بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الأناركية – رؤية نقدية من المنظور الماركسي

« السابق التالي »

6. الأناركية اليوم

للأناركية اليوم، كما في الماضي، أشكال مختلفة كثيرة حتى بلغ تنوعها عددًا أمر يثير الحيرة (وطبعًا الشيء ذاته ينطبق على الماركسية). وبدلا من محاولة إعطاء نظرة عامة، لا يمكن أن تكون شاملة بطبيعة الحال، سنفحص اتجاهين، هما الأناركية كأسلوب حياة (Lifestyle anarchism (والاوتونومية أو أناركية الاستقلالية الذاتيةAutonomism ، وهما الاتجاهان اللذان صار لهما أهمية في السنوات الأخيرة ويمثلان قطبين متناقضين في داخل الحركة الأناركية. كما سأضيف ملحوظة عن “أناركية البرنامج” ثم أستكمل بالتعليق على بعض القضايا التكتيكية الرئيسية التي يميل الماركسيون والأناركيون للاختلاف عليها، تحديدًا مسائل العمل المباشر والمشاركة في الانتخابات واتخاذ القرارات ديمقراطيًا.

الأناركية كأسلوب حياة Lifestyle anarchism

أقصد بالأناركية كأسلوب حياة أيديولوجيا عائمة – أي لا تقوم على عقيدة محددة – تُعظم أو تُمجد الحياة داخل النظام الرأسمالي وفقًا لمبادئ الأناركية أو محاولة الحياة هكذا. وعادة ما يتمثل هذا في الابتعاد عن الوظائف بأجر والحياة بطريقة أو أخرى كجماعة في أماكن خالية بوضع اليد، حيث لا تُطبق القواعد “العادية” والبناء الهرمي للنظام. هذا ما يُطلق عليه أحيانًا الحياة “خارج” النظام ولكن بما أنه لم يعد للنظام الرأسمالي “منطقة خارجية” حقيقةً فمن الدقة أن نصف هذا النمط من العيش بالحياة في جيوب أو سراديب داخل النظام كما عبر عنها جون هولوواي John Holloway. وتوجد هذه الجيوب عادة في مناطق سكنية منخفضة الإيجار في أو ساط المدن كحي هاكني في لندن أو كرويتسبيرج في برلين ولكن أحيانًا تقام هذه المجتمعات الصغيرة في مناطق ريفية. وقد تُصاحب هذا النوع من الأناركية مجموعة من الأنشطة الثقافية والفنية – بما فيها فن “الكاباريه” والبهلوان وفنون السيرك الأخرى، الفن المرئي المعاصر، والموسيقى إلخ – وأنماط غذائية معينة، وعبادات وثنية وأشكال لروحانيات مُستحدثة.

تستبعد الأناركية كأسلوب حياة، بحكم طبيعتها، أي خطً أو سياسة أو إستراتيجية أو فلسفة سياسية مشتركة، إلا أن أحيانًا تنخرط هذه الجماعة أو عناصر في داخلها في عمل جماعي ومظاهرات وحملات وما شابه بما فيها مواجهات مع الدولة.

قدم الكاتب والناشط الأمريكي المخضرم موراي بوكشين Murray Bookchin نقدًا مفصلا عن الأناركية كأسلوب حياة من منظور الأناركية الاجتماعية ( (social anarchismالأكثر قربًا للاشتراكية. ويسوق بوكشين في كتابه بالتفصيل الحجج ضد مختلف نظريات ومنظري الأناركية كأسلوب حياة خاصًة الذين يحملون قناعات لا منطقية ومعادية للعلم، ويستنكر الظاهرة بأكملها واصفًا إياها بالبرجوازية الضيقة التي توفر “الآمان اللذيذ” لمتبعيها. ولا داعي لتكرار كل حجج بوشكين في هذا المقام لأنه من المنظور الماركسي هناك نقطتين في منتهى البساطة والوضوح توجه كنقد لهذا النوع من الأناركية.

النقطة الأولى، أن نظرية الأناركية كأسلوب حياة لا تقدم إستراتيجية أو رؤية لتغيير العالم، بل أنها لا تبذل أي جهد جاد لمحاولة تقديم مثل هذه الإستراتيجية. ويكاد لا يُطرح السؤال عن كيفية التغلب على سلطة رأس المال والدولة الرأسمالية، بدلا من التهرب منها، ناهيك عن الإجابة عليه. وأكثر ما يؤمل منها كما يبدو هو أن يجذب أسلوب الحياة الأناركي الناس أو غالبية منهم فيتبعونها في وقت آجل أو عاجل.

من غير الواضح إذا كان هناك فعلا من يؤمن بإمكانية نجاح هذا الاتجاه الأناركي في الانتشار إلا أنه لا بد وأن يقال أن هذا الأسلوب لا يفضي إلى أي شيء. فبالنسبة لقطاع كبير من الناس – من الطبقة الحاكمة والطبقة المتوسطة العليا المرتبطة بها ارتباطا وثيقًا ككبار المديرين والمسئولين في الدولة وغيرهم – لا يوجد أدنى احتمال أنهم سيتأقلمون مع أسلوب حياة الأناركية أو إيديولوجيتها، وللأسف هؤلاء تحديدًا هم من يسيطرون على الثروة والسلطة في هذا المجتمع. وعلى نحو مشابه، مع اختلاف الأسباب، من غير المحتمل أن تتأقلم أغلبية الطبقة العاملة مع هذا النمط في الحياة. فأغلب المنتمين للطبقة العاملة لا يحبون العمل المأجور – على اعتبار إنه عمل منفر ومكروه بالنسبة لهم حتى وإن لم يصفوه هكذا، إلا أن البطالة بلاء أكبر من العمل المأجور بالنسبة للأغلبية الساحقة لأنها تحكم عليهم وعلى أسرهم بالفقر البائس وتشعرهم بعدم أهميتهم. والدليل على هذا أنه كلما سمح الاقتصاد الرأسمالي بفرص العمل نجد أن عدد العاطلين يهبط إلى مستويات منخفضة جدًا.

بالإضافة إلى ذلك يجب القول أن حدس العمال في محله من ناحية قوتهم السياسية ومن ناحية المنظور الاجتماعي العام. فقوة الطبقة العاملة الاقتصادية والسياسية لا تكمن مجرد في أعدادهم ولكن، وبشكل حاسم، في قدرتهم على التنظيم في مجال الإنتاج لضرب أرباح مديريهم وفي النهاية لتشكيل مجالس عمال والسيطرة على عملية الإنتاج برمتها. ومن ثم، فمن شأن البطالة أن تضعف قوة العمال كأفراد وكجماعة.

كما أن أسلوب الحياة الأناركي لا يمكن تعميمه لأنه يعتمد بألف طريقة وطريقة على نظام العمالة بأجر– فكل مجموعة سكنية أو جماعة أناركية تستخدم هاتفًا أو محمولاً أو حاسوبًا أو سيارة أو حافلة أو قطارًا أو دراجة أو غاز أو كهرباء أو مياه جارية أو أدوات المائدة أو غيرها من الأجهزة المصنوعة التي لا حصر لها هي مرتبطة شاءت أم أبت بالعملية الإنتاجية الرأسمالية المعاصرة، فالمنظومة الرأسمالية أصبحت الآن معولمة بشدة ويمكن الاستيلاء عليها ولكن لا يمكن أبدًا لعدد مهما كان كبيرًا أن يختار الخروج منها.

وهذا يقود مباشرة إلى نقطة النقد الرئيسية الثانية لأناركية أسلوب الحياة وهي أن أسلوب الحياة الأناركي لا يمكن أن يدوم طويلا إلا لعدد قليل جدًا من الأفراد حتى وإن كان خيارًا تفضله أقلية (من باب التصور عن مجتمع مستقبلي). إن الأناركيون، مثلهم مثل الاشتراكيين وكل من في هذا المجتمع، هم مُنتج للرأسمالية وتم تشكيلهم اجتماعيًا تحت مظلة الرأسمالية ويتعرضون باستمرار لضغوط اقتصادية واجتماعية وأيديولوجية من الرأسمالية. وكلما كبُر الإنسان، وبالأخص إذا كان لديه أطفال (يتعرضون هم أيضًا للضغوط الاجتماعية) تزداد هذه الضغوط ولا تقل. وحتمًا لا بد لهذه الضغوط أن تضعف وتؤثر على التزام الأفراد بداخل المجتمع الأناركي وعلى مبادئ المجتمع ككل. وهذا سيحدث خاصة في حال انخراط أعضاء الجماعة في أنشطة صغيرة للتوظيف الذاتي أو الأعمال الريادية. ولذلك فالنموذج السائد لأسلوب الحياة الأناركي ينجح فقط كمرحلة مؤقتة في حياة قلة تعيش على هامش المجتمع الرأسمالي.

أناركية الاستقلالية الذاتية (الاوتونومية) Autonomism

الاوتونومية تيار سياسي كان له تأثير على الحركة العالمية المناهضة للرأسمالية. وعادة ما يؤرخ لهذه الحركة بدءًا من مظاهرات سياتل في الولايات المتحدة ضد منظمة التجارة العالمية في نوفمبر 1999، ووصل تأثيره إلى الذروة في مظاهرتي جنوة في يوليو2001 والمنتدى الاجتماعي الأوروبي بفلورنسا في سبتمبر 2002.

ينظر البعض للاوتونومية أحيانًا على أنها تيار ماركسي وذلك لرجوع الجذور النظرية لمفكريها الأساسيين، وهما ماريو ترونتي Mario Tronti وتوني نيجري Toni Negri، إلى الحزب الشيوعي الإيطالي (PCI) ثم في مجموعة “قوة العمال” Potere Operaio اليسارية العصبوية في أواخر الستينيات. إلا أنه من ناحية نظريتها وممارستها الفعلية فقد كانت الاوتونومية أقرب كثيرًا للأناركية عنها للماركسية “الكلاسيكية” لماركس أو إنجلز (أو لينين وتروتسكي ولوكسمبورج).

تمحور اهتمام الاوتونومية في الستينيات (وكانت تعرف بـ”العمالوية” آنذاك) في كفاح العمال الصناعيين المناضلين على الإنتاج، خاصة في مصانع السيارات في شمال إيطاليا. كان هؤلاء يختلفون بشدة عن الإصلاحيين البرلمانيين وتكونوا من الحزب الشيوعي الإيطالي والقيادات التابعة له في الاتحادات العمالية والرافضة للصراع السياسي بين الأحزاب والاتحادات بشكل عام. وبلور ترونتي ونيجري ما سمي بـ”إستراتيجية الرفض” التي لم تحض على الإضرابات غير الرسمية فحسب ولكن كذلك على الأعمال التخريبية والغياب عن العمل، وهى الأفعال التي كان يُرى فيها رفضًا “ذاتيًا” من الطبقة العاملة للتعاون مع الرأسمالية من أجل إضعافها.

وفيما بعد، بعد قمع حركة العمال الإيطاليين في السبعينيات وحلول أزمة عامة في حركة اليسار الإيطالي الثوري، حول نيجري تركيزه من عمال الإنتاج الصناعيين إلى ما أسماه “العامل الاجتماعي” مع التركيز على العاطلين عن العمل وعناصر “مهمشة” أخرى. ثم بعد سجنه من قبل الدولة الإيطالية (بتهم خاطئة بالتورط مع منظمة الألوية الحمراء الإرهابية) كتب بالاشتراك مع مايكل هاردت Michael Hardt كتابين Empire (2000)وMultitude (2004) . وحظي العملين على قدر لا بأس به من النجاح لفترة ما وكان لهما تأثير واضح على الدوائر الراديكالية في أوروبا وأمريكا الشمالية. وأريد أن أتفحص فكرتين لنيجري، يشاركه فيهما العديد من الذين يعتبرون أنفسهم اوتونوميين أو أناركيين، يشوبهما أخطاء فاضحة بل والأدهى من ذلك أعتبرهما فكرتين ضارتين بشدة لليسار والحركة المناهضة للرأسمالية بمعناها الأشمل.

أولا فكرة أن رفض العمل بأجر هو عمل ثوري. لقد انتقدت هذه الفكرة من قبل بالنسبة لنظرية الأناركية كأسلوب حياة، إلا أن نيجري والاوتونوميين، وبالتحديد لأنهم كانوا في زمن سابق نشطاء راديكاليين، تطرفوا في دفع هذه الفكرة حتى بلغت حد الكارثة. فهم لم يركزوا فحسب في إستراتيجيهم على العاطلين بل رأوا أن من يعمل بأجر هو شخص متواطئ مع النظام الرأسمالي. يكتب نيجري في ذلك:

تظل بعض مجموعات العمال وبعض الفئات من الطبقة العاملة مرتبطة بعنصر الأجر… أي أنهم يحصون على دخلهم من عائد الإنتاج. وهم بذلك يسرقون وينتزعون القيمة الفائضة للبروليتاريا – ويشاركون في الخداع الاجتماعي للعمال ككل – على نفس طريقة الإدارة. لا بد من محاربة هذه المواقف – وممارسات الاتحادات العمالية التي ترعاها – بالقوة إذا لزم الأمر. وسيحدث، ولن تكون المرة الأولى، أن تدخل مسيرة للعاطلين على مصنع كبير لتحطم عجرفة أصحاب الدخول.

ولقد قامت هذه الفكرة، والتي طبقها بعض المناضلين من الشباب، بمهمة تقسيم الطبقة العاملة بالإنابة عن المديرين. وأدى ذلك في بعض الأماكن إلى وقوع مواجهات جسدية ما بين أنصاف الثوريين والمُنتمين للاتحادات العمالية كما أحدث الوقيعة بين أصحاب الوظائف والعاطلين.

وثانيًا، وانتقالا من فكرة “العامل الاجتماعي”، اقترح نيجري وهاردت مفهوم “الجمع” Multitude (على نقيض فكرة الطبقة العاملة). و”الجمع” مصطلح عائم جدًا ينطبق تقريبًا على كل من لا ينتمي فعليًا للطبقة الحاكمة ويشبه مصطلح “الشعب” القديم. ويبدو هذا للوهلة الأولى مقبولا إذ أن الاشتراكيين والأناركيين على حد السواء طالما إاستخدموا مصطلح “الشعب” بتعثر. غير أن الكثير من علماء الاجتماع البرجوازيين (وبعض الاشتراكيين) يعملون بتعريف أضيق أكثر مما يجب للطبقة العاملة إذ أنهم يحصرونها في العمال اليدويين فقط، بدلا من اعتبار كل من يتعيش من عمله في عداد الطبقة العاملة، ومُبعدين بذلك أصحاب الياقات البيضاء (العمال الذهنيين) من صفوف الطبقة، ومصورين بكل ذلك الطبقة العاملة في صورة طبقة في طريقها للانقراض في المجتمع المعاصر.

ومع ذلك ففكرة “الجمع” مغلوطة بشكل قاتل. فما يغيب عنها، بل ما تشوش عليه فعليًا، حقيقة أنه يوجد بين ضحايا الرأسمالية العالمية غير المعدودين طبقة خاصة، وهي تحديدًا الطبقة العاملة الأممية، والتي لديها مقدرة فريدة تستطيع من خلالها أن تتحدى النظام وتتغلب عليه. وتحديد الطبقة العاملة على هذا النحو هو حكم استراتيجي وليس أخلاقي. هو تحديد ليس قائمًا على اعتقاد أن العمال “أفضل” من غيرهم من الناس، أو تصور أن جميع العمال لديهم وعي اشتراكي، أو بناءًا على حنين رومانسي لماضي الحركة العمالية، ولكنه تحديد يستنتج من وضع العمال الاقتصادي كمصدر رئيسي لأرباح الرأسماليين وارتباطهم بمنابع الإنتاج الرئيسية في المجتمع وتركزهم العددي الهائل في أماكن العمل والمدن الكبيرة.

ولقد ظهرت مركزية الطبقة العاملة مرة أخرى في الثورة المصرية في عام 2011. فرغم مظاهرات الجماهير المصرية بالملايين واحتلالها الميادين والشوارع واستبسالها ضد الشرطة استمر مبارك بالتمسك بالسلطة. ولكن عندما انضم للمظاهرات موجة هائلة من الإضرابات العمالية من 9 إلى 11 فبراير دُفع الجنرالات الأوفياء لمبارك لاتخاذ قرار التضحية بالدكتاتور إنقاذًاً للنظام.

شكلت الطبقة العاملة منذ ولادتها من رحم الثورة الصناعية نقطة انطلاق والأساس الاجتماعي والمرتكز الإستراتيجي لأفضل عناصر اليسار، سواء كانوا اشتراكيين أو أناركيين أو تروتسكيين أو نقابيين. وبانزوائها عن هذه الركيزة، تهيئ الاوتونومية الساحة للتيه الإستراتيجي والوقوع في العديد من الأخطاء التكتيكية.

وينطبق الشيء ذاته على فكرة “البريكاريات” Precariat أو “غير المستقرون” التي بلورها مؤخرًا المفكر الاقتصادي جاي ستاندنج Guy Standing. ووفقًا لستاندنج فأن “الغير مستقرون” هم “طبقة جديدة وخطيرة” ويضعها في المقابل مع “البروليتاريا – الطبقة العاملة الصناعية التي بنيت عليها الاشتراكية الديمقراطية للقرن العشرين”:

تتكون هذه “الطبقة” من مختلف الناس الغير مستقرة في طبيعة حياتها، من الذين يعيشون حياة مبعثرة، يتناقلون ما بين وظائف غير دائمة، دون الحصول على أى خبرات وظيفية متجانسة؛ وتشمل هذه “الطبقة” ملايين الشباب المتعلم والمُحبط الذي لا يعجبه ما يراه، وملايين النساء المستغلات في أعمال قهرية، وأعداد متزايدة من الموصومين مدى الحياة بسوابق جنائية، والملايين الذين يصنفون “بأصحاب عجز”، والعمالة المهاجرة بمئات الملايين حول العالم.

ويزعم ستاندنج (مُخطئًا) أن الثورة المصرية والانتفاضات الحاصلة مؤخرًا في أسبانيا واليونان كلها تمت بقيادة البريكاريات، إلا أنه لا يدافع عن قضيتهم بقدر ما يستخدمهم كمجرد سلاح تهديد ليطالب الدولة بالإصلاح وتوفير دخل أساسي لكل الناس. ورغم أن ستاندنج نفسه ينتمي سياسيا ليسار الاشتراكية الديمقراطية ، إلا أن هذا لم يمنع العديد من الأناركيين والاوتونوميين أن يتبنوا مصطلحه الطنان وأن يستخدموه.

والخطأ الأساسي في هذه النظرية يكمن في أن من يُطلق عليهم البريكاريات هم في الحقيقة مجرد جزء من الطبقة العاملة بل ويمثلون نسبة الأقلية فيها (25% من السكان) وليسوا طبقة منفصلة مضادة للبروليتاريا، كما أنهم لا يشكلون بالتأكيد بديلا لها كأداة التغيير الاجتماعي أو الثورة. فمن ناحية، يتجاهل تعريف ستاندنج الضيق للبروليتاريا على أنها تضم فقط العمال الصناعيين حقيقة أن حتى حياة نسبة كبيرة من العمال تمتلئ بعدم الاستقرار الشديد خاصًة في فترات الركود وانتشار البطالة. ومن ناحية أخرى، فالطبقة العاملة لا تقتصر فقط على العمالة الصناعية أو اليدوية لكنها تشمل كذلك العمال ذوى الياقات البيضاء. إن الطبقة العاملة تشمل كل من يتعيش من عمله مقابل أجر سواء كانوا عمال حديد وصلب أم مدرسين، أو عمال إنشاءات أو مبرمجين كومبيوتر، أو عمال في متاجر أو ممرضات أو حتى أطباء حكوميين.

وبالنتيجة، فمحاولة اعتبار ما يسمى بالبريكاريات أو غير المستقرين بأنهم القاعدة الإستراتيجية لحركة التغيير الاجتماعي هو بمثابة شق لصفوف الطبقة العاملة، واقتصار للحركة على أقلية بداخل الطبقة العاملة والمجتمع وفصلها عن الأغلبية المنظمة في الطبقة التي تمتلك القوة الاقتصادية والقدرة الأكبر على ضرب الرأسمالية في مقتل وذلك بوقف عملية الإنتاج. فلقد وصف ماركس البروليتاريا بأنها “الحركة الواعية بنفسها، الحركة المستقلة للأغلبية الساحقة والتي تعمل لصالح هذه الأغلبية” – وهنا تكمن قدرتها على الانتصار. أما وضع الحركة في أيدي أقلية فهي مرة أخرى وصفة للفشل.

وقال نيجري وهاردت أيضًا في كتابهما الإمبراطورية Empire أن الدولة فقدت أهميتها كبؤرة للقوة الرأسمالية. فقد أنتجت العولمة ما أسموه بالـ”المسطح الناعم” للقوة الرأسمالية الخالصة حيث فقد الصراع الإمبريالي بين الدول القومية الأهمية. لم تكن هذه المقولة موفقة من حيث التوقيت، إذ جاءت قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001 مباشرة وما تلاه من غزو الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق، إلا أنه يجب التأكيد على أنها كانت خاطئة في كل الأحوال. على أبسط المستويات لا يمكن لشركات موبيل للنفط أو جنرال موتورز للسيارات (وغيرها من الشركات العملاقة) أن تتاجر ولا ليوم دون مساندة من دولها القومية وجيوشها المسلحة – وإلا نهبها الفقراء. أما على مستوى الاقتصاد الدولي فأن أكثر من 90% من أضخم 200 شركة عالمية يوجد لهم مقر وطني محدد وروابط وثيقة مع أجهزة دولة قومية بعينها. وكما يقول الشعار “لا يمكن أن توجد شركة مكدونالدز (للهمبوجر) دون وجود شركة ماكدونالد دوجلاس (لصناعة السلاح)”.

إن خطأ التقليل من أهمية الدولة تضاعف عندما خطى جون هالوواي خطوة إضافية في كتابه “غير العالم بدون الحصول على السلطة Change the World Without Taking Power والذي نشر في عام 2002. ففي حين رأى نيجري أن أهمية الدولة تتضاءل في عصر الإمبريالية الحالي، اعتبر هولوواي أن التركيز على الدولة هو الخطأ الأصلي والمستمر للحركة الاشتراكية بأكملها منذ بدايتها. ففكرة الاستحواذ على سلطة الدولة التي يسعى إليها الإصلاحيون والثوريون والاشتراكيون الديمقراطيون والبلاشفة والشيوعيون والتروتسكيون على حد سواء خطأ في حد ذاتها لأن جهاز الدولة بطبيعته سلطوي وقمعي و”الاستحواذ” عليه لن يفضى سوى إلى تكرار القمع التي قامت الثورة لتقضي عليه. وينادي هولوواي بدلًا من التركيز على الاستحواذ على سلطة الدولة بإستراتيجية تعتمد على إقامة قواعد سلطة “مستقلة” عن الدولة، كما فعل ثوار الزاباتيستا Zapatista في ولاية شياباس Chiapas بالمكسيك في أبان انتفاضتهم الشهيرة في 1994 ضد قمع الدولة المركزية للسكان الأصليين.

قد يكون لهذا الطرح وجاهته كنقد لممارسات أحزاب العمال الإصلاحية وغيرهم من الاشتراكيين الديمقراطيين الذين يلهثون دومًا من أجل التحكم في جهاز الدولة البرجوازي، ولكن يغيب عنه نقطة جوهرية أصر عليها ماركس بعد كومونة باريس في 1871 وطورها لينين في كتاب “الدولة والثورة” عام 1917 – وهي أن الطبقة العاملة لا تستطيع ببساطة أن “تستحوذ” على جهاز الدولة البرجوازية وتطويعه لمصالحها، إنما عليها أن تحطم الجهاز القديم وتقيم دولة من نوع جديد.

ولكن كإستراتيجية بديلة للتغيير، يفتقر طرح هالوواي (إقامة قواعد سلطة مستقلة) للعملية. بالفعل كان لتمرد الزاباتيستا أثرًا ملهمًا واسعًا في لحظة تاريخية محددة كانت فيها المقاومة على المستوى الدولي في حالة سكون نسبى وكان قادة العالم يهنئون بعضهم البعض في نشوة انتصارهم بعد سقوط الشيوعية في بداية التسعينات من القرن الماضي. لكن الزاباتيستا لم يفلحوا في تغيير المكسيك، ناهيك عن تغيير العالم. وبالإضافة إلى ذلك فما كان بالإمكان عمله في أدغال شياباس لا يصلح تنفيذه في مدن ساوباولوأو بوينس أيريس أو القاهرة أو أي مكان في العالم الرأسمالي المتطور. فالآن لم يعد يوجد مكان خارج نطاق ذراع الدولة ولم يعد هناك بقعة يمكن أن تحافظ على استقلاليتها للأبد إذا كانت تمثل تهديدًا للسلطة الرأسمالية. فمن الممكن أن نحاول أن نتجاهل الدولة ولكن هذا لا يعني أن الدولة ستتجاهلنا.

يقدم جون هولوواي منظوره لعدم الحاجة للاستيلاء على السلطة بمزيد من البلاغة الثورية الشاعرية عن رفض إعادة خلق الرأسمالية بعملنا والاحتفال بالتصدعات داخل النظام، إلا أن الحقيقة هي أن هذه الإستراتيجية تعتبر إصلاحية وليست ثورية، بل وتوفر غطاءًا راديكاليًا لكل أنواع المنظمات غير الحكومية ومجموعات الضغط والحملات الاجتماعية التي تود قطعًا تفادي المواجهة مع الدولة إما لأن الدولة تمولها أو لأنها لا تستهدف الإطاحة بالرأسمالية على الإطلاق.

أناركية البرنامج Platform anarchism

إن أناركية البرنامج ظاهرة محدودة ولكنها مثيرة للاهتمام. ولقد استوحى أسمها وأفكارها من “البرنامج التنظيمي للشيوعيين التحرريين”16 الذي كتبه في عام 1926 نستور ماخنو وبيوتر أرشينوف Piotr Arshinov وأناركيين روس آخرين من مجموعةDielo Trouda (قضية العمال) في المنفى في باريس؛ ولأناركية البرنامج أهمية معاصرة لتأثيرها على عدد من المجموعات الأناركية الصغيرة اليوم بما فيها حركة تضامن العمال في أيرلندا والاتحاد الشرقي-الشمالي للشيوعيين الأناركيين في شمال أمريكا.

كما يمثل البرنامج التنظيمي نتاج خبرة مؤلفيه في الثورة الروسية وهو شديد التأثر بها. وعليه يُرجع البرنامج أسباب ضعف الأناركية قبل كل شيء إلى غياب مبادئ مترابطة خاصة بالتنظيم السياسي:

الأناركية ليست فكرة طوباوية جميلة، ولا هي فكرة فلسفية مجردة؛ إنها حركة اجتماعية للجماهير العاملة. ولهذا السبب عليها أن تجمع قواها في منظمة واحدة وتقوم بالتحريض المستمر حسب ما يمليه الواقع واستراتيجية الصراع الطبقي.

تعوزنا بشدة منظمة تقوم، بعدما تُجمع غالبية القوى المشاركة في الحركة الأناركية، بتأسيس خطًا سياسيًا عامًا وتكتيكيًا في الأناركية يصلح ليكون دليلاً للحركة بأكملها.

والأسلوب الوحيد الذي يأتي بحل لمشكلة التنظيم العام، في نظرنا، أن يتم حشد المناضلين الأناركيين الناشطين لوضع أساسًا لمواقف محددة: نظريًا وتكتيكيًا وتنظيميًا، أي أساسًا لبرنامج متناسق بما يتسم به من كمال أو نقصان (التشديد في الأصل).

إنها سطور مدهشة حين تخرج من أفواه الأناركيين، فما هي “منظمة واحدة” ذات “خط سياسي عام وتكتيكي” و”برنامج متسق” بناءًا على “مواقف محددة” غير حزب بل وحزب وفقًا لتصورات لينين؟

والأكثر منها دهشة ما يقوله البرنامج، وبالتفصيل، في جزء بعنوان “الدفاع عن الثورة”:

إن الثورة الاجتماعية، المُهدِدِة لامتيازات الطبقات غير العاملة في المجتمع بل ولكيانها ذاته، ستدفع هذه الطبقات لا مَحالة إلى مقاومة يائسة ستأخذ شكل حرب أهلية شرسة…

وكما أظهرت التجربة الروسية فحرب أهلية كهذه لن تدوم مجرد بضعة أشهر ولكن عدة سنوات. مهما كانت خطوات العمال الأولى مليئة بالبهجة في بداية الثورة ستتمكن الطبقات الحاكمة من المقاومة لفترة طويلة وبقدرة فائقة. لسنوات طويلة سيشنون الهجمات على الثورة لمحاولة إعادة السلطة والامتيازات التي ضاعت منهم. سيتصدون للعمال المنتصرين بالجيوش العظيمة والتقنيات والاستراتيجيات العسكرية والمال …

لذا يتوجب على العمال، حفاظًاً على مكاسب الثورة، تكوين منظمات للدفاع عن الثورة حتى يواجهوا الهجمات الرجعية بقوة قتالية ضاربة تتناسب مع حجم المهمة…

… كحال كل الحروب، لا يمكن للعمال شن حرب أهلية بنجاح إلا مع تطبيق المبدأين الأساسيين للعمل العسكري: وحدة خطة العمليات ووحدة القيادة العامة. اللحظة الأكثر حسمًا للثورة ستأتي عندما تهجم البرجوازية على الثورة بقوة منظمة. إنها لحظة حاسمة تفرض على العمال تبني هذه المبادئ للإستراتيجية العسكرية.

ومن ثم، فبالنظر إلى الضروريات التي تفرضها الإستراتيجية العسكرية وأيضًا إستراتيجية الثورة المضادة، فعلى قوات الثورة المسلحة أن تعتمد بالتالي على جيش ثوري عام بقيادة مشتركة وخطة عمليات…

لقد عرضت هذا الاقتباس المطول من البرنامج تحديدًا لأنه من المدهش قراءة هذه السطور من أقلام معلنة لأناركيتها. فها هم يعترفون بأساس حجة الحزب كما واعترفوا كذلك، من واقع تجربتهم في الثورة الروسية أي من واقع ثورة حقيقية، بأساس الحجة الماركسية الداعمة لضرورة بناء دولة عمال للدفاع عن الثورة.

المؤلفون (وتلاميذهم المعاصرين) ينكرون هذا التطابق، بالضبط كما ينكرون أن “المنظمة الواحدة” ذات “برنامج متسق” هي حزب، إذ أنهم، كما يقولون، رافضون “للمبادئ” الخاصة “بالدولة” و”السلطة”. ولكن لا فائدة من الإنكار. فأساس الدولة، كما أصر إنجلز ولينين، هي تحديدًا “هياكل من الرجال المسلحين”. فسواء أعجبنا الأمر أم لا، فإن تكوين جيش من العمال الثوريون “ذو قيادة موحدة” يعني تكوين دولة، كما يعني أيضًا وجود قدرًا من السلطة على أرض الواقع. ولن يُجدي التلاعب بالكلمات للتحايل على هذه الحقيقة وهذا التطابق مهما كان.

يستطيع الماركسي إلى حد بعيد أن يقول للرفاق الأناركيين أصحاب توجه البرنامج أنكم أدركتم أشياءً مهمة – عن ضرورة وجود منظمة واحدة على أساس برنامج متسق، وضرورة التعامل مع الثورة المضادة العنيفة والحرب الأهلية، إلخ. إلا أن هذا ببساطة لا يمكن أن يندرج تحت الإطار الأناركي. الأفضل كثيرًا أن يتم البناء عليه من خلال إعطاءه أساسًا نظريًا جادًا بواسطة المادية التاريخية لماركس وإدخاله في النظرية الماركسية عن الدولة والحزب، وكلاهما أكثر تطورًا وأكثر عمقًا، وما هو أهم، أكثر ديمقراطية، مما قد يدرك العديد من الأناركيين.

الفعل المباشر Direct Action

من القضايا التي كثيرًا ما أختلف حولها الماركسيون والأناركيون على امتداد الحركة هو اللجوء لاستخدام تكتيك “للفعل المباشر”. وإعطاء تعريف محدد “للعمل المباشر” ليس بالأمر السهل لأن المصطلح يستخدم لنطاق واسع من التكتيكات ولكنه بشكل عام يشير إلى الاحتجاجات أو أعمال المقاومة التي تخرق القانون الرأسمالي أو تتحداه كالاعتصامات في الشارع وتعطيل الطرق الرئيسية واحتلال المباني وكسر النوافذ وغيرها من الاعتداءات على الأملاك الخاصة. وقد يُستخدم العنف في الفعل المباشر وقد يكون فعل مباشر سلمى. من الواضح أن أشكال الفعل المباشر يُمكن استخدامها وكانت مًستخدمة من قبل العديد من القوى السياسية والاجتماعية المختلفة من حركة الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة في الستينات إلى المتظاهرين المناهضين للرأسمالية في جنوه في إيطاليا في 2002 إلى طلبة لندن. والعمال المضربين والذين يحتلون أو يحاصرون مواقع العمل يقومون نوعًا ما باستخدام تكتيك الفعل المباشر. واليمين المتطرف والفاشيون أيضا قد ينخرطون في الفعل المباشر كما يحدث عندما تستهدف “عصبة الدفاع الانجليزي” الفاشية الجوامع على سبيل المثال.

فكيف لهذه القضية أن تشق بين الماركسيين والأناركيين؟ الأمر بالتأكيد لا يتلخص في أن الأناركيين يؤيدون الفعل المباشر وأن الماركسيين يعارضونه – على العكس فقد تعددت المناسبات التي أيد فيها الماركسيون الفعل المباشر وقاموا به. إلا أن هناك فرق. فالأناركية تميل إلى الهوس بالفعل المباشر وتتمسك به مًستبعدة أشكال أخرى من العمل وتميل للانتقاص من الأشكال الأخرى للاحتجاج. ويصاحب هذا ميل لإعلاء شأن استخدام طرق الإثارة والمخاطرة والشجاعة التي تشد الأنظار في العمل المباشر فوق متطلبات إشراك الجماهير في النضال وحشدها. أما الماركسيون، وعلى العكس، يرون في استخدام العمل المباشر تكتيكًا يُلجأ إليه فقط عندما يخدم الهدف الأساسي وهو رفع ثقة جماهير الطبقة العاملة ووعيها ونضاليتها.

لا يمكن طبعًا أن تكون هناك قاعدة مطلقة في إست خدام تكتيك الفعل المباشر فالحكم يكون حسب الظروف على الأرض وكلنا نخطئ أحيانًا. إلا أن رأيي بشكل عام أن النهج الماركسي للعمل الجماهيري يظل هو النهج الصحيح. فيوجد في الإعلاء من دور العمل المباشر لأقليات صغيرة سوء تقدير لمدى بطش وقوة النظام وجهاز الدولة التابعة له. مثلا، أثبتت فكرة المجموعة الإيطالية توتي بيانكي Tute Bianchi (الاوفرول الأبيض) أنه بالإمكان التغلب على الشرطة أو حتى تحجيمها بتطوير تكتيكات خاصة لحرب الشوارع (برداء مُبطن، إلخ) أنها وهم تام عند تجربتها في جنوه في 2002. فالدولة لا تملك مجرد جهاز شرطة بهراواته وخيله وكلابه وغازه المسيل للدموع، ولكنها تملك أيضًا أسلحة نارية وجيش بمدفعية ودبابات. والطريقة الوحيدة لمواجهة آمنة مع الشرطة في الصدامات في الشارع تكون بالتفوق على عددها كما حدث في الثورة المصرية مؤخرًا، والطريق الوحيد لهزيمة الدولة الرأسمالية ككل هي مواجهة ملايين العمال لها حتى تنكسر من الداخل.

ويكون للمظاهرات المليونية، حتى إذا كانت سلمية تمامًا وحتى إن لم تنجح في إحداث تغييرًا في سياسة الحكومة، دور مهم في الحركة. فبالنسبة للكثير من العمال تكون هذه المظاهرات هي أول تعريف لهم بالسياسة وأول تجربة في العمل الجماعي، وقد يكون لها تأثير قوي في التثوير. كما تعطي هذه التعبئة الناس شعور بقوتهم كجماعة متجاوزين العزلة والتفتيت الذي يحاول النظام أن يفرضه. فلا بد أن تكون هناك أشكال للعمل يستطيع أن يشارك فيه ناس مازال وعيهم يتطور ويخطون أولى خطواتهم، التي قد تكون مُهتزة، نحو المشاركة في الحركة. كما أن للمظاهرات الكبيرة أثر دعائي مهم، على المستوى الدولي والمستوى القومي على حد سواء. فمثلا عندما تظاهر عدة ملايين في الغرب ضد الحرب على العراق في 2002-2003، ورغم أنهم لم يمنعوا حدوثها، أرسلوا برسالة مهمة إلى الشرق الأوسط بأن جماهير الناس العادية في الغرب غير مؤيدة للعدوان الإمبريالي لحكوماتهم. وهذه المظاهرات ساعدت اليسار في الشرق الأوسط على المجادلة ضد أطروحات الإسلاميين والتيارات الإرهابية المعادية للغربيين عامًة، وخلقت أساس هام للتضامن الأممي المستقبلي.

وعلى النقيض، قد يؤدي الهوس بالفعل المباشر إلى الفصل بين الأقلية المتحمسة والأغلبية الأقل حماسًا. وقد تنفصل الأولى عن الأخيرة وتتوهم بأن الأعمال الدرامية لمجموعة صغيرة من داخل الحركة هي فقط التي تحدث التأثير. وهذا النوع من الخلط قد يدمر الحركة. ويجب هنا التأكيد على إن الثورة عملية تحرر ذاتي لملايين من الطبقة العاملة ولا يوجد لها اختصارات. ولهذه الأسباب يجب أن يكون لحشد جماهير الطبقة العاملة الأولوية في كل الأوقات.

المشاركة في الانتخابات

يرفض كل الأناركيون تقريبًا المشاركة في الانتخابات النيابية والانتخابات الرسمية الأخرى، ويعتبرونها نشاطًا سياسيًا برجوازيًا بامتياز وعملية فاسدة ومُزيفة – فرأس المال والأثرياء يظلون هم المُسيطرون على المجتمع الرأسمالي بغض النظر عن من يفوز في الانتخابات – ولذا فالأناركيون ينظرون للمشاركة في الانتخابات على أنها بمثابة “الاعتراف” بالدولة الرأسمالية البغيضة. وتشاطر الماركسية الأناركية نفس انتقاداتها بالنسبة للديمقراطية البرجوازية، نافيةً إمكانية أن تقود سكة البرلمان إلى الاشتراكية أو التغيير الثوري. وتستهدف الماركسية إزاحة ثورية للبرلمان البرجوازي واستبداله بمجالس عمالية، ولكنها، مع ذلك، تؤيد المشاركة في الانتخابات النيابية حسب الظرف.

وبما أنه يجب أن يكون الثوار منخرطين طوال الوقت في النضال لتوعية الطبقة العاملة ضد تأثير الإعلام الرأسمالي والأحزاب السياسية الرأسمالية والأحزاب الإصلاحية، لذلك فإن الانتخابات البرجوازية هي أرضية هامة يجب أن تخاض عليها هذه المعركة. ورغم أن الانتخابات البرجوازية ليست على الإطلاق هي الأرضية الأهم في النضال من أجل محاربة التأثير الأيديولوجي الرأسمالي – حيث أن معارك النقابات العمالية والإضرابات مثلا أهم بكثير – إلا أنه لا يجب تجاهل الانتخابات. قد لا يخدع النظام البرلماني العناصر المتقدمة بين العمال ولكنه من المؤكد أن ملايين العمال ينخدعون في الانتخابات حتى من فيهم يدعي أنه متشكك في جدواها. وهذا يعنى أنه في أوقات الانتخابات ينصب اهتمام الناس على السياسة أكثر من الأوقات العادية ومن ثم فالمُرشحين في الانتخابات تكون لديهم فرصة مهمة لتوصيل الأفكار الاشتراكية لجمهور عريض من العمال والفقراء.

وإذا تم انتخاب مرشحين من الاشتراكيين الثوريين إلى مجالس محلية أو برلمانات قومية تزداد فرصة الدعاية الاشتراكية الفعالة بشكل كبير – ليس فقط الدعاية عن طريق المنشورات والخطب (داخل الغرف وخارجها) ولكن أيضًا عمليًا عن طريق دعم النواب الاشتراكيين للإضرابات والذهاب إلى خطوط العمال المضربين والمشاركة في الاحتلالات والاعتصامات والإضرابات، وتعلم كيف يتم فضح وتفنيد الديمقراطية المُصطنعة للمَكلَمة البرلمانية من الداخل. ولا يمكن، كما قلنا، أن نغير البرلمان ليصبح كيان يعمل من أجل الطبقة العاملة والشعب، إلا أن من الممكن للثوريين أن يعمل بداخله كمدافع عن مصالح الشعب أمام الشعب.

سيقول البعض، أناركيين وغيرهم من الناس الذين سئموا الأكاذيب والنفاق والرشوة البغيضة للسياسات البرجوازية اليومية (وهذا حال كل بلد رأسمالي)، أن لحظة دخول الثوري الصادق إلى النظام البرلماني الفاسد لا مناص من أن تُفسده هو أيضًا. وطبعًا يوجد خطر حقيقي لحدوث ذلك، كما قد يحدث مع بعض الأفراد الذين يُنتخبون لمناصب رسمية في النقابات العمالية، لأن النظام الرأسمالي يمارس ضغوط كبيرة على الناس ليتوافقوا ويتواءموا معه. فالبرجوازية تمتلك عقود من الخبرة في إفساد ممثلي الطبقة العاملة. ولذلك فعلى الحركة الاشتراكية الثورية أن تتخذ احتياطاتها حتى لا يتم التخلي عنها وعن مبادئها أثناء العمل داخل البرلمان، وأن تتأكد من أن مُرشحيها يظلون على وعي وحصانة ضد الضغوط التي سيتعرضون لها، وأن ترسي آليات لمحاسبة النواب الثوريين أمام القواعد الجماهيرية. وأهم شيء أن تتأكد الحركة الاشتراكية الثورية والحزب من أن يظل مركز ارتكازها وتركيزها الأساسي على النشاط السياسي خارج البرلمان، في الصراع الطبقي في مواقع العمل والجامعات والأحياء.

مع اتخاذ هذه الاحتياطات، لا يعد من وراء الخيال أن تجد الحركة الثورية الكوادر ذات العزم السياسي لخدمة الثورة والطبقة العاملة في القلعة البرلمانية للنظام الرأسمالي ذاته. وبالفعل قد أثبت التاريخ أن هذا الأمر ممكن. ونجد مثالًا بارزا على ذلك في شخص كارل ليبكنشت Karl Liebknecht، رفيق الكفاح لروزا لوكسمبورج في الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، قد أنتُخب في الرايشستاج (البرلمان) الألماني وعارض فيه الحرب العالمية الأولى، ولعب دورًا قياديًا وأستشهد في الثورة الألمانية في 1919. ونجد مثالًا أخر في برناديت ديفلن Bernadette Devlin النائبة المنتخبة في البرلمان الإنجليزي في 74-1969 عن منطقة ميد ألستر Mid-Ulster التي اعتقلت لمشاركتها في معارك حركة فري ديري Free Derry في أيرلندا الشمالية ضد الاضطهاد البريطاني للأقلية الكاثوليكية والتي لَكَمت وزير حكومة المحافظين ريجينالد مودلينج Reginald Maudling في بيت العموم بعد مجزرة الأحد الدامي عام 1970. وهناك شخصيات عديدة أقل شهرة لعبت دورًا ثوريا يخدم الحركة الاشتراكية من خلال البرلمان.

ومشكلة الموقف الأناركي في عدم الترشح للانتخابات هو إخلاءُه هذه الساحة السياسية بأكملها للبرجوازية وحلفاؤها الأوفياء في الطبقة العاملة والأحزاب الإصلاحية. وهم بهذه الطريقة يساعدون الإصلاحيين الذين يغدرون بالطبقة العاملة في أي مواجهة حاسمة والذين ينشرون الأفكار البرجوازية يوميًا بين الناس ليظلوا مُتحكمين في وعي الطبقة العاملة. والأسوأ أنه عندما يشعر العمال بخيبة أمل من جراء خيانات حكومات من النمط الإصلاحي لهم، كما سبق وحدث مرارًا وتكرارًا، يصبح هناك خطر كبير، في حال غياب بديل يساري، أن تتجه الناس في الانتخابات للأحزاب اليمينية والفاشية. ومن تجربة هتلر في الثلاثينات من القرن الماضي حتى صعود أسهم الأحزاب الفاشية في اوروبا في العقود الأخيرة، أظهر الفاشيون إجادتهم للجمع بين ممارسة السياسة البرلمانية مع السياسة خارج البرلمان. ولا يمكن لليسار الثوري أن يغسل يداه من الانتخابات ويترك لهم هذا المجال لنشر سمومهم بدون تديم بديل ثورى.

اتخاذ القرارات في الحركة

لتنظيم أي إضراب أو حملة أو مظاهرة أو اجتماع بشكل ناجح يجب اتخاذ قرارات ما، فهذا أمر لا مفر منه. يكون نطاق بعض هذه القرارات ضيق وطابعها تنفيذي إلى حد بعيد – من قُبيل تحديد موعد اجتماع في الساعة 7 أو 8 مساءً؟ ولكن كثيرًا ما يتعلق الأمر بقضية مبدئية – هل تعتبر هذه الحملة داعمة لحقوق الأقليات أم لا؟ وأحيانًا يبدو مثل هذا السؤال تنظيمي بسيط، إلا أنه يمكن أن يترتب عليه تداعيات سياسية وإستراتيجية أوسع. فمثلًا، قد يدور النقاش عن مسار وتكتيكات مظاهرةً ما، إما أن تظل سلمية تمامًا أم تخاطر بالانتهاء بمواجهات مع الشرطة. وأثناء تنظيم أي مُؤتمر يجب اتخاذ قرارات خاصة بجدول الأعمال والمتحدثين، إلخ، فكيف يتم اتخاذ القرارات الهامة؟

هناك أسلوب يُتبع بإفراط في الحركات الراديكالية وهو أن تكون الكلمة العُليا في كل شيء لشخص صاحب “كاريزما” أو هيبة. هذا لا يجب أن يقبله الماركسي ولا الأناركي. فالأسلوب المُتبع تقليديًا في الطبقة العاملة والحركة الاشتراكية هو الانتخاب الديمقراطي، فهو يسمح بطريقة أو أخرى بتفويض قدر ما من السلطة للـ”قيادات” وللـ”مسئولين” مع التمسك بالمبدأ الأساسي أن القرار للأغلبية. وفي السنوات الأخيرة مال العديد من الأناركيين والاوتونوميين إلى أن تتم عملية اتخاذ القرارات عن طريق التوافق – فلا يعتبر قرارًا ساريًا على الجميع سوى ما أتفق عليه كل المشاركين في الحملة (أي الحاضرين في الغرفة في ذلك الوقت بالتحديد). فأي من هذين الأسلوبين هو الأفضل؟

لا شك أن اتخاذ القرار بالتوافق بين المشاركين هو الأسلوب الأمثل – في حال توافق الآراء. أو قد يكون الأفضل عندما يتوفر قدرًا كافيًا من الاتفاق في الرأي ليتم التوافق في زمن معقول. ولكن تقع الكارثة عندما لا يوجد توافق على موضوع هام وتبدو الأمور كأنه لا يمكن أن يتم التوصل إليه. ولقد حدثت مواقف من هذا القبيل وستكرر مرة بعد أخرى في أي حركة حية. ويصبح عدم الوصول إلى توافق في لحظات معينة كارثة لأنه بدون حسم القرارات فنحن لا نستطيع تنظيم مظاهرة دون تحديد مكان التجمع وتوقيته أو مؤتمر دون حجز القاعة مسبقًا؛ أو قد يُتخذ القرار ولكن بعد إنهاك جانب للجانب الآخر بنقاشات لا نهائية (وهذا يعطي ميزة كبيرة لغير الملتزمين بمواعيد عمل في الصباح التالي). كما أن أسلوب”التوافق” يسمح لأقلية صغيرة متصلبة الرأي في صد وإحباط أغلبية كبيرة فتفشل حملة أو مظاهرة أو فعالية ما.

واتخاذ القرارات عن طريق الانتخاب أيضًا له عيوبه. فقد يتم تزويرها أو التأثير عليها بطريقة غير نزيهة، كما قد يتم تجاهل القرارات عند التنفيذ. ومع ذلك، فالانتخاب الديمقراطي يظل من ألأساليب الأساسية في حركة الطبقة العاملة. وسأعطى مثالين للتوضيح: المثال الأول افتراضي إلا أنه يحدث يوميًا في حياة الحركة العمالية.

خمسمائة عامل من موقع عمل “أ” مضربين عن العمل ومطلبهم زيادة في الأجر بنسبة 10%. وبعد أسبوع يعرض أصحاب العمل زيادة 5% وتنصح النقابة العمال بقبول العرض على أساس أن هذا أفضل ما يمكن التوصل إليه في اللحظة الراهنة. فينقسم العمال: من بين الـ500 يقبل حوالي 100 العرض بلا تردد، ولكن يظل تقريبًا 100 آخرين مُصرين أن يستمروا في النضال مُعتقدين أن الحصول على المزيد ممكن. فكيف تُحسم القضية حيث لا يتوافر أي أمل في التوصل إلى “التوافق” بين القطبين المتمسكين بموقفهم؟ إذا تصرف كل واحد حسب رغبته سيتفتت الإضراب وستحل الهزيمة. كلا! يجب هنا اللجوء إلى التصويت. سُيفضل أصحاب العمل الاقتراع بالبريد حتى يُدلي العمال بأصواتهم من منازلهم كأفراد معزولين. أما نحن (الراديكاليين والاشتراكيين والثوريين، إلخ) سنقاتل من أجل إجراء التصويت في اجتماع جماهيري عمومي بعد النقاش العلني حتى يتاح لجانبي الخلاف فرصة إقناع الـ300 مِن مَن لم يحسموا موقفهم بعد بحُججهم.

الاحتكام إلى التصويت الديمقراطي تقليد يجب أن نناضل من أجله والدفاع عنه في الحركة العمالية وكل حركة. يجب أن يعتاد العمال (والثوريون) على عملية التصويت – ويقبلوا بالنتيجة في حالة الهزيمة. وطبعًا، فإن بعض الانتخابات لا يُمكن قبولها ولا يجب أن تقبل – فكل قاعدة لها استثناءاتها – ولكن بشكل عام لا يمكن الحفاظ على وحدة أي نقابة أو إضراب أو احتلال لمواقع أو حملة أو حزب أو تطويره إلا إذ تقبل الناس إمكانية الخسارة في التصويت الديمقراطي دون الانفصال أو الاستقالة.

والمثال الثاني هو حادثة وقعت بالفعل ولها أهمية تاريخية بالغة – ثورة أكتوبر 1917. في ساعات الصباح الباكر من 25 أكتوبر بدأ الحرس الأحمر بقيادة اللجنة الثورية العسكرية لسوفييت بتروجراد (ورئيسها ليون تروتسكي) في الاستيلاء على المُنشئات الأساسية في المدينة. ولم تُقابل هذه الانتفاضة الثورية أي مقاومة تقريبًا. وفي العاشرة صباحًا أصدرت اللجنة الثورية البيان التالي:

إن الحكومة المؤقتة عُزلت. وانتقلت سلطة الدولة إلى يد اللجنة العسكرية الثورية، التابعة لهيئة سوفييت بتروجراد لنواب العمال والجنود ، والمسئولة عن قيادة بروليتاريا بتروجراد وحاميتها العسكرية.

في هذا التوقيت كانت الحكومة المُؤقتة البرجوازية القديمة ما زالت مشلولة في داخل القصر الشتوي. وفي هذه الأثناء، في اليوم نفسه والمدينة نفسها، كان اجتماع سوفيتات عموم روسيا في حالة انعقاد في معهد سمولني ويحضره مُوفدين من مجالس العمال والجنود من جميع أنحاء روسيا. فقد كان شعار الانتفاضة التي قادها تروتسكى هو “كل السلطة للسوفيتات”. فما هو الموقف المتوقع أن يتخذه المؤتمر المنعقد تجاه هذه الانتفاضة؟ كيف سيتم البت في الأمر العاجل؟ التوافق مستبعد تمامًا – ففي القاعة تواجد معارضون عتاة للانتفاضة والذين كان سيغادرون في التو واللحظة للانضمام للثورة المضادة، كما كان يتواجد ناس أمثال الرفيق مارتوف من الحزب المنشفي من الذين كانوا يسعون لإيجاد حل وسط. كان من الواضح أنه يجب إجراء تصويت – وبالفعل تم إجراء سلسلة من التصويت.

وقد أعطى تروتسكي في كتابه الرائع “تاريخ الثورة الروسية” بعض الأرقام:

إن الإحصاءات في هذا المؤتمر المنعقد أثناء القيام بالانتفاضة لم تكن مُستوفاة بالمرة. في لحظة الافتتاح كان عدد الموفدين 650 وجاءت الأصوات 390 صوتًا من نصيب البلاشفة…أما المناشفة والمجموعة القومية التابعة لهم فلم يتعدى عددهم إلا 80 عضوا – ونصفهم تقريبًا “يساريين”. كما مثل اليساريين 60% من بين 159 (أو 190 في تقرير أخر للقوائم) من الثوريين الاجتماعيين. وبالإضافة إلى ذلك، استمر اليمين في الذوبان سريعًا أثناء هذه الجلسة للمؤتمر.

وبنهاية الجلسة كان العدد الإجمالي للمندوبين قد وصل 900 وفقًا لعدة قوائم…وتم اتخاذ تصويتًا استطلاعيًا بين المندوبين الحاضرين. وكشف هذا التصويت أن 505 من مندوبي السوفيتات صوتوا تأييدًا لنقل كل السلطة إلى السوفيتات، و86 أيدوا حكومة “للقوى الديمقراطية”، و55 أيدوا حكومة ائتلاف، و21 صوتوا لحكومة ائتلاف ولكن بدون حزب الكاديت الليبرالي.

إذا كنا سنهزم الرأسمالية الدولية فيجب أن تكون هناك العديد من هذه المؤتمرات لمجالس العمال أو هيئات مشابهة والعديد من عمليات التصويت هذه. وهذا هو السبب الثاني لأهمية العناية بممارسة التصويت الديمقراطي بداخل الحركة، بجانب مطالب الصراع الطبقي الآنية.

كل هذه الاختلافات بين الماركسية والأناركية حول قضايا أسلوب الحياة والاوتونومية والبرنامج والفعل المباشر والانتخابات والتصويت لها أصل واحد: هي نابعة من حقيقة أن الماركسية الحقيقية طالما كانت واضحة فيما يخُص هدفها المُتمثل في ثورة عمالية على المستوى العالمي، وأنها تحاول دائما أن تُقيم وتفكر في كل الأسئلة الإستراتيجية والتكتيكية من هذا المنطلق. وعلى العكس، فطالما افتقرت الأناركية لمثل هذا الوضوح، وبالتالي فأنها تأرجحت دومًا من مكان لمكان، أحيانًا مُنقادة وراء احتياجات الطبقة العاملة وأحيانًا وراء مجموعات اجتماعية أخرى وأحيانًا مدفوعة بعواطف أنصارها.

« السابق التالي »