانية في 1936 أو الثورة الإيرانية في 1979، عادةً ما يظهر فيها ميولًا في اتجاه بناء شكل جديد للحكم.

إلا أن التخلص من آلة الدولة القديمة يطرح على الفور السؤال التالي: ما الذي سيحل محلها؟

وتميل الأناركية إلى الغموض الشديد في التعامل مع هذه النقطة. إلا أن الإجابة الوحيدة علي هذا السؤال والمتسقة مع مبادئ الأناركية هي أن الدولة القديمة لا بد أن تُستبدل في الحال بمجتمع يُحكم ذاتيًا بدون دولة، وليس به حكومة أو سلطة مركزية.

وهنا يفقد الموقف الأناركي كل النفعية والواقعية.

فمن وجهة النظر الماركسية، يمكن أن نقول أنه في المدى الطويل ستفقد الدولة وظائفها فتذوي وتختفي ككيان كما نعرفها الآن بعد انتصار الاشتراكية بشكل نهائي على المستوى الدولي واختفاء الطبقات والصراع ما بينها ووصول مستويات الإنتاج إلى درجة تغطي ضروريات الحياة، فيصبح مسلك العمل من أجل الصالح العام طبيعة بشرية ثانية.

أما أن تقترح الأناركية، والثورة جارية، في لحظة يكون نجاحها معلق من شعرة، أن تتوقف الطبقة الثورية في الحال واللحظة عن اللجوء لاستخدام القوة المنظمة بواسطة جهاز دولة يعبر عن المصالح الثورية فهذا أمر مختلف.

هذا سيؤدي إلى كارثة لسببين أساسيين؛ السبب الأول أنه لا يضع في الحسبان المقاومة التي لا محال وأن تبديها الطبقة الحاكمة القديمة. إن الصراع الطبقي لا ينتهي بنجاح الانتفاضة لأنه يتضح من تاريخ كل الثورات أن الطبقة الحاكمة لن تتوارى عن فعل أي شيء من أجل الاحتفاظ بالسلطة التي مازلت في أيديها بل أو كذلك لتستعيد السلطة المفقودة. ونظرًا لعدم احتمال حدوث ثورة عالمية متزامنة، لا بد أن يوضع في الاعتبار أن البرجوازية التي أخرجت من الحكم ستلقى الدعم من حكومات وقوى رجعية في الخارج.

على الثورة الناجحة أن تتوقع كل شيء من الطبقة الحاكمة، من عرقلة بيروقراطية إلى تخريب للاقتصاد حتى المقاومة المسلحة والإرهاب والحرب الأهلية إلى التدخل العسكري الأجنبي. وهل يستطيع شعب ثائر أن يدافع عن الثورة ضد أعمال للثورة المضادة كهذه بدون مساعدة مليشيات أو جيش من العمال وبدون أي نوع من النظام القانوني لضمان احترام إرادة الشعب وبدون نظام مركزي لاتخاذ القرار وللسلطة أي بدون إقامة شكل ثوري لسلطة الدولة؟ لا، لن يستطيع.

وأحداث سابقة كثيرة في التاريخ تثبت ضرورة وجود دولة ثورية لإفشال الثورة المضادة. لكن دعونا نأخذ مثالا افتراضيًا؛ دعونا نفترض أن ثورة في فرنسا تصدى لها تمرد من الجناح اليميني مركزه مدينة مرسيليا، علي سبيل المثال، مع حدوث هجمات علي يد عصابات يمينية من الشمال الشرقي الفرنسي مدعومة من الحكومتين الألمانية والأمريكية. في حالة مثل هذه، ومن أجل أن تدافع الثورة عن نفسها، عليها أن تتخذ قرارات بشأن القوات التي ستركزها في الشمال الشرقي والتي سترسلها إلى مرسيليا، وكيفية توصيل الإمدادات والسلاح لها. سيكون هذا القرار لزاما قرارًا مركزيا لا بد أن تتخذه حكومة مركزية، والإخفاق في التنسيق بين قرارات كهذه هي ببساطة وصفة للهزيمة.

أما السبب الثاني لأهمية وجود دولة ثورية هو لإقامة نظام اقتصادي جديد. ستأتي نضالات الجماهير بمبادرات هائلة من أسفل في شكل احتلال المصانع وسيطرة العمال على الصناعة وإقامة تعاونيات للتوزيع، إلخ، ولكن تظل الدولة لا غنى عنها في هذه المرحلة المبكرة.

أنظروا مثلا إلى مشكلة ملكية القطاعات والمصانع المُنتزعة من الرأسماليين؛ إن لم تتملكها الدولة الجديدة ولكن تَملكها عمال كل شركة على حدة فلن يؤدي ذلك إلى إعاقة التعاون والتخطيط فحسب بل وإلى تنافس مواقع العمل المختلفة مع بعضها البعض، مما سيقسم الطبقة العاملة وذلك في ذات اللحظة التي تكون هذه الطبقة في أمَسْ الحاجة للوحدة.

أو لنأخذ مثال عملية تسيير سكك الحديد والذي استشهد به فريدريك إنجلز وهو يجادل الأناركية من أكثر من 138 سنة فكتب:

هنا أيضًا يكون التعاون بين عدد مطلق من الأفراد ضروري ويجب أن يتم في ساعات محددة بدقة حتى لا تقع حوادث. وهنا أيضًا يكون شرط العمل هو إرادة مهيمنة تسوي كل الأسئلة الثانوية سواء تمثلت هذه الإرادة في مندوب واحد أو لجنة واحدة مكلفة بتنفيذ قرارات أغلبية من الشخصيات المعنية.

واضح أن هذه الحُجج لا تزال صالحة اليوم. فقد يكون عدد العمال هائلا في كل مكان، في لندن ومانشستر في بريطانيا أو هامبرج وبرلين في ألمانيا أو القاهرة والإسكندرية في مصر، لكن وضع جداول مواعيد للقطارات أو بناء خطوط سكك حديد جديدة أمر يتطلب تفعيل عملية تنسيق عام أو ممارسة سلطة عامة من نوع ما. وإذا فكر العمال في تحديد مسائل مثل الدرجات الوظيفية والأقدمية تصبح الحاجة لوجود سلطة ما أكثر وضوحًا وإلحاحًا.

ولا يكفي أن نُعلن أن المصانع ببساطة ستكون ملك كل المجتمع، وهذا قد يكون ملائمًا في مرحلة لاحقة عندما يكون هناك مجتمع موحد بحق، ولكن أثناء مجريات الثورة يظل “المجتمع” منقسم بين طبقات وفئات مُتعارضة ومُتحاربة – ولذلك تظل من الضرورة بمكان أن يستخدم المجتمع الثوري والطبقة العاملة مؤسسات مركزية تُمثل وتدافع عن مصالحها بشكل حاسم.

أو لنأخذ كمثال أخر مسألة العاطلين والمرضى وغيرهم ممن يعيشون حاليًا على الإعانات الحكومية. في مجتمع اشتراكي (أو أناركي) كامل التطور ستختفي ظاهرة البطالة وستوزع البضائع والخدمات حسب الاحتياج. ولكن في أعقاب الثورة مباشرة سيظل الملايين من المعتمدين على إعانات الدولة موجودين وسيموتون جوعًا إن لم يُصرف لهم، وبشكل منظم ومركزي، الطعام والخدمات. وتلك الإعانات تقتطع من الضرائب المفروضة على أصحاب الرواتب من الشعب، ولذا يجب أن تكون هناك هيئة مركزية ما تمارس سلطة تحصيل الضرائب في أسابيع وأشهر ما بعد الثورة . ولذا لا بد من وجود دولة في الفترة التي تعقب الثورة.

يكمن ضعف الأناركية في هذه النقطة الخطيرة لأنه كثيرًا ما يتطبع تصورها للثورة بالرومانسية ويكون مُعتمدًا علي أن كل المشاكل تحل فورًا بالنوايا الحسنة بعد “اليوم العظيم” أي بعد انتصار الثورة. ويفشل الاعتماد على قوة دفع النوايا الحسنة في تفهُم مُعضلة أساسية في عملية التغيير الثوري وهى أنه على الرغم من أن الملايين من العمال الذين يشاركون في الثورة لتغيير المجتمع يتغيرون أنفسهم، حيث ينضج وعيهم السياسي والاجتماعي ويتطور شعورهم بذاتهم كجزء من جماعة بشكل كبير (وهي التحولات الفكرية التي لا يمكن بدونها أن يتم بناء مجتمع جديد) إلا أنه يستحيل أن تحدث عملية التحول بشكل شامل ومتساوي علي الفور.

لا يمكن أن يحدث التحول الفكري عند كل المضطهدين بشكل كامل وآلي في عملية الثورة لسبب بسيط ألا وهو أن القطاعات المختلفة من الطبقات العاملة لا يمكن أن تكون كلها منخرطة في الصراع من أجل التغيير بالدرجة نفسها، وبعضها قد لا يتأثر بالصراع أصلا، وينطبق هذا أيضا بل وبدرجة أكبر على الملايين من الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى. فلمدة زمنية بعد نجاح الثورة ستتواجد شرائح من الشعب تظل تحمل نظرة عامة للأشياء أو لقضايا معينة متأثرة بالأفكار القديمة أو تابعة للطبقة الحاكمة القديمة. وسيجب إخضاع تلك الشرائح أحيانًا ، قانونًا إذا لزم الأمر، على قبول قرارات الأغلبية وسيستلزم هذا وجود دولة عمال.

وتشبه ضرورة فرض الطبقة العاملة لسلطتها الجديدة في هذه الحالة المركبة في بدايات الثورة من خلال دولتهم ، من حيث المبدأ، ضرورة أن تمنع أي مجموعة من العمال المضربين في ظل النظام الرأسمالي أي أقلية من بين صفوفهم تريد كسر الإضراب. ففي التحليل الأخير، تعتبر دولة العمال بعد نجاح الثورة بمثابة الحائط الرئيسي لحماية هذه الثورة.

إلا أن بعض الأناركيون سيقولون أن استمرار وجود كيان دولة بعد الثورة سيعني أن نخبة متمتعة بامتيازات ستفسدها السلطة وسرعان ما ستتحول إلى طاغية جديد. إلا أن في هذا تجاهل لحقيقة أن الطبقة العاملة أظهرت مرارًا وتكرارًا قدرة على خلق هياكل سلطة ثورية تختلف كلية، في الشكل والمضمون، عن الدولة الرأسمالية القديمة، وتتسم بالديمقراطية والمساواة.

علي سبيل المثال، فقد أقرت دولة العمال المصغرة في تجربة كومونة باريس عام 1871 مبدأ أن تكون كل المناصب العامة في المجتمع بالانتخاب، وأن لا يُتقاضى أي فرد مسئول أكثر من أجر العامل، وأن يكون المنتخبون عرضة لسحب الثقة والتغيير الفوري من القاعدة. وهذا من شأنه تحجيم محاولة المتسلقين في القفز على المناصب إلى حد كبير، ويساعد على منع الممثلين المنتخبين من البحث عن مصالح فردية بعيدًا عن تلك التي انتخبوا لتمثيلها.

أما السوفييت أو مجلس العمال، والذي طوره العمال الروس لأول مرة في سان بطرسبورج في ثورة عام 1905 ثم انتشر في كل روسيا في ثورة 1917، فكان يتم فيه انتخاب المندوبين في كل مجلس من مواقع العمل المختلفة، وعزز السوفييت تمركز السلطة في يد القواعد حيث كان المندوبين مسئولين أمام جمعية عامة للعمال في أماكن عملهم تجرى فيها المناقشات والمداولات الديمقراطية وعملية اتخاذ القرارات.

وتتفوق الديمقراطية العمالية نوعيا على الديمقراطية البرلمانية. فمن الصعب على المنتجين والعمال كناخبين في الدائرة البرلمانية، وهي منطقة ليست بصغيرة جغرافيًا، السيطرة على تصرفات نائب البرلمان، ولا يستطيعون إقالته حتى إذا خرق هذا السياسي كل وعود الانتخابات أو إذا غير ولاءه السياسي، لأن الناخبين في الديمقراطية البرلمانية مجموعة من الأفراد المنعزلين عن بعضهم البعض ولذا فهم لا يشكلون إرادة مجتمعة ولا يتخذون قرارًا موحدًا أو جماعيا.

ومثال ممتاز على ذلك الانتخابات العامة في بريطانيا سنة 2010، حيث صوت فيها ملايين الناخبون لحزب الديمقراطيين الليبراليون الليبرالي علي أمل إبعاد حزب المحافظين اليميني الذي يتزعمه دافيد كاميرون عن الحكم، فإذ بالديمقراطيين الليبراليين يشكلون ائتلافا مع حزب المحافظين اليميني أمام أعين الناخبين، ليطلق الحزبان معا هجمة قوية على المكتسبات الاجتماعية للعمال والفقراء. ولم يسع الناخبون فعل شيء لمدة أربعة سنوات، لعدم إمكانية العمل علي تغيير البرلمان في تلك الفترة، بعدما يكون قد وقع الضرر.

أما مع وجود مجالس عمالية مُنتخبة في أماكن العمل فلن يتطلب الأمر سوى عقد اجتماع في مكان العمل وسحب أي ممثل أو مندوب للعمال يخرق القرار الجماعي للقاعدة.

أحيانًا يُعترض على هذا نظام بأنه غير ديمقراطي لاستبعاده من لا مكان عمل لهم – كالعاطلين والسجناء والعاملون من منازلهم وغيرهم. ولكن الأمر غير ذلك. بافتراض أن مجالس العمال ستكون مقراتها في مواقع العمل، حيث تتركز القوة الجماعية للمُنتجين، فما مانع أن يحضر ممثلين من، لِنقُل، اتحادات العاطلين عن العمل والمتقاعدين ومجموعات المستأجرين والسكان وغيرها، بل يمكن ويجب تمثيل كل فئات الشعب عدا الاستغلاليين والفاشيين في هذه المجالس. بالإضافة إلى أن أغلب الظن أن هذه المجالس ستشمل عددًا من مختلف الأحزاب والتشكيلات التي تمثل اتجاهات أو أطياف مختلفة لآراء سائدة بين العاملين. وهذا المشروع ليس على الإطلاق مشروع دولة أحادية الحزب أو دكتاتورية، بل على العكس ستكون هذه الدولة أكثر ديمقراطية وتسييرًا لمشاركة الجماهير من الطبقة العاملة العادية بمراحل من النظام البرلماني.

ومنذ الثورة الروسية ظهرت مجالس عمال أخرى في الثورة الألمانية في 19-1918 وإيطاليا في 1920 والمجر في 1956، وبشكل جنيني في تشيلي في 1972 وإيران في 1979 وبولندا في 1980. وكان من الممكن أن تتطور اللجان الشعبية لحماية الثورة التي برزت وقتيا خلال الثورة المصرية في 2011 أيضًا في هذا الاتجاه.

وتأسيس مجالس العمال لا يتم وفقًا لخطة مسبقة إنما تنشأ تلك الأشكال تلقائيًا من رحم الصراع، وهي الشكل المنطقي للتنظيم التي تعتمد عليه الطبقة العاملة عندما يدخل صراعها في طور تحدى النظام ككل، وتمثل هذه المجالس مركز دولة العمال الجديدة التي ستحل محل الدولة الرأسمالية القديمة، وتمثل نقطة بداية مرحلة انتقالية إلى مجتمع بلا طبقات تتلاشى فيها الدولة كما نعرفها.

تتمحور النقطة الفيصلية في كل ما سبق أعلاه أنه لا يوجد أدنى ريب أن الدولة ليست بمؤسسة أبدية، كما أنها ليست مجرد “هفوة” أو “فكرة سيئة” استقرت بطريقة ما في أذهان الإنسانية لتسيطر علينا على مدار التاريخ حتى وصلت الأناركية إلى المشهد لتفصح للبشرية عن عدم الحاجة لها. فالدولة كيان تقتضيه ظروف اقتصادية واجتماعية معينة – أو لها وأهمها تقسيم المجتمع إلى طبقات معادية لبعضها البعض حيث تكمن ضرورة وجود الدولة في تدني مرتبة القوى المنتجة التي تسمح بتحقيق الكفاية المستدامة للجميع – ولا يمكن إلغاء الدولة قبل أن تتغير هذه الظروف القائمة، كما أن تغيير هذه الظروف يلزم وجود شكل ثوري جديد للدولة لفترة من الزمن.

القيادة

دائمًا ما يعلن الأناركيون عن رفضهم لفكرة القيادة في المطلق وهذا أمر مفهوم. فطالما ظنت الطبقة الحاكمة في المجتمع الرأسمالي أنها ولدت لتقود الجميع، وصفة “القيادة” هي من أولى السمات التي تحاول أن تغرسها هذه الطبقة في نشئها في المؤسسات التعليمية النخبوية المختلفة، وفي هذا السياق ارتبط مفهوم القيادة في أذهان الكثيرين بالعجرفة والسطوة والامتيازات، وللأناركيين الحق في استنكار هذا المفهوم المتعالي.

كما لا تقدم قيادات اليسار في حركة العمال والنقابات المهنية صورة أكثر زهوا في ممارساتها “القيادية”. فعلى مدار القرن العشرين ووصولا إلى هذا القرن، بات كون الفرد “زعيمًا اشتراكيا” أو “زعيما ديمقراطيًا اشتراكيا” مرادفاً للوسطية والتسلق الاجتماعي. والمسار المعتاد لبعض النشطاء أن يبدأ في كسب دعم القواعد الشعبية بخطاب وسياسات تبدو راديكالية حتى يسطع نجمه شيئا فشيئًا ويتجرد من المبادئ في الطريق حتى يبرز هو(أو تبرز هي) كعضو أصيل في النخبة السياسية بما يصاحب ذلك من مظاهر الملابس الأنيقة والسيارة بسائق والراتب المجزي والعلاقات في أو ساط الأعمال وغيرها من المكتسبات التي لا تحصى، ليصبح هذا الراديكالي السابق أسيرًا للنظام الذي أراد أن يغيره في البداية.

والأمر لا يختلف كثيرًا بالنسبة لقيادي النقابات العمالية. فمنذ لحظة تقلده منصبًا نقابيا يترك هذا الشخص ظروف العمل في المصنع القاسية وراء ظهره وينتقل إلى مكتب مريح. ولا يعود أجره وساعات عمله مرتبطة بأجر وساعات عمل من يمثلهم، ويبدأ في مراكمة الامتيازات. وتدفعه طبيعة وظيفته ودوره النقابي في الوساطة بين العمال والإدارة تدريجيًا لقضاء وقت أطول مع أصحاب الشركة من مع العمال. ويصبح شبح الوقوع في ممارسات الفساد السياسي، إن لم يكن كذلك المالي، أمر لا يمكن تفاديه تقريبًا. وقبل أن يمر وقتًا طويلا يبدأ هذا النقابي في النظر إلي المنازعات والإضرابات على أنها “مشاكل” يجب حلها وليست معارك يجب كسبها، ويركن إلي مفهوم أن أفضل طريقة لحلها هي التفاوض للوصول إلى أقل صفقة يمكن أن تقبلها العمالة بالمخادعة والترهيب.

هذا النوع من القيادة النقابية يُعتبر كارثي على المستوى السياسي، ففي أو قات الثورات الكبيرة وعندما تبدأ الجماهير الحاشدة من عمال أن تشترك وأن تأخذ زمام الأمور في أيديها تحاول هذه القيادات بشكل فطري أن تهدئ الأجواء وتعيدها إلى مجراها المعتاد حتى وإذا كان هذا يعني خيانة القضية التي يفترض أن يمثلوها.

وأحداث مايو1968 في فرنسا تصلح مثال كلاسيكي على الدور الذي قد يلعبه هذا النوع من القيادات الكارثية. ففي حين انفجرت حركة عفوية مدهشة للطلاب والعمال ضد نظام تشارلز دي جول وتطورت إلي معارك جماهيرية حاشدة في شوارع باريس وعمليات احتلال قام بها الطلبة، وإضراب عام على مستوى البلد لعشرة ملايين عامل مع وقوع احتلال للمصانع ومواقع العمل في عدة أماكن – أنهمك “القادة”، الذين كانوا آنذاك بشكل أساسي منتمين للحزب الشيوعي الستاليني والنقابة العامة للعمل CGT، في تقليص هذه الحركة، التي كان من المُمكن أن تتحول إلى ثورة، إلى مجرد سلسلة من المطالب المتواضعة خاصة بالأجور وظروف العمل، وسعت هذه القيادة علي إعادة الجميع إلى مواقع عملهم بأسرع ما يمكن.

من السهل أن نستنتج من خبرات كهذه، وهي خبرات تكررت في تاريخ صراع الطبقة العاملة والحركة الثورية مرة بعد الأخرى، أن فكرة القيادة في حد ذاتها خطأ ويجب التخلص منها. ولكن، لسوء الحظ، يقترن بهذا الموقف مشكل لا حل له ألا وهو أن القيادة واقع ضروري في الحياة والنضال: واقع لا ينبثق عن فكرة خاطئة في أذهان الناس، أو من شر فطري في البعض، أو من هياكل تنظيمية معينة، ولكن واقع أن الناس تختلف في خبراتها العملية والفكرية ومن ثم في مستوى وعيهم السياسي ودرجة التزامهم ومعرفتهم وشجاعتهم ونضاليتهم، إلخ.

ففي كل موقع عمل وكل نقابة عمالية وكل حملة في جامعة تجد من هو أقدر وأكثر استعدادًا من غيره لتحمل مسئولية المهام اللازمة، من إلقاء الكلمة الرئيسية للتعبئة أو متابعة قائمة العناوين أو متابعة الأمور المالية، وما هو أهم، تقديم رؤية سياسية ما للآخرين للتقدم إلى الأمام.

وسنجد حتى في أكثر الاضطرابات والمظاهرات والإضرابات والانتفاضات “عفوية”، تلك التي لم يسجل لها التاريخ قيادة أو تنظيم رسمي، هياكل قيادية غير رسمية مثل الشخص هتف “إلى الأمام” في اللحظة الحاسمة والشخص الذي تقدم إلى الصفوف الأمامية وكان أول من ألقي الحجارة، إلخ.

وواقع الوجود الدائم لقيادة ما ينسحب على الأناركية كذلك. فمهما استنكر الأناركيون فكرة أو ضرورة القيادة فالحقيقة أن الحركات الأناركية طالما كان لها قيادات وأن تاريخ الأناركية، كتاريخ الاشتراكية، يمتلئ بالرموز الأناركية القيادية: برودون وباكونين وكروبوتكين في القرن ال19 وماخنو وجولدمان ودوروتي في القرن ال20 وحتى دانيال كون بنديت في العقود الأخيرة.

أن ترفض الحركات الأناركية على المستوى الرسمي مثلا الاعتراف بحقيقة “وجود” قيادات لا يخفف المشكلة بل يُعقدها. هذا يعني أن القيادات الأناركية (غير المنتخبة رسميًا) لا يمكن زحزحتهم من المنصب أو إخضاعهم لرقابة ديمقراطية. ويعني أن الحركات الأناركية تظل تحت رحمة قيادات نصبت نفسها للأبد، أو حتى قيادات اختارها الإعلام (فأكثر الحركات الطلابية التلقائية في ستينيات القرن العشرين عانت بشدة من هؤلاء “النجوم” التي صدرهم الإعلام). وعدد الحركات الأناركية التي لم تُعرف تاريخيًا إلا بأسماء قادتها مدهش فعلا. فمَن، مِن غير الدارسين، يستطيع اليوم أن يُسمي الاسم الرسمي لحركة الأناركي باكونين أو حركة الأناركي ماخنو الروسي أو دوروتي الإيطالي؟ أما الحزب الشيوعي والأممية الأولى أو الحزب البلشفي بالمقارنة فمعروفين نسبيًا بشكل جيد على مستوى اليسار وليس فقط من خلال قياداتهم مثل ماركس ولينين أو تروتسكي.

وإذا كانت الأناركية عاجزة عن حل مشاكل القيادة الخاصة بها فلن تقدر أيضا على حل مشاكل القيادة على مستوى الطبقة العاملة بأكملها والتي ظلت تاريخيًا في يد الديمقراطية الاشتراكية الإصلاحية أو الستالينية – الأمر الذي أدى إلى خيانات وهزائم لا تحصى من انزلاق الأممية الثانية إلى النزعة القومية في دعم الحرب الإمبريالية في 1914 إلى الاستسلام لهتلر في 1933 حتى توني بلير واعتناق أحزاب العمال الإصلاحية في الغرب بشغف لسياسات الخصخصة والليبرالية الجديدة وتأييدها لجورج بوش والحرب على العراق، إلخ.

نعم، يشكل مجرد وجود الأناركية إزعاجا أمام هيمنة هذه القوى. وتحاول الأناركية بأعمال نشر الكتب والكتيبات والأوراق والمنشورات أو حتى إلقاء الخطب التأثير على اليسار والطبقة العاملة. إلا أن بقدر ما ترفض الأناركية مسألة ضرورة وجود القيادة في حد ذاتها، ومن ثم تفشل في النضال السياسي والتنظيمي من أجل قيادة الطبقة، بقدر ما لا تساهم الأناركية في تحرير الطبقة العاملة من قيادات السوء الإصلاحيين إنما تسهم في استمرار هيمنة قادة تلك القيادات.

كما لن تُجدي محاولة الأناركيين دفن الموضوع بعبارات مثل “القيادة لا تهم، إنما ما يهُم هو ما تفعله الجماهير”. لا شك أن النظرة البرجوازية للتاريخ، المُتماشية مع نُخبويتها وفردانيتها عامة، بالغت بلا حدود في دور القيادات حتى اختزلت التاريخ في كونه مجرد سلسلة متعاقبة من الملوك والأباطرة والجنرالات والرؤساء. ولكن رغم المبالغات البرجوازية فإن أفعال القيادات من شأنها إحداث الفارق في التاريخ. نعم لا تستطيع القادة أن تستحضر الثورات من العدم أو تخلق الحركات الجماهيرية بقوة الإرادة؛ نعم لا تستطيع القادة أن تصنع على الإطلاق ثورة بذاتها، ولا يستطيع فعل ذلك إلا الجماهير. ولكن عندما توجد هناك حركة جماهيرية وحالة ثورية يمكن أن يكون للدور الذي تلعبه القيادات لهذه الحركة تأثير مهم على النتيجة، بل وأحيانًا يمثل هذا الدور فارق ما بين النصر والهزيمة.

وتُعتبر الهزيمة التاريخية للطبقة العاملة الألمانية وانتصار النازية في الثلاثينيات من القرن العشرين من أكثر الأمثلة تراجيدية في توضيح الفارق في مسألة وجود أو عدم وجود قيادة ثورية في اللحظات الحاسمة في النضال.

كانت الحركة العمالية الجماهيرية الألمانية، الأعظم حجمًا وتنظيمًا في تاريخ الرأسمالية، خلال سنوات صعود هتلر إلى الحكم (1929-1933) مُنقسمة الولاء ما بين الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإصلاحي (SPD) والحزب الشيوعي الألماني الستاليني (KPD). ولو أن هذين الحركتين وحدتا صفوفهما لكان توفر لديهما القدرة على وقف صعود النازيين. لكن رغبة الاشتراكيين الديمقراطيين في تفادي الصدام، كما هي عادتهم، وأوامر ستالين لقيادات الحزب الشيوعي بتركيز النيران على الاشتراكيين الديمقراطيين وليس على النازيين حال دون تشكيل جبهة متحدة بين تياري اليسار، وساهم كثيرًا في صعود هتلر إلى سدة الحكم وتدمير أقوي حركة عمالية في تاريخ العالم.

فبما أن مشكلة القيادة لا يمكن تجاهلها، ولا التغلب عليها بمجرد التمني، فالخيار الوحيد المُتبقي لمن يسعى بجدية لتغيير المجتمع هو العمل على بناء قيادة ثورية حقيقية تتسم بأنها (أ) تخضع للسيطرة الديمقراطية لأتباعها ، (ب) تقاوم الإفساد من قبل النظام، (ج) وتكون قادرة على تحديد مسار النضال الصحيح إلى الأمام. أما التخبط النظري للأناركية في هذا الموضوع وتعنُتها برفضها مبدأ القيادة يعني أنها غير قادرة على القيام بهذه المهام.

الحزب

تقودنا مسألة القيادة الثورية مباشرة إلى قضية الحزب الثوري. إذا كان للأناركية موقفًا معاديًا بقوة تجاه الدولة والقيادة فمعارضتها لفكرة الحزب يفوق العداء السابق عنفًا. ومرة أخرى نتفهم مصادر هذا العداء تمامًا. فقد كان لا بد وأن يثير واقع أن بعض الأحزاب اليسارية، التي زعمت أنها ماركسية أو لينينية أو أحزاب عمال، كانت أداة رئيسية في قمع واستغلال مئات الملايين من العمال في الدول المسماة بالشيوعية بشرق أوروبا رد فعل عام “معادي” للأحزاب. وإذا زدنا على هذه الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وغيرها من الأحزاب الإصلاحية ذات الطابع المحافظ والبيروقراطي والانتهازي، بالإضافة للتشرذم السخيف لبعض أشباه أحزاب اليسار المتطرف، يكون من الممكن تفهم انتشار الشكوك عند الكثيرين، ومن ضمنهم الأناركيين، من جدوى فكرة الأحزاب عامًة.

ومع ذلك يبقى تأسيس حزب ثوري من الطبقة العاملة مسألة أساسية وضرورية لإدارة الحرب اليومية ضد الطبقية، بل وأهم عامل في نجاح الثورة المستقبلية.

ثمة سببان بسيطان ومنطقيان لذلك. السبب الأول هو أن الطبقة العاملة تواجه خصمًا شديد التنظيم والمركزية ولذا يجب أن تنظم صفوفها حتى تنتصر. وهذا ينطبق على كل موقع عمل وصناعة يواجه فيه العمال سلطة رأس المال المركزية. فالشرط الأول لأي مقاومة ناجحة هو التنظيم ووحدة فعل العمال. أما العمال الذين يحاولون تحدي رؤساءهم منفردين بدون قوة منظمة جماعية سيفصلون ببساطة. وهذا ينطبق بدرجة أكبر علي المجتمع الأشمل حيث يتمتع حكم الرأسماليين بحماية من هذه المنظمة المركزية الرئيسية: الدولة الرأسمالية. وأي عامل، مهما كان وعيه الطبقي والسياسي ضئيلا، يدرك الحاجة للتنظيم لخوض أي معركة طبقية. ولذا فمن يرفض من الأناركيين التنظيم برمته يحكم على نفسه بالعزل التام عن الطبقة العاملة.

والسبب الثاني الداعي لوجود حزب ثوري هو أن وعي الطبقة العاملة السياسي دائمًا ما ينموا بشكل غير متساوي. فالسيطرة الرأسمالية على الإعلام والنظام التعليمي والجوامع والكنائس وغيرها من المؤسسات الفكرية التي لا تعد ولا تحصى في المجتمع – تؤمن تأثيرًا قويًا للأيديولوجية الرأسمالية على تفكير غالبية العمال في الأوقات “العادية”، أي في غير أوقات مراحل الصراع الجماهيري الثوري.

ورغم أنه من الخطأ أن نعتقد أن جماهير العمال بلا عقل، يصدقون بسلبية كل ما تقوله لهم الرأسمالية – فالتجارب التي مرت عليهم من استغلال وقمع وفقر وبطالة، إلخ، علمتهم غير ذلك – تظل حقيقة أن الأفكار البرجوازية تمارس تأثير قوي في صفوف الطبقة العاملة. ففي أغلب الأوقات، نجد أن وعي الطبقة العاملة هو مزيج من تركيبة متناقضة من الأفكار: فتتواجد دائمًا أفكار نقدية للمجتمع ونابعة من خبرة العمال الخاصة، جنبًا إلي جنب مع أفكار رجعية مفروضة على العمال من أعلى. فنجد العديد من العمال، مثلا، يكرهون رؤسائهم في العمل ويدركون أن هناك قانونًا في المجتمع للأغنياء وآخر للفقراء، ومع ذلك يظل عند ذات العمال تعصبا تجاه الأجناس الأخرى والمرأة والأديان الأخرى، وغيرها من الأفكار المتعصبة. ونجد أن بعض العمال قد يحمل أفكار مناهضة للعنصرية ومع المساواة بين الجنسين ومع ذلك، وفي ذات الوقت، يؤمن نفس العمال أن الفوارق الطبقية هي أمر قدري. ففي الأوقات العادية لا تجد في أي مجتمع رأسمالي سوى قلة قليلة من العمال ترفض الأفكار الرأسمالية بإصرار وبشكل دائم، وتجد أغلبية الطبقة العاملة تحمل أفكارا متناقضة ومتضاربة ومركبة.

ونظرًا للوجود المزمن لهذا الوعي المتناقض داخل صفوف العمال يصبح من الضروري وجود تنظيم سياسي يضم الأقلية الواعية سياسيًا من العمال (الطليعة) ويشكل منهم قاعدة للنضال من أجل نشر الأفكار الثورية بداخل حركة الطبقة العاملة الأشمل والمضطهدين في المجتمع ككل.

ولهذا السبب تظل الإستراتيجية التي يعتمدها عدد كبير من الأناركيين النقابويين، وهم تيار من الأناركيين المؤمنين بفكرة أهمية دور الطبقة العاملة في عملية التغيير الثوري والمُتقبلين لحاجة هذه الطبقة في التنظيم بشكل عام، في الاستكفاء ببناء “نقابات ثورية” و”إتحاد نقابي ثوري يشمل كل عمال العام” مع رفض بناء “حزب سلطوي”، تظل إستراتيجية قاصرة. ورغم أن فكرة بناء “إتحاد نقابي ثوري عالمي” قد تمثل خطوة إلى الأمام بالمقارنة بالأناركية الفردية لأنها على الأقل تحاول أن تدخل في علاقة مع الطبقة العاملة علي عكس الأناركيين الفرديين إلا أنها لا توفي بالغرض في نضال العمال من أجل التغيير الثوري.

فالنقابات العمالية في الأساس هي منظمات جماهيرية شكلها العمال للمساومة والتفاوض على الأجور وظروف العمل والتنازع عليها في إطار العلاقات الرأسمالية للإنتاج وليس لتجاوزها. وللقيام بهذه الوظيفة لا بد أن تكون عضوية هذه النقابات واسعة وشاملة بقدر المستطاع. والوضع المثالي أن تضم النقابة بين صفوفها كل العاملين في مكان عمل أو حرفة أو صناعة ما عدا العمال من كاسري الإضرابات أو الفاشيين. وبالتالي، ومما لا مفر منه، أن تضم النقابات أعدادًا غفيرة من العمال مُشوشي الأفكار وأصحاب المواقف الرجعية الصرفة تجاه العديد من القضايا.

ولذلك يجب أن يكون هناك مستوى إضافي من التنظيم العمالي غير النقابات ألا وهو الحزب السياسي الذي يقود معركة نشر الأفكار الثورية والإستراتيجية الثورية ويناضل من أجل تقديم القيادة الثورية داخل النقابات، وكذلك داخل قطاعات المجتمع من غير المُنتمين للنقابات أو لأماكن عمل محددة (العاطلين والطلاب وربات البيوت وغيرهم).

والأناركيون الذين يدركون أهمية النضال المنظم من أجل الأفكار الثورية والذين يقومون بناءً عليه بتأسيس منظمات أناركية خاصة بهم، هم في الحقيقة يشكلون أحزاب أناركية ولكن بمسميات جديدة. ولا يعتبر عدم اعترافهم بهذا علناً بميزة تُمكنهم من تفادي المشاكل التي تقع فيها المنظمات الحزبية التقليدية، إنما يُمثل ضعف يُضاف إلى ارتباكهم بخصوص مسألة الحزب ومسألتي الدولة والقيادة، مما يمنعهم من التوصل لإستراتيجية متماسكة أو بلورة فكرة واضحة لدور وهياكل المنظمة الخاصة بهم.

أن الحاجة إلى تنظيم الطبقة العاملة وتطوير وعيها المتفاوت من خلال نضال حزب سياسي ثوري يضم طليعة الطبقة ضرورة لا ينفيها إلا من يحملوا رؤية رومانسية عن “نقاء العمال الثوري” الذي لا وجود له. وهنا فالرد المعتاد والأكثر استخداما من الأناركيين هو أن سجل الأحزاب الثورية يبين أنها حتمًيا تقع في البيروقراطية والنُخبوية والسلطوية وشرور أخرى كثيرة من هذا القبيل، ويسأل الأناركي: “وما ضمان ألا تأخذ أحزابكم المُقترحة هذا المنحى هي الأخرى؟”

بالطبع لا يمكن أن يكون هناك ضمان كامل أو أكيد لانتصار الثورة أو عدم بقرطة أي حزب ثوري أو حتى نجاح مظاهرة أو إضراب، بل وأي ضمان حتى لنجاح الأناركية نفسها في أي شيء. والسبيل الوحيد للتعامل بتعقل مع هذه المشكلة هي أو لا أن نتوصل لسبب فساد هذا العدد من المنظمات والأحزاب العمالية، ثم ثانيًا البحث في كيفية الوقاية منه.

والتفسيرات المعتادة التي يقدمها الأناركيون لفساد الأحزاب هي إما “نهم السلطة الفطري” عند القيادات، أو “السلطوية المتأصلة للأشكال اللينينية للتنظيم كالمركزية الديمقراطية”.

أما التفسير الأول عن “نهم السلطة الفطري” فهو تفسير ممكن تعميمه على مقدمه وليس فقط على من ينتقدهم. فإذا كنا نتحدث عن وجود ميول “فطرية” فستُفسد هذه الميول ليس فقط أي إتحاد أو مجموعة أو منظمة أو مجتمع بل سَتَحُول دون تحقق الأناركية ذاتها. وأما التفسير الثاني عن “سلطوية اللينينية” فهو أيضًا قاصر. فالتجربة التاريخية تؤكد أن الفساد البيروقراطي لم يحل فحسب على الأحزاب اللينينية إنما حل على كافة أنواع المنظمات العمالية بما فيها الأحزاب الإصلاحية الجماهيرية والاتحادات النقابية وكذلك على الأناركيين النقابويين.

وعلى النقيض من هذين التفسيرين، يُرجع الماركسيون ميل الأحزاب للفساد إلي الضغوط التي يمارسها المجتمع الرأسمالي على منظمات العمال التي تنشأ في وسطها؛ وتمارس الرأسمالية هذه الضغوط على مستويين: فمن ناحية، يُصعِب الاستغلال والقمع والعمل في عزلة – والذي تفرضه الرأسمالية على عامة العمال – تنمية ما يلزم من ثبات ووعي عند العمال للسيطرة على قياداتهم؛ ومن ناحية أخرى، تمارس الرأسمالية بطبيعتها أثر مُفسد مُضطرد على القيادات بما يفضى للتفرقة بينهم وبين عامة العمال إما مباشرةً أو بشكل غير مباشر.

لهذا التفسير أهمية خاصة في تعليل لما هو دون شك أسوأ حالة تدني في تاريخ الحركة الثورية وهو تحول البلشفية في روسيا إلى الستالينية. فمن ناحية كان لضغط الرأسمالية العالمية على الثورة الروسية، الذي جاء في شكل حرب أهلية فُرضت من الغرب وبمساندته، أثر مُدمر على الطبقة العاملة الروسية التي صنعت ثورة 1917. كانت هذه الطبقة قد وصلت في عام 1917 إلى قمة درجات الوعي والثقة في الذات، ثم تحطمت هذه الطبقة بفعل الحرب والمجاعة والوباء والانهيار الاقتصادي التام بين 1918 1921 فلم تستطع على الاستمرار في ممارسة حكمها الديمقراطي الصحي ولم يكن هناك مفر في النهاية من بقرطة القيادة البلشفية. ومن ناحية أخرى، فلقد دَفع ضغط الرأسمالية على القيادة البلشفية، التي انحدرت إلى طابع بيروقراطي يُرمز إليه بالستالينية، إلى تخليها عن توجهها الأصلي إلى إستراتيجية الثورة العالمية كالطريق الوحيد الذي كان يمكن أن ينقذ الثورة، وانخراطها بدلًا من ذلك في التنافس مع الرأسمالية الغربية بشروطها من خلال إقامة دولة استغلال رأسمالية من أجل تراكم رأس المال التنافسي والقضاء التام بنهاية عقد العشرينات على دولة العمال الوليدة في روسيا.

مثل هذه الضغوط تسفر أيضًا، حتى وإن عملت في ظروف مختلفة تمامًا، عن سيطرة البيروقراطية الدائمة على النقابات والنواب البرلمانيين المحترفين على الأحزاب الإصلاحية.

فكيف إذن يستطيع حزب ثوري أن يحمي نفسه من هذه الضغوط الفاعلة على الدوام في المجتمع الرأسمالي؟ ثَمة أربعة تدابير أساسية:

على الحزب أن ينخرط في نضالات الطبقة العاملة اليومية، فهذه هي العلاقة التي تخلق الضغط المضاد لضغط الرأسمالية. وعلى النقيض تعتمد الأحزاب الإصلاحية في الحفاظ على قواعدها على سلبية العمال، في حين أن المجموعات العصبوية لا تقيم علاقة مع الطبقة العاملة أصلا.

على الحزب أن يلتزم التزاما صارمًا بالمبادئ الثورية. هذا في حد ذاته سيبعد إلى حد بعيد العناصر المتسلقة سياسيًا والرجعية التي لديها قابلية أن يتم التلاعب بها.
لأسباب بينة لا يجب أن تلحق بمناصب القيادة أو أن يكون لقيادات الحزب أي امتيازات مادية.

يجب أن يجمع هيكل الحزب ودستوره بين الديمقراطية (أي مناقشة وافية وتداول وجدل حول السياسات والانتخاب ومسئولية القيادة) والمركزية (أي الوحدة في الفعل لتنفيذ قرارات الأغلبية). وعلى عكس نظرة البعض، وبالأخص الأناركيين، للمركزية والانضباط علي أنه آلية سيطرة سلطوية من أعلى فالحقيقة أن المركزية تعتبر أداة لضمان سيادة الديمقراطية في الحزب الثوري، حيث تضمن المركزية تنفيذ القيادات لسياسة وقرارات الحزب، على نقيض المنظمات المركزية غير الديمقراطية حيث تمتلك القيادات “الحرية” في التغاضي عن سياسة الحزب ورؤية غالبية الأعضاء أو صياغتها بشكل فردي.

وفي التحليل النهائي تظل 1) العلاقة الحيوية بين الحزب والصراع الطبقي هي الحاسمة في النضال ضد البيروقراطية داخل الحزب و2) المركزية الديمقراطية اللينينية أفضل وسيلة لمقاومة الضغوط المستمرة التي تمارس على كافة أحزاب الطبقة العاملة من البيئة الرأسمالية. ورغم أنه لا يمكن ضمان عدم البقرطة مسبقًا بأي هيكل تنظيمي فإن هذا لا يغير بشكل من الأشكال ضرورة وجود حزب عمالي ثوري لتحقيق نصرًا ثوريًا.

وبرفضها للأحزاب بشكل عام، والحزب اللينيني بشكل خاص، لا تساهم الأناركية سوى في نزع السلاح التنظيمي والسياسي من أيدي الطبقة العاملة سواء في معارك اليوم أو الغد.

الفرد والمجتمع والطبقة

ما من شك أن من الخلافات الرئيسية التي دارت بين الماركسية والأناركية كانت حول علاقة الفرد والمجتمع، وهي نوعًا ما نقطة يصعب تناولها مقارنة بالخلافات التي تطرقت إليها حتى الآن؛ فهي أولا بالضرورة خلافات أكثر تجريدًا وفلسفية، وثانيًا هي معقدة نتيجة الخلاف العميق الذي طالما دار داخل الحركة الأناركية ذاتها حول هذه المسألة. إلا أن الأناركية الفردية لها ثقل بداخل الحركة الاجتماعية من الأهمية ليدفعني أن أتناولها، مُتمنيًا أن يتفهم الأناركيون الرافضون للفردية والمُفضلين لمنهج التغيير الثوري القائم على الصراع بأن هذا الجزء التالي غير موجه ضدهم.

ومن الدواعي الإضافية لمناقشة هذا الموضوع أن الماركسية عادة ما تُعَرف بالمناهضة الصريحة لحقوق الفرد وأنها تدين كل ما يتعلق بالفردية على أنه أمور”برجوازية”، وأنها تضع مصالح المجتمع والجماعة في تعارض آليً ضد مصالح الفرد. ولكن هذه قراءة خاطئة لماركس وللموقف الماركسي من حقوق الفرد – أَججته بالطبع الستالينية القمعية وهو انطباع أسعى إلى تصحيحه.

يمكن إرجاع المدرسة الأناركية الفردية إلى الفيلسوف الإنجليزي وليم جودوين William Godwin (1836-1756) والفيلسوف الألماني ماكس شتيرنر Max Stirner (1856-1806) واللذان كانا من دعاة الفردية المتطرفة وهذا ما يمكن أن نستشفه من لمحة من المقولات التالية في كتاب شتيرنر “الأنا وذاتها” (1845):

لا شيء يمثل لي قيمة… ألا نتعلم من هذه الأمثلة الممتازة (الله والإنسان) أن الأناني أفضل من يسلك طريقه؟ أنا عن نفسي تعلمت درسًا منهم وأقترح بدلا من أن نستمر في خدمة الأنانيين العظام بتفان أن نصبح نحن أنفسنا أنانيين… الله والإنسان لم يشغلوا أنفسهم إلا بأنفسهم، فدعوني إذن أنشغل بنفسي…فلتختفي كل الهموم التي لا تهمني…فلا هم لي سوى نفسي!

ظني أن التأثير المباشر لجودوين أو شتيرنر على الأناركية اليوم يقترب من الصفر. ولكن، لأن ثمة نزعة فردية مُبهمة وغير مصاغة منهجيًا على طول وعرض الفكر الأناركي فلذلك تجدر الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية عن الفردية المتطرفة – أي فكرة الإنسان “الحر” الذي لا يسعى إلا لغاياته الشخصية دون قيد أو مبالاة تجاه الآخرين.

يجب أن يقال أولا أن الأنانية الخالصة الغير مقيدة كهذه لم يكن لها وجود على الإطلاق في تاريخ الإنسانية. إن الجنس البشري بطبيعته التي لا تُختزل هو جنس اجتماعي – أي أنه يعتمد على الآخر وذلك منذ الأزل. ولم يكن للفرد في مجتمع الصيد والجمع، الذي لم يكن فيه كما رأينا دولة أو سلطة سياسية منفصلة عن الجماعة ككل، حرية التصرف كما يحلو له مطلقًا، أو أن يخدم نفسه دون غيره. فالصيد كان ضرورة فرضتها الطبيعة وكان عملا جماعيًا تعاونيًا بالأساس. ومن كان من الأفراد يرفض أن يعترف بالتزاماته تجاه الجماعة يجد نفسه منفيا منها ـ الأمر الذي ظل لمدة طويلة بمثابة حكم بالإعدام علي هذا الشخص.

ففكرة حرية التصرف “الخالصة” لا يمكن أن ترد في الواقع إلا إذا تخلينا كمجتمع عن عملية إنتاج ضروريات الحياة. غير أن حاملي فكرة “الحرية الخالصة” يعتبرون قضية الإنتاج قضية محسومة ببساطة. و”الافتراض” الضمني هنا أن الملابس التي نرتديها والغذاء الذي نأكله، إلخ، سيأتي من مكان ما وبطريقة ما، وهو افتراض نخبوي وبرجوازي صرف دحضه تمامًا ماركس في أعماله النظرية التي أو ضحت أن العمل البشرى والإنتاج يُمثلان حجر الزاوية في تطور التاريخ الإنساني. وللأناركية الفردية أن تُجادل أن علينا أن نخلق مجتمعًا به وفرة من البضائع حتى تُتاح لنا بدرجة ما حرية العمل من عدمه، إلا أن هذا لا يحل معضلة: لمن منا توكل مهمة خلق هذا المجتمع وكيف.

والشيء الآخر أن التاريخ يبين أن الجذور الاجتماعية لهذا النوع من الفردية تنبع من أعماق البرجوازية. ففي المجتمع الإقطاعي كانت نقطة الانطلاق الفلسفية هي الله والكنيسة والنظام الاجتماعي المُنزل من السماء. ومع ظهور الرأسمالية تحولت نقطة الانطلاق في المجتمع إلى الفردية كما عبر عنها الفيلسوف الفرنسي ديكارت في مقولته “أنا أفكر إذاً أنا موجود”. وفي بدايات فكر توماس هوبز، قدم الفيلسوف السياسي فكرة أن حياة البشر في الأساس تتمثل في حرب فردية “للجميع ضد الجميع” تبريرًا لاستنتاج أن ما نحتاجه هو دولة قوية – وهو استنتاج بالطبع معاكس للأناركية. وبالمِثل، يتخذ الاقتصاد النيو- كلاسيكي البرجوازي من “المستهلك الفرد الأناني العقلاني” نقطة انطلاق له. علاوة على ذلك، فليس من قُبيل المصادفة أنه في حين قد يرغب الأناركيون في إضفاء لمحة يسارية على فكرة “اللاسلطوية” الفردية فأننا نجد أن عدد غير بقليل من الليبراليين المحافظين يتخذون فكرة “اللاسلطوية” أساسًا للسياسات النيوليبرالية المؤيدة للرأسمالية وشديدة اليمينية.

وفي هذا السياق لابد كذلك أن نذكر فيلسوف أو أخر القرن التاسع عشر الألماني فريدريك نيتشه الذي آمن أن القوة الدافعة على امتداد كامل التاريخ والسلوك الإنساني (وإلى حد ما الكون بأكمله) هي الرغبة الفطرية لكل فرد في “امتلاك السلطة”. ولم يكن نيتشه أناركيًا بل اشتهر لتأثيره على اليمين المتطرف بما فيهم النازيين ولكنه كان قد قرأ شتيرنر وتأثر به، كما كان له أثر هام على مفكري القرن العشرين كالمفكر الفرنسي ميشيل فوكو الذي بدوره أثر على الأناركية.

من الواضح أن كثير من الأناركيين يقبلون صيغة ما لنظرية الرغبة الفطرية في امتلاك السلطة، ومن المؤكد أنهم يستخدمونها لتفسير سلوك الآخرين مثل اللينينيين والسياسيين والبيروقراطيين وغيرهم – وإن استثنوا، بالطبع، أنفسهم. كما يتماشى هذا الاعتقاد الأناركي مع فكرة أن مبدأ الدولة أو مبدأ السلطة هو الذي أدى لظهور الطبقات في المجتمع والتفاوت اقتصادي وليس العكس بحسب رؤية ماركس.

وبغض النظر عن افتقارها للأساس العلمي، فنظرية الرغبة الفطرية في امتلاك السلطة في جوهرها تعد نظرية يمينية. ويمكن إضفاء بريق أو جاذبية يسارية على هذه النظرية اليمينية، كما فعل ميشيل فوكو، إذا ما استُخدمت لتفسير صراعات السلطة المنتشرة في أرجاء المجتمع – في كل مدرسة ومستشفى وسجن ومكتب – ويصاحب “الرغبة الفطرية في امتلاك السلطة” الخيار الطوعي والأخلاقي بالمقاومة المستمرة للسلطة والوقوف دومًا مع من لا يملكونها.

إلا أن هذه التركيبة النظرية – رغبة فطرية عند البشر في السلطة والخيار الطوعي عند البعض بالمقاومة – تواجه معضلتين. الأولى هي الاعتقاد أن أفضل ما يمكن أن نتعشم فيه في المجتمع الطبقي هو القيام المقاومة الأبدية للظلم، لأنه وللأسف، لا يوجد أمل حقيقي في تحقيق تحرر كامل للإنسانية إذ أن صراعات البشر على السلطة ستتجدد دائمًا. والمعضلة الثانية هي أنه إذا كانت الرغبة في السلطة فطرية عند الإنسان فلماذا يُفرض علينا، أو على الأناركيين، أن ننحاز لمن لا يملك السلطة إذا كان من “الفطرية” أن ننحاز لأصحاب السلطة كما انحاز العديد من أتباع نيتشه فعلا.

فما هي إذن رؤية الماركسية لعلاقة الفرد بالمجتمع؟

إن الماركسية لا ترفض البتة المسعى للحرية الفردية وتنمية شخصية الفرد. وفي “المانيفستو الشيوعي” أدان ماركس وإنجلز الرأسمالية لأنها، رغم دعوتها لاحترام الفردية، فهي تسحق الفردية الشخصية للأغلبية في الحقيقة:

فرأس المال في المجتمع البرجوازي مستقل وله شخصية فردية، في حين أن الإنسان الحي غير مستقل ولا يتمتع بشخصية فردية. ثقافة الفردية، التي يتباكى (البرجوازي) على فقدانها، إنما هي تمثل بالنسبة للأغلبية الساحقة مجرد أن يفرض عليهم أن يعملوا كآلة.

ثم يعلن ماركس وإنجلز غايتهم: “استبدال المجتمع البرجوازي القديم بطبقاته وعداواته الطبقية … بمجتمع تكون فيه التنمية الحرة لكل فرد هي شرط للتنمية الحرة للجميع.”

ويستفيض إنجلز في هذه النقطة في كتابه دفاعًا عن الماركسية ضد الاشتراكي الألماني يوجين دوهرنج (1877):

“لا داعي للتأكيد على أن المجتمع لا يستطيع أن يحرر نفسه إلا إذا ما تحرر كل فرد فيه. فلذا يجب الإطاحة بالأسلوب القديم للإنتاج برمته وبالأخص تقسيم العمل الذي لا بد أن يختفي. يجب أن تحل محله منظومة إنتاج لا تسمح من ناحية أن يلقي فرد بنصيبه من العمل المنتج على أكتاف غيره، وهذا شرط طبيعي للوجود البشري؛ ومن ناحية أخرى يصبح العمل المنتج، بدل من أن يكون وسيلة لإخضاع الإنسان، وسيلة لتحرر البشرية عن طريق توفير لكل فرد فرصة تطوير مهاراته الجسدية والذهنية في كل الاتجاهات وأن يمارسها بأقصى طاقة. بالنسبة لماركس فالفرد ليس كائن أناني مُنعزل أو “جزيرة منفصلة” في موضع مقابل للمجتمع. وفي كتابه “مخطوطات اقتصادية وفلسفية” (1844) يقول ماركس “الفرد كائن اجتماعي بالأساس،” مُنتقدًا “الشيوعية الفجة” التي لا تعنى إلا بمجرد الإلغاء السلبي للملكية الخاصة و”تُنكر شخصية الإنسان في كل المجالات”. ويؤكد ماركس أن الشيوعية ستمثل “عودة الإنسان إلى ذاته كاملا ككائن اجتماعي (أي إنساني) … وستمثل حل حقيقي للصراع … بين الفرد والبشرية ككل”.

إلا أن الوصول “لعالم الحرية” يحتاج إلى مُفَعّل للتغيير، إلى قوى اجتماعية قادرة على الإطاحة بالرأسمالية وبناء مجتمع جديد. ويرى ماركس أن هذا المُفَعّل، كما عرفه في المانيفستو الشيوعي، يتمثل في الطبقة العاملة أو البروليتاريا: “الطبقة الجديدة من العاملين بأجر والذين لا يملكون وسائل الإنتاج ويضطرون أن يقتاتوا من قدرتهم على العمل”.

إن تحديد الدور الثوري للطبقة العاملة – قدرتها على تحرير نفسها وتحرير الإنسانية معها – هي الفكرة المركزية في الماركسية والخيط الأساسي لهذا الكتيب. وأود أن أطرح هنا نقطتين بخصوص علاقة نضال الطبقة العاملة وحرية الفرد.

النقطة الأولى ببساطة هي أن أي نضال جماعي يفرض بعض الحدود على حرية الفرد المشترك به ويقيد تصرفاته أو تصرفاتها كما سبق وأن لاحظنا في أبسط أشكال صراعات الطبقة العاملة وهو الإضراب، فمن يفعل ما يحلو له ويعمل أثناء الإضراب يُعتبر خائنا.

ولكن النقطة الثانية هي أن هناك اختلافا مهما جدًا بين خبرة الطبقة الوسطى وخبرة الطبقة العاملة بالنسبة لمسألة الحرية الفردية. فالحرية الفردية وتنميتها للشخص المُنتمي للطبقة الوسطى مُؤمنّة بغض النظر عن وضع الجماعة ككل بل وتتطور للفرد بالتضاد مع مصلحة الآخرين في الجماعة ؛ أما بالنسبة لشخص من الطبقة العاملة فالقيد الرئيسي على فرديته وحريته هو الوضع الاقتصادي المُكبل والذي لا يمكن تحسينه إلا من خلال التواصل مع الجماعة. وبالتالي فالتنمية الفردية لأغلبية الطبقة العاملة متوقفة على تقدم طبقتهم ككل. على سبيل المثال، تقترن مقدرة الفرد العامل أو العاملة أن يحيا حياة صحية وطويلة بنضال جماعي يكتسب للجميع خدمة صحية مجانية، وفرصة الحصول على التعليم للفرد مرتبطة بإتاحة تعليم حكومي مجاني للجميع، إلخ. فالشخصية الفردية الحقيقة لعديد من العمال تبدأ وتزدهر تحديدًا في النضال الجماعي ومن خلاله. إن في الثورة صحوة جماعية لملايين من الشخصيات الفردية، وانتصار قوة العمال في المجتمع– إن لم تعني الحرية المطلقة – ستعني توسع هائل في الحرية الفردية مقارنة بأي شيء قد تقدمه الرأسمالية.

وتشارك بعض تيارات الأناركية، كالأناركية النقابوية والأناركية الشيوعية، الماركسية في الاعتراف بدور الطبقة العاملة الرئيسي في تغيير المجتمع ولكن عادةً ما تكتفي التيارات الأناركية بمقولات مجردة عن الحرية في المطلق، ولا تُمعن التفكير في العلاقة بين صراع الطبقة العاملة والحرية الفردية كما فعل ماركس وإنجلز. وهناك أناركيون آخرون يرفضون فكرة نضال الطبقة العاملة جملة وتفصيلاً ومن ثَم يعزلون أنفسهم عن القوى الاجتماعية التي قد تحدث تغييرًا فعليًا، أو أنهم يسعون لإيجاد بديل لدور الطبقة العاملة من خلال إستراتيجيات مثل “الحشد الجماهيري” mobilization أو الاعتماد على العناصر المتأرجحة اجتماعيا من الفقراء كالقوة الأساسية للتغيير. وهذه الخيارات الأخيرة ستُناقش في الجزء الخاص بتيار أناركية الاستقلالية الذاتية المعروف بالاوتونومية.

« السابق التالي »