بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الأناركية – رؤية نقدية من المنظور الماركسي

« السابق التالي »

7. الطريق إلى الأمام

قد تُلخص حجة هذا الكتيب في جملة واحدة: “الأناركية لا تستطيع أن تنتصر”؛ فهي تفتقر رغم كل المُثل السامية وكل بُطولتها لإستراتيجية جادة لإسقاط الرأسمالية وتحقيق مُثلها. إلا أننا في أحوج ما نكون لإستراتيجية تقودنا نحو النصر، فمستقبل الإنسانية بأكمله مرهون بذلك.

فوضع العالم الحالي لا يمكن السكوت عليه – حيث تتمركز في أيدي 358 ملياردير ثروة تساوي ما يَحتكم عليه النصف السُفلي من سكان العالم. ويعاني مليار نسمة من البشرية من الجوع في حين تُنفق 500،1 مليار دولار أمريكي على السلاح كل عام، ومع تحميل فاتورة الأزمة الاقتصادية للمصرفيين على العاملين والفقراء في الولايات المتحدة واليونان والبرتغال وأسبانيا وفرنسا وبريطانيا وأيرلندا وأيسلندا والبقية، ومع الحروب والتعذيب والعنصرية والقمع والاستبداد في كل الجوانب – ولكن إذا استمرت الرأسمالية كما هي سيزداد الوضع سوءًا.

لا يبدو أن الأزمة الرأسمالية التي بدأت في عام 2008 ستهدأ. بالعكس، بعد ظهور مؤشرات تعافي طفيفة – ضخمها الإعلام كثيرًا – بات من الواضح أنها عادت لتتدهور مرة أخرى. وها هي منطقة اليورو ألأوروبية تترنح من كارثة إلى أخرى ومن حزمة إنقاذ مالي إلى أخرى، في حين أن أيرلندا واليونان ثم إيطاليا وأسبانيا تقف على حافة الانهيار والعجز عن تسديد الديون. ويجبن أوباما والساسة الأمريكيون في مواجهة الدين الأمريكي الذي يقترب من 14 تريليون دولار أمريكي. أما الصين التي اعتبرت أكبر قصة نجاح في العصر الحديث والتي كان من المأمول أن تنقذ الاقتصاد العالمي فقد بدأ اقتصادها أيضًا في التباطؤ ويخنقها التضخم. وفي الوقت نفسه، وعلى الجانب الآخر من النظام، يواجه عشرة مليون إنسان المجاعة في القرن الأفريقي.

وحتى إذا نحينا جانبًا العواقب المستمرة للأزمة الاقتصادية، والتي تشمل صعود القوى الفاشية في الكثير من البلدان الأوروبية واحتمال اندلاع حروب إمبريالية أكثر تدميرًا, فسنجد أن هناك ثمة قنبلة موقوتة وهي الكارثة البيئية. وإذا تركنا التغير المناخي يستمر – والاحتمال ضعيف أن توقفه الرأسمالية التي يدفعها المنافسة واللهث وراء الربح– فالتوابع المفزعة المحتملة بالنسبة للإنسانية قد تجعل كل ما رأيناه في الماضي من ويلات تافهًا بالمقارنة.

سنشهد وقوع فيضانات كالتي حدثت في نيواورلينز وباكستان وبنجلاديش ولكن على نطاق أكبر بكثير؛ جفاف ومجاعات كالتي شاهدناها في دارفور ومنطقة الساحل الأفريقي وإثيوبيا والقرن الإفريقي ولكن على نطاق أوسع بكثير؛ وحروب تُشن من أجل الموارد (الماء بدلاً من النفط) ولكن على نطاق أوسع بكثير، ولاجئون من مناطق كل هذه الكوارث وعلى نطاق أوسع بكثير. وإذا أردنا أن نعرف ما سيكون رد الفعل الذي ستتخذه الرأسمالية على كل هذه الأحداث فعلينا أن نُلقي مجرد نظرة على رد فعل الفاضح لأغنى بلد رأسمالي في العالم وهو الولايات المتحدة على عاصفة كاترينا في نيواورلينز في 2005.

فالسؤال عن ماهية الإستراتيجية التي لديها فرصة حقيقية أن تنتصر له أهمية قُصوى مع الوضع في الاعتبار أن لا أحدا لا يستطيع تقديم ضمانات. وأول ما يجب أن تفعله مثل تلك الإستراتيجية هو أن تحدد القوة الاجتماعية الحقيقية التي تمتلك القدرة على تغيير العالم. فبدون هذا لا تكون أفضل التكتيكات وأنبل الأهداف وأكثر الخطط جرأة إلا من قبيل الجعجعة والتمنيات الطيبة. وأكبر نقطة قوة للماركسية وأعظم إنجازات ماركس النظرية تكمُن في تحديد هذه القوة وهي الطبقة العاملة العالمية.

قصد ماركس بالطبقة العاملة من يتعيشون من بيع قوة عملهم ممن يُوظفهم ويَستغلهم الرأسمالي. ما جعل ماركس يؤسس منظوره السياسي على الطبقة العاملة لم يكن مقدار مُعاناتِها ولكن مخزون قُوتِها. صحيح أن معاناة الطبقة العاملة والاستغلال الذي تتعرض له يثير الاشمئزاز كما يعطي للعمال الدافع والمصلحة في تحدي النظام، ولكن العبيد والفلاحين تعرضوا للمعاناة والاستغلال لآلاف السنين. ولكن ما يميز الطبقة العاملة هو(أ) قوتها التي تمكنها من أن تهزم الرأسمالية فعلا و(ب) قدرتها على خلق مجتمع جديد.

إن الطبقة العاملة هي الإبن الفريد للرأسمالية؛ إ فكلما توسعت الرأسمالية كذلك كبُرت الطبقة العاملة. تستطيع الرأسمالية أن تهزم الطبقة العاملة في معركة تلو الأخرى، تُفض إضراباتها وتُحطم اتحاداتها وتُقلص حرياتها ولكنها لا تستطيع أن تستغني عنها لتحقيق الربح، فلذا دائمًا ما يعود العمال للنضال مرة أخرى.

تُجمَع الرأسمالية العمال في مواقع عمل كبيرة وتربطهم في صناعات قومية وعبر+دولية وتركزهم في مدن شاسعة. وهذا ما يعطى العمال قوة سياسية كامنة رهيبة. فبدون عملهم لا يسير لا القطارات ولا اللوريات ولا الشاحنات؛ ولا يُستخرج الفحم أو الحديد أو النفط من الأرض؛ ولا تُطبع الأوراق ولا تُبث محطات التلفاز ولا يفتح مصرف أو مدرسة. وحتى القوات المسلحة للدولة تعتمد على العاملين في صفوفها.

لقد خلقت الرأسمالية، بخلقها للطبقة العاملة، أقوى طبقة مقهورة في التاريخ.

إن صراع الطبقة العاملة بطبيعته صراع جماعي. من أصغر حملة محلية إلى أكبر إضراب في شركة عملاقة أو إضراب عام ضد الحكومة ينظمه العمال يجب أن يقوموا به كجماعة. وقد تكون صفة الجماعية هذه مصدر إحباط للفرد المناضل أو الثوري، إذ أن العمال في مكان ما لا يمكن لهم فعل أي شيء إلا إذا كانت أغلبية منهم على استعداد للتحرك معًا. ولكن هذه المعضلة بالتحديد هي التي تحول الطبقة العاملة إلى طبقة اشتراكية. فلا يمكن للعمال أن يتقاسموا أدوات الإنتاج بشكل فردى (كما يقسم الفلاحون الأرض)، ولكنهم مضطرين أن يحولوها إلى ملكية للمجتمع من أجل تحقيق تحررهم.

وبالإضافة إلى ذلك ستظل الطبقة العاملة، عندما تستحوذ على السلطة، الطبقة المُنتجة في المجتمع دون أن تكون هناك طبقة أسفل منها تستغلها أو تعيش على حسابها. وبما أنها تعيش ممركزة في كبرى الصناعات والمدن التي تمثل عصب القوة الاقتصادية والسياسية فسيكون لديها المقدرة لمنع ظهور أي طبقة جديدة من فوقها؛ سيكون في إمكانها أن تُنتج وأن تحكم في آن واحد وبذلك تؤسس لمجتمع بلا طبقات حقيقي. ويعنى هذا إن الطبقة العاملة وهي تحرر ذاتها تحرر الإنسانية معها.

إن الدور الثوري للطبقة العاملة هو جوهر الماركسية. لم يرفض الأكاديميين والناقدين، بما فيهم الذين يتعاطفون مع الماركسية، طرحًا ماركسيًا مثلما رفضوا تمامًا هذا الطرح بالتحديد. فنحن نجدهم دائمًا ما يصيحون أن “الطبقة العاملة قد تغيرت”. فعلا، فقد تغيرت الطبقة العاملة من ناحية طبيعة الوظائف والملابس والأجر والجنسية والثقافة. ولكن الظروف الأساسية لوجودها تظل كما هي: فهي مازالت وليدة الرأسمالية، تتعايش من بيع قوة عملها ويتم استغلالها وتُكافح جماعيًا – في حين أنها نمت من ناحية حجمها وقوتها الكامنة بشكل رهيب. ففي أيام ماركس كانت البروليتاريا مُنحصرة في أوروبا الغربية، أما اليوم فتنتشر وتناضل في القارات الخمس من ساوباولو في البرازيل إلى سول في كوريا الجنوبية ومن كانتون في الصين إلى القاهرة. وهنا يكمن أمل الإنسانية.

إلا أن الخبرة التاريخية الطويلة والمُرة قد أظهرت أن الطبقة العاملة تستطيع أن تناضل، ولكن لتنتصر مطلوب تنظيم وقيادة وهذا يعنى أولا بناء حزب ثوري. بعبارة أخرى، إن الطبقة العاملة تحتاج تحديدًا كل الأشياء التي تنكرها الأناركية بكل أشكالها. وما أكثر المناسبات والأماكن التي ثارت الطبقة العاملة فيها ضد الرأسمالية: في باريس في 1848 و1871 و1936 و1968؛ وألمانيا في 1919-1923؛ وإيطاليا في 1919-1920؛ والصين في 1925-1927؛ وأسبانيا في 1936؛ والمجر في 1956 ضد رأسمالية الدولة الستالينية؛ وبوليفيا في 1952؛ وتشيلي في 1970-1973؛ والبرتغال في 1974، إلخ. ولكن، في كل مرة إما انحرفت الثورة أو هُزمت وسالت الدماء. وحتى الآن، لم يحرز لجانبنا إلا انتصارا واحدًا حقيقيًا – ولو مؤقتًا – هو الثورة الروسية عام 1917 – حتى اغتالتها الستالينية – وكان العامل الفارق فيها وجود حزب ثوري له جذور حقيقية وسط الطبقة العاملة.

وحزب كهذا لا يمكن أن ينشأ بين يوم وليلة. مرة أخرى أظهرت الخبرة أنه يكاد يكون من شبه المستحيل أن يُنشأ الحزب الثوري في خضم الأزمة الثورية وأنه من الأفضل أن يُنتهى من عناء إنشاءه قبل قيام الثورة. ولا بد له أن يجمع هذا الحزب أفضل عناصر الكفاح في الطبقة العاملة من كل مواقع العمل وكل الأحياء، بشكل مستقل عن الإصلاحيين وبيروقراطيي النقابات العمالية. علي الحزب أن يُسلح نفسه بالقدرة على توحيد بقية الطبقة في الصراع؛ عليه أن يتعلم كيف يتقدم وكيف يتقهقر، وكيف يعمل مع ناس خارج صفوفه وأحيانًا مع الإصلاحيين (وبالطبع مع الأناركيين) ومتى يضرب بالضربة القاضية. يجب أن يتعلم الحزب دروس التاريخ ويتدرب على تطبيقها اليوم.

وهنا، مرةً أخرى، يأتي دور الماركسية، كنقد للرأسمالية وكذلك كرؤية للمستقبل الاشتراكي، فالماركسية هي نظرية ومنهج لتعميم الخبرة التاريخية للصراع الطبقي. ولذا فالطريق إلى الأمام، لمن يريد أن يغير العالم، بناء الحركة العمالية وتنمية مقاومة العمال و، أثناء خوض هذه العملية، بناء حزب اشتراكي ثوري على أساس ماركسي.

« السابق التالي »