الأناركية – رؤية نقدية من المنظور الماركسي
تعود بعض عناصر الفكر الأناركي عدة قرون إلى الوراء، فطالما كان الإنسان يحلم بمجتمع تسوده الحرية والمساواة، ولكن الأناركية، كأيديولوجيا وحركة محددة، تُؤرخ مثلها مثل الماركسية، منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ولا شك على أنه علي مدار 160 عامًا أو ما شابه من وجودها أفرزت الأناركية نصيبها من الأبطال والبطلات، المشاهير وغير المشاهير، ممن ضحوا بحياتهم في سبيل القضية الثورية.
ولا شك أيضًا أن مواطن الضعف التي أوضحناها سابقا ظهرت على الممارسة الأناركية بشكل مضطرد، مما يجعل مراجعة تاريخ الأناركية كاملا في هذا الصدد من المحال طبعًا. ولكن ما سنحاوله في هذا القسم بدلا من ذلك هو استعراض الحجج المقدمة فيما سبق، ومن ثَم التأكيد عليها، وذلك من خلال الإشارة إلى ثلاثة مراحل في تاريخ الأناركية. 1) نشاطات باكونين في سبعينيات القرن التاسع عشر؛ و2) الثورة الروسية (مع ملاحظات على النقد الأناركي الموجه ضد البلشفية)؛ وأخيرا، دور الأناركية في الحرب الأهلية في أسبانيا في ثلاثينيات القرن العشرين. وسنستعرض تلك الحجج ليس للتفتيش في سجل الأناركيين بحثًاً عن فضائح أو خيانات أو حماقات – فتلك محاولة لا معنى لها ويمكن تكرارها بسهولة مع تاريخ الماركسية – ولكن بالأحرى لاختبار الممارسة الأناركية في اللحظات الفارقة في تاريخ الكفاح الثوري، أي لاختبار فعالية التراث الأناركي في أو قات القوة، لا في أوقات الضعف.
باكونين
قد يكون ميخائيل باكونين (1814-1876) هو الشخصية الأكثر شهرة في تاريخ الأناركية. ولا شك أنه بمظهره وأسلوب حياته ونشاطه الشغوف بدا كأسطورة نمطية للبطل الأناركي الرومانسي. فقد شارك بشكل مباشر في أكثر من انتفاضة مسلحة ضد النظام واعتاد حياة السجون المختلفة بل وقضى خمس سنوات من الحبس الانفرادي في سجن قلعة بطرس وبولس المخيف في سان بطرسبرج في روسيا.
ويُعزى لباكونين، أكثر من أي شخص آخر، تأسيس الأناركية كاتجاه سياسي منظم يختلف عن الحركة الاشتراكية العريضة. كما جسد باكونين شخصيًا، وبشدة غريبة، التناقضات الملازمة للأناركية كأيديولوجيا.
باتهامه للماركسية بالـ”دولانية” و”السلطوية”، وبتصريحاته الدُهمائية العديدة، قدم باكونين نفسه على أنه المعارض الراديكالي لكل قوة أو سلطة أو قيادة. ويقول برنامج حركته “الأخوة العالمية”:
نسعى بصيحة السلام للعمال، والحرية للمقموعين والموت للطغاة والمستغلين والأوصياء من كل نوع، لتدمير كل الدول والكنائس ومعها المؤسسات والقوانين الدينية والسياسية والقضائية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والشرطة والجامعات، حتى يتحرر ملايين البشر المخدوعين والمُستعبدين والمُعذبين والمُستغلين من المديرين سواء كانوا رسميين أو غير رسميين، سواء كانوا جماعة أو كأفراد، لتتنفس البشرية أخيرًا نسمات الحرية المطلقة.
وقد صرح باكونين في 1871: “في كلمة واحدة نرفض كل التشريعات والسلطات وكل الهيمنة المُميزة والقانونية والرسمية وغير الرسمية علينا حتى إذا كانت نتيجة تصويت عام”. وفي 1872 قال: “لا نقبل الاتفاقات السياسية والمجالس التأسيسية والحكومات المؤقتة أو ما تسمى بالدكتاتوريات الثورية حتى وإن كانت لغرض الانتقال الثوري”.
أما في ممارساته السياسية، فقد تفرغ باكونين لتنظيم جماعات تآمرية صغيرة وسرية وهرمية قائمة على الطاعة التامة لشخصه. وقدم باكونين تبريرًا لأساليبه في أحد خطاباته إلى المتآمر الروسي الشهير ناتشاييف:
علينا أن نجبر الجمعيات التي تتشابه أهدافها مع أهدافنا أن تنصهر مع جمعيتنا، أو على الأقل يجب أن يتم إخضاعها دون علمها، كما يجب استبعاد المؤذيين فيهم. أما الجمعيات المعادية أو الضارة ضررًا قاطعًا فيجب تصيتها. وبعد ذلك سيمكننا أن ندمر الحكومة. كل هذا لن يتم بنشر الحقيقة، إنما سيلزم اللجوء إلى المكر والدبلوماسية والخداع.
ومثلت هذه التكتيكات الأساليب التي وظفها باكونين في محاولة لفرض السيطرة على رابطة الشغيلة الأممية (أو الأممية الأولى التي شارك في تأسيسها ماركس في عام 1864). فعندما انضم باكونين وأنصاره إلى الأممية في 1869 أعلنوا عن حل منظمتهم، والتي كانت تسمى تحالف الديمقراطية الاشتراكية، لكنها في الحقيقة استمرت في العمل كشبكة في الخفاء.
في 1872عام كتب باكونين ما يلي في خطابه إلى أناركى إيطالي من أنصاره:
أظنك ستفهم آجلا أو عاجلا ضرورة تأسيس نوى داخلية (في أقسام الأممية) من الأعضاء الأكثر إيمانًا وإخلاصًا وذكاءً ونشاطاً أو باختصار الأقربون لنا. هذه النوى [ستكون] شديدة الترابط ما بين أعضاءها، وبينها وبين شبيهاتها من المنظمات بإيطاليا أو بالخارج، وسيكون لها مهمة مزدوجة. بادئ ذي بدء، ستشكل [النوى] الروح الباعثة المفعمة لهذا الكيان الرهيب المسمى برابطة الشغيلة الأممية وغيرها من الكيانات، ثم ستتولى [الإجابة عن] الأسئلة التي من المحال معالجتها علنًا … ظني أني قلت ما يكفي لرجال بذكائك أنت وأصدقاءك … وأمر مفروغ منه ألا يقبل هذا التحالف السري بين صفوفه إلا عدد قليل جدًا من الأفراد.
لا يجب أن يُنظر إلى هذا التناقض بين المبادئ المعلنة والممارسة الفعلية كمجرد نتيجة ميول للهيمنة خاصة بطبيعة شخصية باكونين. ففي الواقع، يمثل باكونين التجسيد الحي لتناقض أصيل في رفض الأناركية لمفهوم القيادة في حد ذاتها: بمعنى أن الأناركية تستبدل القيادة المُنتخبة ديمقراطياً والقابلة للرد بقيادة غير مُنتخبة وغير ديمقراطية وغير قابلة للرد.
لم يمثل التآمر السري خرقًا لمبادئ الأناركية نفسها فحسب لكنه أسفر كذلك عن قيادة كارثية لثورة الطبقة العاملة. فلا يمكن بأي حال من الأحوال لفئة محدودة من الأفراد الذين ينصبون أنفسهم بأنفسهم كقيادة أن تقدر مزاج الطبقة العاملة أو ترشد حركتها. لذا أفضى التآمر مباشرة إلى “نزعة انقلابية” وهي محاولة مجموعة صغيرة القيام بعمليات تمرد مستقلة عن حركة ورغبات أغلبية العمال.
وقد شارك باكونين في عدد من هذه المغامرات، انتهت جميعها بإخفاقات محرجة بما فيها مهزلته في ليون بجنوب فرنسا في سبتمبر 1870. وسط موجة من الاضطرابات الشعبية، احتل باكونين وأنصاره فندق دافيل وأعلنوا عن أنفسهم لجنة إنقاذ فرنسا و”إلغاء الدولة”. ولسوء حظ باكونين رفضت الدولة الاعتراف بإلغاء نفسها، وأنهت انقلاب باكونين على الفور بإرسال سريتين للحرس الوطني الفرنسي لليون. وأضطر باكونين للهرب حتى انتهى به الأمر في جنوه في إيطاليا وأدى ذلك إلى أنه حُرم في العام التالي من المشاركة في ثورة عمالية حقيقية اندلعت في فرنسا وهى كومونة باريس.
ومن الطريف أن باكونين لم يكن يطبق فكرته عن السلطة السرية في منظمة الحركة الثورية فحسب ولكن ه عمم هذه الفكرة كذلك في تنظيم مجتمع ما بعد الثورة. ففي خطاب إلى صديقه ونصيره ألبرت ريتشارد شرح باكونين كيف سيؤسس وأنصاره “دكتاتورية سرية” بعد إقامة الأناركية:
بصفتنا قادة غير مرئيين وسط هذه الزوبعة البروليتارية فيجب أن يتم نوجهها، لا عن طريق السلطة الصريحة، ولكن عن طريق ديكتاتورية المتحالفين الجماعية (أعضاء التحالف مع باكونين): ديكتاتورية لن يكون لها شارات عمل علنية ولا ألقاب ولا حقوق رسمية، وسيزيد من قوتها أنه لن يكون هناك أي مظاهر قوة لها. هذه هي الديكتاتورية الوحيدة التي أقبلها .
من حسن الحظ أن هذه الرؤية للسلطة الخفية يمكن الاستغناء عن خدماتها اليوم ليس فقط لشدة خياليتها ولكن أيضا لأنها إذا تحققت لأصبحت الشكل الأقل ديمقراطية للحكم في التاريخ على الإطلاق.
وقد حاول بعض الأناركيون فيما بعد التنكر من باكونين وتخيلاته، ولكن، كما سنرى، سيعود القصور الأساسي في مذهب باكونين للظهور في أناركية القرن العشرين حتى في “أزهى” لحظاتها.
روسيا
وبما أن التراث الأناركي في روسيا سابق على الماركسية بسنوات، فإننا نجد أن ضآلة دور الأناركية في ثورة 1917 يعتبر أمر مثير للعجب.
فرغم أن الثورة الروسية هي الأعظم والأعمق في التاريخ، ورغم أن مستوى النضالية والوعي السياسي الذي وصل إليه العمال والجنود الروس في عام 1917 كان الأعلى بالنسبة لأي طبقة عاملة على مر الزمان، لم تفلح الأناركية أن تُثْبِت لها أي أقدام في هذه الحركة الفاصلة إلا بالكاد.
وهكذا لم يجد فولين، أهم مفكر أناركي روسي في هذه الحقبة، عند عودته إلى روسيا في 1917 جريدة أناركية واحدة أو أي ملصقًات أناركية أو مُتحدثًا أناركي واحد في مدينة بتروجراد وهي قلب الثورة. ولم يكن للأناركية ثمة تمثيل يذكر في السوفيتات؛ وحتى في اللجان العمالية القاعدية في المصانع كانت المقترحات الأناركية تخسر باستمرار عند التصويت أمام المقترحات البلشفية وبأغلبية ساحقة.
ويعود إخفاق الأناركيين في الثورة الروسية لسببين أساسيين.
السبب الأول هو أن المزاج بين قطاعات الطبقة العاملة عامًة ما يميل للأناركية عندما تصل قيادات الحركة العمالية الموجودة لقمة غدرها فتعُم خيبة الأمل بين العمال. أما في أثناء أحداث 1917، أستطاع البلاشفة تقديم قيادة ثورية واضحة وبديلة للإصلاحيين فاجتذبوا دعم كل طليعة الطبقة العاملة تقريبًا.
والسبب الثاني أن الأناركية فشلت في تقديم إجابات على التحديات التي واجهت العمال في نضالهم من أجل حسم الثورة لصالحهم في فترة السلطة المزدوجة من فبراير حتى أكتوبر عام 1917 – أي فترة الصراع الذي احتدم في تلك الشهور بين الدولة القديمة والدولة الجديدة الجنينية – حين وقفت بقايا الدولة القيصرية القديمة وجيشها وبيروقراطيتها برئاسة حكومة مؤقتة جديدة في جانب، والسوفيتات التي شكلها العمال والجنود بأنفسهم والتي كانت تزداد قوة وسلطة يوما بعد يوما في الجانب الآخر. كان السؤال الحاسم – بل الوحيد – في تلك الأزمة هو: أي دولة تُمثل أي طبقة ستنتصر؟ هل ستسحق الدولة القديمة القيصرية /الرأسمالية السوفيتات والطبقة العاملة أم هل ستهزُم الطبقة العاملة الدولة القديمة وتحول كافة السلطات للسوفيتات؟
في تلك اللحظات المصيرية صارت كل القوى السياسية التي ترددت في الإجابة بحسم على هذا السؤال – حكومة كيرينسكي والمناشفة إلخ –عاجزة تدريجيًا. أما التيارات التي كانت ترفض كل أشكال الدولة من حيث المبدأ كالأناركية فقد هُمشت بالضرورة. فلقد قام أغلبية الأناركيين إما بمواءمة أيديولوجياتهم ليتبعوا السلطة البلشفية بفتور، أو انفصلوا عن الأناركية لينضموا إلى البلاشفة بحماس. أما من لم يفعلوا ذلك كالأناركى المخضرم كروبوتكين (الذي فقد مصداقيته بعد دعمه للإمبريالية الروسية والبريطانية والفرنسية في الحرب العالمية الأولى) فأصبحوا يحُسبون على الحكومة المؤقتة التي كانت الكراهية لها تتزايد.
في الواقع لم يتح للأناركية أن تلعب دورًا مستقلا هاما في الأحداث إلا بعد انتصار ثورة أكتوبر بفترة خلال الحرب الأهلية التي تلت وكانت فترة صعاب كبيرة بالنسبة للثورة ومعاناة رهيبة للشعب الروسي.
فلقد كانت الثورة مُحاصرة، والجيوش البيضاء (وهو الاسم الذي عرفت به قوات الثورة المضادة)، بقيادة أكثر جنرالات القيصر رجعية والمدعومة بالمال والعتاد والتعزيزات الآتية من كل قوى الرأسمالية العالمية، كادت أن تقترب من الاستيلاء على بتروجراد حتى أصبحت قاب قوسين أو أدنى منها ومن القضاء على دولة العمال الوليدة. وزاد على دمار الحرب العالمية الأولى الأزمة الاقتصادية في 1917 والفوضى التي أحدثتها حتمًا الثورة نفسها والخسائر الضخمة بالنسبة لروسيا الناتجة عن معاهدة برست ليتوفسك عندما أضطر البلاشفة لتوقيع الصلح مع ألمانيا والتخلي عن جزء ضخم من أرض روسيا لها لتحييدها. فالحرب الأهلية لم تفض فحسب إلى خسائر فادحة في الأرواح إنما أو صلت كذلك الاقتصاد السوفييتي الوليد إلى انهيار كامل. فلقد توقفت الصناعة وانهارت شبكة النقل ولم تكن المحروقات متوفرة لتدفئة المدن وأضطر العمال أن يذهبوا إلى الريف بحثًا عن الطعام كما انتشرت أمراض الكوليرا والتيفود الوبائية ببشاعة.
وتمثل استطاعة البلاشفة، برغم كل تلك الكوارث، أن يخرجوا في النهاية منتصرين شهادة لمدى تأييد الطبقة العاملة الروسية لهم. إلا أن الأناركية استطاعت في هذا الوضع البائس أن تصل إلى مسامع بعض قطاعات الطبقة العاملة وأكثر منها إلى الفلاحين الذين أصابتهم خيبة أمل بسبب ما تكبدوه من خسائر.
بلغ السخط مداه بين الفلاحين بالذات. كان الفلاحون قد استولوا على أراضي لملاك قمعوهم لسنين من الزمان وكان البلاشفة قد أيدوا هذه العملية مما ربط تمرد الفلاحين في الأرياف مع ثورة البروليتاريا في المدن. ولكن خلال الحرب الأهلية اضطرت دولة العمال لمصادرة محاصيل الحبوب من الفلاحين بالسلاح. ولم يكن لدى البلاشفة خيار آخر – فالبديل الوحيد كان سيكون حدوث مجاعة على نطاق واسع في المدن وهزيمة محققة للثورة. ولكن نتج عن ذلك لا محالة استعداء الفلاحين. كان ولاء جماهير الفلاحين للدولة السوفييتية مضمونًا حين كانت الحرب في أوجها وخطر عودة الملاك القمعيين يلوح في الأفق، ولكن مع اقتراب نهاية الحرب كاد غضب الفلاحين أن يفور، مما أثار ظاهرتين مرتبطتين بالأناركية وتعد جزء من تراثها – حركة ماخنو وتمرد كرونشتاد – والتي كانت لهما أهمية تاريخية.
كان نستور ماخنوشاب أناركي من أوكرانيا جمع من حوله جيش من الفلاحين حارب في البداية ضد الجيش الأبيض ثم حارب الجيش الأحمر بجسارة ونجاح شديدين حتى هُزم في النهاية على يد الجيش الأحمر بنهاية الحرب الأهلية.
أما كرونشتاد فكانت قاعدة بحرية على جزيرة تسيطر على كل الطرق البحرية المؤدية إلى بتروجراد، وقد كان لبحاريها دور قيادي في ثورة 1917. ولكن في مارس عام 1921 شهدت كرونشتاد تمردًا مسلحًا ضد نظام البلاشفة للمطالبة بوقف مصادرة محاصيل القمح وإقصاء الشيوعيين من السوفيتات. وخشي البلاشفة أن يؤدي التمرد إلى اندلاع الحرب الأهلية مرة أخرى بعدما كانت قد خمدت مؤخرًا فجاء رد فعلهم قاسيًا وزحف الجيش الأحمر، مشيًا من فوق البحر المتجمد، ليستولى على الجزيرة في معركة دامية.
ولقد أرخ الأناركيين حركتي ماخنو وكرونشتاد في صورة الأسطورة المعبرة عن ثورة الشعب الحقيقية من أجل الحرية والتي قمعها الاستبداديون البلاشفة إلا أن الحقيقة كانت غير ذلك تمامًا.
ربما كان ماخنو مغرمًا بالبيانات الأناركية الفخمة ولكن في أفعاله كان زعيمًا فلاحيًا وقائدًا عسكريًا استبداديا ميالا لتنفيذ أحكام الإعدام التعسفية ضد معارضيه (وخاصة الشيوعيين) ولعربدات السكر الشديد. وقد يكون أدل حكم على طبيعة ماخنو وحركته الحقيقية قد جاء على لسان جورج وودكوك George Woodcock المؤرخ المنحاز له بشدة في دراسته الكلاسيكية عن الأناركية في عام 1975 :
في أعماق قلبه كان ماخنو رجلا ريفيًا ضيق الأفق؛ كان يكره المدن والحضارة المدنية وتتوق نفسه إلى “البساطة الطبيعية” والعودة إلى عهد “الكادحين الأحرار” الذين يذهبون إلى العمل يرددون الأغاني الحرة المبهجة كما ورد في خرافات الفلاحين القديمة. وهذه الرومانسية الطوباوية تفسر لماذا لم يواجه أتباع ماخنو أبدًا، عندما احتلوا في مرحلة لاحقة عددًا من المدن الكبيرة، مشكلة تنظيم الصناعة، ولماذا لم يحوزوا أبدًا إلا على ولاء عدد صغير من عمال الحَضر.
وكان جيش ماخنو الثوري، الخاضع نظريًا لمؤتمر للفلاحين والعمال والمتمردين، يحكمه فعليًا ماخنو ذاته وجنرالاته. وككل الجيوش التقليدية كان جيش حر من ناحية الاسم فقط فقد تم تجميعه بالتجنيد الإجباري وطبق فيه على الجنود نظامًا قاسيًا لا يدع مجالا للشك أن ماخنو كان هو الآمر الناهي… وكثيرًا ما كان العقاب المتبع سريع وقاس…أما نزوات ماخنو فكانت من الطراز الأخوة الأعداء الكارامازوفي كما أعترف الأناركي فولين.
حتى فولين، وكان من المعجبين بماخنو، فقد اشتكى:
وهو في حالة السكر … كان ماخنو يفقد السيطرة على نفسه تمامًا … وحينئذ تحل تقلباته الشخصية التي كثيرًا ما كانت مصحوبة بالعنف… وفجأة تطغى شهواته على حسه بالواجب الثوري. أدى الطغيان والمزاح السخيف وغرائب الديكتاتور وزعيم المحاربين …. إلى كون جيشه وبطانته تشبه تشكيل العصابات المسلحة أكثر من أي شيء أخر.
ومثل ما فعل ماخنو، فلقد رفع تمرد كرونشتاد شعارات تحررية كالدعوة “للثورة الثالثة” التي جذبت دعم الأناركيين إلا أنها كانت متجذرة بشدة في معارضة الفلاحين لمصادرة محصول الحبوب في سياسة شيوعية الحرب التي أنتهجها البلاشفة من 1919-1921. ولكن بحلول عام 1921 لم تكن حامية كرونشتاد في هي نفس الحامية التي لعبت دور بارز في ثورة 1917. فقد مرت التركيبة الطبقية للحامية بتغير كبير إذ أن رفاق 1917 إما قتلوا أو نقلوا لأماكن أخرى وتم استبدالهم بمجندين جدد من الريف من مناطق كانت العديد منها تكِن لماخنو تعاطفًا خاصًا مثل ال2500 أو كراني من قوات الحامية 160 لسلاح البنادق.
إلا أن الفلاحين لم يشكلوا قوة اجتماعية قادرة على دفع الثورة الروسية إلى الأمام. فظروف حياة الفلاحين المادية – أي حيازتهم لملكية خاصة في شكل مزارع صغيرة وطريقة إنتاجهم الانفرادية وانعزالهم الجغرافي والاقتصادي عن قوى الإنتاج الحاسمة في المدن- جعلت من المستحيل لحركتهم أن تشكل بديلا للقوى البلشفية على المستوى القومي (ناهيك عن المستوى الدولي).
ولا يمكن لمجتمع معاصر أن يُحكم أو يدار من الريف، فالفلاحين مُجبرين أن يتبعوا طبقة من إحدى الطبقتين الرئيسيتين في الحضر، إما البرجوازية أو البروليتاريا.
هذه الحقيقة العامة صدقت بقوة بالنسبة للوضع في روسيا بالذات. ففي مواجهة القيصرية وملاك الأراضي وفي التحالف مع الحركة العمالية في المدن كان تمرد الفلاحين تقدميًا بشكل هائل. ولكن في مواجهة العمال في المدن أو حتى بقايا قوى العمال الممثلة في البلاشفة كان تمرد الفلاحين رجعيًا بلا ريب. فتمرد الفلاحين الهادف إلى تحطيم “ديكتاتورية الشيوعية”، سواء كان لون الشعار المرفوع أحمر أو أخضر أو أسود كلون علم الأناركية، لم يكن إلا ليفتح الباب لإعادة بناء إما الرأسمالية أو القيصرية.
لو كان تمرد كرونشتاد، بموقعه الإستراتيجي في مدخل بتروجراد، كُتب له النجاح أو حتى الاستمرار لمدة أطول من الزمن لوفر فرصة ذهبية للجيش الأبيض المُنهزم لتوه لإعادة شن حرب أهلية. ولقد أدرك الجيش الأبيض هذا جيدًا ولذلك لم يدخر جهدًا لإدخال المؤن إلى كرونشتاد مع إعداد مخطط لإرسال قواته حال نجاح التمرد.
إن الدعم المحشود من الأناركيين الروس والأجانب لكرونشتاد لا يظهر إلا تشوشهم بخصوص ولاءهم الطبقي، وعدم قدرتهم على تحليل الوضع من الناحية الطبقية، وفشلهم في الوصول لرؤية واقعية لمتطلبات النضال نتيجة تعلقهم بنظرياتهم الطوباوية عن ثورة بلا دولة ولا قائد.
إذن يكشف ميزان تاريخ الثورات العظيمة أن الأناركية لم تلعب دورًا في تقدمها بل قدمت، عن غير قصد، عونًا فعالا للثورة المضادة عندما كانت الثورة تتراجع.
ملاحظات على النقد الأناركي للبلشفية
طالما شكل نقد الماركسية عنصرًا هامًا في الأيديولوجية الأناركية إذ يصف الأناركيون الماركسية بالسلطوية. وتمحور لب هذه الحجة في نقد الأناركيين للينينية والبلشفية وبالأخص سلوك لينين والبلاشفة في أولى سنوات الثورة.
وبما أن الاشتراكيين الثوريين والماركسيين الرافضين للستالينية (وخاصة التروتسكيين) دافعوا بشكل عام عن سجل البلاشفة في هذه الفترة باتت نقطة هامة في النقاش الدائر بين الأناركية والماركسية. من المستحيل التطرق إلى هذه الأمور بشكل واف لضيق المساحة المتاحة في هذا الصدد (مع الإشارة إلى أن من أفضل الشهادات وتحليل لهذه الفترة هي للماركسي الثوري الإنجليزي توني كليف في كتابه الثورة المحاصرة) ، إلا أنه لا بد من التعليق على بعض القضايا الرئيسية.
النقاط الجوهرية للحجة الأناركية هي أن:
ثورة 1917 كانت أشبه بالانقلاب البلشفي منها لثورة عمال حقيقية
بدلا من إقامة ديكتاتورية البروليتاريا (حكم العمال) أقام البلاشفة ديكتاتورية خاصة بهم على البروليتاريا – ركزوا السلطة في أيديهم بشكل منهجي ولغوا سيطرة العمال في المصانع وقمعوا كل المعارضين (كماخنو وكرونشتاد) وأقاموا دولة الحزب الواحد
هكذا مهد (لينين وتروتسكي) الطريق لقدوم نظام ستالين الوحشي الذي تلا، وأن اللينينية أدت وستؤدي مرة أخرى إلى الستالينية
أول ملاحظة بخصوص هذه الرؤية هي توافقها شبه التام مع رأي أغلبية البرجوازية والأكاديمية اليمينية في الثورة من أمثال المؤرخ البريطاني روبرت سرفِس وغيره. هذا التوافق مع منظور القوى الرجعية في حد ذاته لا يفند رؤية الأناركيين ولكن عندما يتعلق الأمر بمسألة شديدة الحساسية سياسيًا فعلى الأناركيين أن يتمهلوا ويتأملوا في معضلة تطابق رؤيتهم مع رؤية اليمين.
حظيت فكرة أن أكتوبر 1917 كان مجرد “انقلاب” بمصداقية ما لأن بسط السيطرة في بتروجراد جاء على يد بضعة آلاف من الحرس الأحمر – ميليشيات العمال والجنود الثورية – وتم في غضون ليلة واحدة. إلا أن في هذا تجاهل لوجود دعم واسع لحركة الحرس الأحمر ما بين جماهير العمال، وكذلك حصول البلاشفة في ذلك الوقت على أغلبية في السوفيتات وفي لجان المصانع.
كما أن النقطة الفيصلية وراء استطاعة بضعة آلاف من الحرس الأحمر أن يستولوا على القصر الشتوي للقيصر ويلقوا القبض على أعضاء حكومة كيرينسكي دون أن تقمعهم قوات الدولة هو أن معظم الجنود والبحارة والعمال كانوا بالفعل قد انضموا للثورة تاركين حكومة كيرينسكي بدون حماية. وعلى كل المُتشككين أن يحاولوا أن يتخيلوا ما الذي سيحدث إذا حاول غدًا حزب له عدة آلاف عضو في أي حزب أن يزحفوا على البرلمان أو قصر باكنجهام للاستيلاء عليه بدون وجود تأييد شعبي عميق لحركتهم؟
أما الحجة بخصوص سلوك البلاشفة “الاستبدادي” في الحكم فهي، رغم أن بها قدر من الصواب، أُحادية الطرف. بالفعل لقد تصرف البلاشفة في الحكم بنوع من الاستبداد – فمنعوا مثلا تشكيل أحزاب المعارضة. ولكن مسألة السياق الذي تم فيه ذلك تمثل كل الفارق في التحليل. فإذا قلت أن ثوري شهير يعتبر نفسه “صديقًا للشعب” أطلق النار على صدر شخص معادى فقد يبدو هذا الفعل بشعًا. أما إذا عرفنا أننا نتحدث عن جان-بول مارا الصحفي الثوري في الثورة الفرنسية وأن السيدة هي شارلوت كورداي المنتمية للثورة المضادة والتي كانت بصدد طعنه في قلبه بسكين فهناك فرق. (للأسف لم يكن مع مارا مسدس ليدافع عن نفسه ولقي مصرعه).
لم تكن سلطوية البلاشفة نابعة من العقيدة أو جزءًا من طبيعتهم ولكن جاءت نتيجة لظروف وجدوا أنفسهم فيها – ظروف حرب أهلية طاحنة قاتلوا فيها من أجل حياتهم وحياة الثورة. كما أنه من المهم أن نفهم أن الحرب الأهلية حطمت الاقتصاد الروسي تمامًا مما أدى إلى انخفاض الإنتاج إلى مستويات كارثية وبشكل دمر القاعدة الاجتماعية للثورة أي الطبقة العاملة الصناعية الثورية. وهكذا، للأسف، وجد البلاشفة أنفسهم معلقين في الهواء ومُجبرين على التصرف بطريقة ديكتاتورية.
كما لم تُدخل الحجة الأناركية عواقب الاختيارات السياسية المختلفة في حساباتها. فما هي تحديدًا الاحتمالات التي كانت واردة في روسيا في 21-1920؟ إحدى الاحتمالات التي كانت قائمة بشدة كان انتصار الجيش الأبيض التابع للثورة المضادة مما كان سيعني دون أدنى مجال للشك مذبحة من أفظع ما يكون للعمال والفلاحين والثوريين وظهور نوع من النازية الروسية. وأحد الاحتمالات الملموسة الأخرى كانت الديكتاتورية البلشفية.
هل كان من الممكن لديمقراطية صحية نابضة أن تنشأ في تلك اللحظات الفارقة؟ لا، لم تكن ممكنة، كما لم تكن ديمقراطية “عادية” برجوازية ممكنة أيضا. فالتناقضات الحادة والفقر المدقع والمجاعات حالت دون تحقق هذين الخيارين. هل كان من الممكن حدوث ثورة أناركية أو قيام مجتمع أناركي على السريع؟ لا،على الإطلاق! وفي مثل هذه الظروف لم يكن مستغربًا أن يجنح الثوار ومنهم شخصيات أقرب نظريًا للأناركية مثل فيكتور سيرج Victor Serge للديكتاتورية البلشفية بكل مساوئها كأقل الشرور بين الاختيارات المحدودة في تلك الفترة الحرجة.
وطبعًا يمكن المجادلة بأن الديكتاتورية البلشفية أدت إلى وقوع “أفظع المذابح للعمال والفلاحين والثوار” تحت حكم ستالين بعد عام 1928 إلا أن لفارق التوقيت كل الأهمية. لقد كان المخرج الوحيد أمام الثورة الروسية من مأزقها نشر الثورة عالميًا وكانت إستراتيجية لينين وتروتسكي تعتمد على التمسك بالسلطة على أمل تحقق مثل هذه الثورة. ولكن ما حدث هو أن الثورة العالمية هُزمت خاصة في ألمانيا في عام 1923، ونتيجة لذلك قامت ثورة مضادة شرسة داخل روسيا على يد ستالين. ولكن هذا لا يعني أن إستراتيجية لينين كانت بالضرورة خاطئة خاصة أن السبب الرئيسي لإخفاق الثورة في إيطاليا وألمانيا وغيرها من الأماكن يرجع لغياب أحزاب ثورية من النوع البلشفي.
إن مضاهاة اللينينية والبلشفية في الفترة من 1917-1923 مع نظام الدولة الرأسمالية الستالينية الذي تطور في ثلاثينيات القرن العشرين يعد بمثابة الخلط الخاطئ بين ثورة محاصرة ُمُشوهة، ولكن حية وتقاوم، مع ثورة مضادة مُنتصرة. ولو أن ثورة عمال قامت اليوم بقيادة حزب لينيني لوجدت نفسها في ظرف أفضل بكثير من ناحية التطور الاقتصادي وحجم الطبقة العاملة وفرص الانتشار في العالم. وسيكون في مقدورها انتهاج السبيل الذي تخيله لينين نفسه في 1917، حيث يستطيع الحزب اليوم أن يلعب دورًا قياديًا في ظل ديمقراطية سوفيتية صحية مُتعددة الأحزاب وسيكون للعمال فعلا قدرة أعلى على ضمان ذلك.
أسبانيا
إذا كانت الثورة الروسية تعد هي الأكثر أهمية بين الثورات في القرن العشرين فالثورة الأسبانية في 36-1937 تعد بين أقرب المنافسين لها. وفوق ذلك، أنها المرة الوحيدة في التاريخ التي شاركت فيها الأناركية في فوران ثوري وحازت بالفعل على دعم جماهيري واسع. فبحلول عام 1936 بلغ عدد أعضاء إتحاد النقابات الأناركية، وأسمه الاتحاد الوطني للعمل (CNT) ، مليون عضو وكان يمثل تيار ذات أغلبية ساحقة داخل الطبقة العاملة. لذلك يجوز أخذ الثورة الأسبانية كنموذج لاختبار الأناركية – اختبار رسبت فيه ليس بسبب عيب في العمال الأسبان الأناركيين الذين ناضلوا ببسالة وضحوا بأرواحهم ولكن بفعل العيوب المتأصلة في الأناركية كإستراتيجية ثورية.
بدأت الثورة الأسبانية في يوليو1936 كرد فعل على التمرد الفاشي للجنرال فرانسيسكو فرانكو ضد حكومة الجبهة الشعبية التي تم انتخابها حديثًا من ائتلاف للحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي والبرجوازيين الجمهوريين.
ورغم عجز الحكومة الأسبانية فلقد نهض العمال الأسبان، ومعظمهم متأثرين بالأناركية، وتصدوا للفاشيين بشكل رائع. حاصر عمال مسلحون ثكنات الجيش في مدريد وبرشلونة ودعوا الجنود للعصيان ضد ضباطهم. وبعد يوم من القتال سقطت الثكنات في برشلونة ثم في اليوم التالي سقطت في مدريد. وفي ظرف أيام أستطاع العمال أن يبسطوا سيطرتهم الكاملة على المدن، وانبثقت لجان عمالية لتنظيم النقل والمؤن الغذائية والميليشيات والرعاية الصحية. وأرسلوا فيالق مسلحة إلى الريف لتأمين الغذاء ودعم حركة العمال الزراعيين. كان من شأن عملية التنظيم الجماعي لإدارة المجتمع انتشال الجميع من عقود من الاستغلال والقمع. ففي برشلونة، مثلا، تحسن وضع المرأة مقارنة بوضعها في أي بلد في العالم: تم إصدار قانون يسمح للمرأة بالحق في الإجهاض والتوعية بوسائل منع الحمل وتم تشريع نوع جديد من الزواج يخلو من الإكراه أو أي منع للطلاق. وكما لاحظ الكاتب البريطاني جورج أورويل George Orwell الذي كان حاضرًا وشاهدًا على الثورة:
“وفوق كل شيء كان هناك إيمان بالثورة والمستقبل وشعور بأننا دخلنا فجأة عصر من المساواة والحرية. حاول البشر أن يتصرفوا كبشر وليس كتروس في الماكينة الرأسمالية “.
كانت فرصة نجاح ثورة العمال هائلة إلا أن خطر الفاشية ظل قائمًا – فقد نجح فرانكو في السيطرة على جنوب غرب أسبانيا والجنرال مولا، فاشي آخر، كان يهاجم من الشمال – كما قامت حكومة الجمهوريين، التي ظلت، اسما على الأقل، في الحكم، بهجوم في منطقة كاتالونيا (قلب الثورة) ومدريد.
فماذا فعل القادة الأناركيين؟ (يلاحظ مرة أخرى الوجود الفعلي لمصطلح “قادة” أناركيين). لقد انضموا للحكومة – أولا في كاتالونيا في سبتمبر 1936 وبعد ذلك في مدريد في ديسمبر. لم يكن هذا عملا مناهضًا للمبادئ الأناركية فحسب بل ما هو أفظع منه إنه خيانة للطبقة العاملة والثورة فحكومة الجبهة الشعبية التي دخل فيها القادة الأناركيون كانت تعمل على الاحتفاظ بالملكية الخاصة والنظام الاجتماعي الرأسمالي وإعادة سلطة الدولة الجمهورية الرأسمالية. وبرر القادة الأناركيون ذلك بأنه يجب أن تكون هناك جبهة واسعة لكل القوى الديمقراطية (ويضم ذلك البرجوازية الليبرالية) في النضال ضد فرانكو، وأن مطالب الطبقة العاملة بالتغيير الاجتماعي الجوهري لا بد وأن تؤجل حتى يُهزم الفاشيين.
عبر هذا الموقف عن حقيقة أن انتصار الفاشية في النهاية كان بالنسبة لممثلي البرجوازية في الحكومة هو شر أقل من انتصار الطبقة العاملة وأنهم بالتالي لن يتعاونوا مع اليسار إلا بضمان لحقوقهم الملكية؛ أما بالنسبة للحزب الاشتراكي فكان هذا الموقف تعبيرًا عن رغبته القديمة جدًا في التعاون مع البرجوازية؛ وأما بالنسبة للحزب الشيوعي فكانت مشاركته في الجبهة نتيجة سياسة مفروضة من موسكو لعدم إثارة أي قلق عند الحكومتين الفرنسية والبريطانية بأن ستالين يغازل هتلر ضد الحلفاء في فترة بات فيها قيام حرب عالمية مسالة وقت.
وهكذا انضم القادة الأناركيون لحكومة الجبهة الشعبية وقبلوا تحمل المسئولية عن حكومة تسعى واعيًة للتضييق على انتفاضة الطبقة العاملة الأسبانية، كما قبلوا أيضًا تحمل المسئولية عن إستراتيجية لم تقدم أي دعم للكفاح ضد فرانكو بل حكمت عليه بالهزيمة. فلقد شنت حكومة الجبهة الشعبية الحرب ضد الفاشيين كحملة عسكرية تقليدية ولذلك صار من المؤكد أن فرانكو، المدعوم بآلة حرب موسوليني وهتلر، كان سيخرج منتصرًا في النهاية.
كانت الطريقة الوحيدة لانتصار العمال والفلاحين هي تحويل الحرب إلى حرب شعبية ثورية وإطلاق العنان لطاقة ومبادرة الجماهير واكتساب ولاء العمال والفلاحين في المناطق التي يسيطر عليها الفاشيون بالفعل كما بالقول، وإضعاف قواعد فرانكو في المغرب (التي كان ينظم الثورة المضادة من أراضيها) بمنح المستعمرة الاستقلال.
عارضت حكومة الجبهة الشعبية تطبيق هذا البديل بشدة ودعمتها في ذلك القيادة الأناركية التي مثلت تيار الأغلبية الساحقة في الحركة العمالية الأسبانية. والسؤال الحاسم هو لماذا تصرفت القيادة الأناركية على هذا النحو؟ هل كان انحرافا فرديًا محضًا أم كان نتيجة مواطن ضعف في طبيعة الأناركية؟ الإجابة على ذلك قدمته قيادات الاتحاد الوطني للعمل نفسها فأشاروا، في محاولة لتبرير أنفسهم، إلى الطبيعة الاستثنائية للموقف (التهديد الفاشي) وقدموا هذا التفسير:
كان علينا إما أن نتعاون (مع الليبراليين) أو أن نفرض ديكتاتوريتنا… ولا شيء أبعد عن الأناركية من فرض إرادتها بالقوة… لم نستولي على السلطة ليس لعدم قدرتنا على ذلك ولكن لأننا لم نرغب في ذلك لأننا ضد أي نوع من الديكتاتورية.
أي بعبارة أخرى، كان الوضع مثيرًا لليأس: الثورة المضادة على الأبواب ومقاومتها تتطلب قيادة وتنسيق وسلطة. وهذه السلطة لا يمكن أن تتمثل إما في دولة برجوازية أو دولة عمال، ديكتاتورية البروليتاريا. وهنا يصمم الأناركيون: بما أننا نرفض ديكتاتورية البروليتاريا فلا خيار لنا سوى التعاون مع الدولة البرجوازية!
هذا المنطق المتحجر المعمول به لا يقتصر على أسبانيا في عام 1936 لكنه انطبق وسينطبق مستقبلا على أي موقف ثوري حقيقي. دائمًا ما ستكون الثورة المضادة على الأبواب والخيار الواقعي دائمًا ما سيكون إما بين القوى البرجوازية أو العمال؛ ورفض ديكتاتورية البروليتاريا دائمًا ما سيعني الاستسلام في اللحظة الحاسمة. لذا فإن مثال فشل الأناركيين في الثورة الأسبانية، حين وصلت الأناركية كحركة جماهيرية إلى أعلى قمة في تاريخها، ليس بصدفة وإنما هو فشل يظهر قصور الأناركية القاتل كدليل ومرشد للعمل الثوري.