بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ملحمة اعتصام الضرائب العقارية

« السابق التالي »

16. الدروس السبعة المستفادة.. اعتصام الضرائب العقارية يبشر “بجنين” عقد اجتماعي جديد في مصر

بقلم الدكتور/ سمير غطاس

(مقال منشور بجريدة المصري اليوم)

قد يكون من المناسب أن نستهل هذه القراءة التحليلية لهذا الاعتصام بوضعه في إطاره السياسي العام وفقا للنقاط التالية

أولا:أن اعتصام العقارية جرى في الإطار العام للتحولات العميقة التي يشهدها المجتمع المصري خاصة علي المستويين السياسي و الاقتصادي والانتقال المتسارع ومن دون ضوابط لآليات اقتصاد السوق وكانت الدولة المصرية بعد فترة من المماطلة قد بادرت إلى إطلاق هذه العملية تحت وطأة الضغوط الخارجية والداخلية لتصحيح المسار الاقتصادي لمصر.

وأظهرت الدولة والحكومة في هذه الأثناء انحيازها الواضح لقوى رأس المال المحلى والأجنبي، بما فاقم كثيرا من الأزمات المعيشية لأغلب الطبقات الفقيرة من العمال والفلاحين والشرائح الصغيرة والمتوسطة من الموظفين.

وقد أحدث هذا كله إخلال بالتوازن الاجتماعي النسبي في المجتمع المصري وكان طبيعيا أن تنهض الطبقات المغبونة للدفاع عن مصالحها وحقوقها ولا يحق لأحد أبدا أن يصادر هذا الحق المشروع.

وقد يبدو هذا الكلام بديهيا ولكنه مع ذلك يثير نقاشا غير مسبوق، على ضوء تجربة اعتصام العقارية حول الخيارات التي يجب على المجتمع المصري أن يتوافق عليها لإدارة هذا الصراع الاجتماعي المرشح دائما للتفاقم والانفجار.

فهلا يمكن مثلا إطلاق العنان للفوضى بالاعتماد المتزايد على أساليب القمع والعنف لإدارة هذا الصراع، أم أنه يمكن أيضا على ضوء تجربة اعتصام العقارية اعتماد أساليب أكثر حضارية كما هو الحال في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة

أن الانحياز للخيار الثاني، يستوجب أولا ضرورة اعتراف الدولة والحكومة وأصحاب رؤوس الأموال بالحق المطلوب لكل الطبقات والشرائح الاجتماعية المصرية في ممارسة الإضراب والتظاهر والاعتصام السلمي واعتماد لغة التفاوض خيارا وحيدا لحل الصراعات والمنازعات التي من الطبيعي والمنطقي أن تنشا بين القوى الاجتماعية في ظل المتغيرات المشار إليها.

ثانيا:أن اعتصام العقارية يأتي أيضا في السياق العام لحركة تتسع باضطراد لممارسة الإضراب والاعتصام السلمي التي وصلت في بعض التقديرات إلى أكثر من 30 حالة في الأشهر القليلة الماضية، لكن اعتصام الضرائب العقارية يتميز بأنة تعبير عن أزمة شريحة من موظفي الدولة نفسها، وهو مؤشر مهم على الحالة المتردية التي وصلتها هذه الشرائح التي تمثل ما بين 7و9 ملايين موظف.

ولهذا يكون الوقت قد حان لفكرة تشكيل نقابة عامة للوظيفة العامة في مصر لأن تجربة اعتصام العقارية كشفت عن أن الإتحاد العام لعمال مصر، شبه الرسمي ليس هو العنوان المناسب الذي يمكن أن يتبنى مطالب الموظفين

ثالثا:إن تجربة اعتصام العقارية في هذا الإطار العام كشفت عن ملامح أولية لجنين لم يولد بعد لعقد اجتماعي جديد في مصر، ولهذا ينبغي إدارة حوار جدي بين كل القوى الاجتماعية في مصر لبحث أسس ومنطلقات هذا العقد الاجتماعي الجديد على ضوء التجارب المعاصرة للعديد من الدول الديمقراطية وفي هذا السباق يمكن ترشيح التجربة الايرلندية كنموذج على ما حققه في هذا المجال.

وبعد هذه المقدمة يمكننا الآن الانتقال لعرض سبعه من الدروس المهمة التي أفرزتها تجربه اعتصام العقارية من موقع المعايشة والمتابعة لهذه التجربة.

  1. تسييس الاعتصام ومطالبه الفئوية:

كان تنظيم هذا الاعتصام من اجل انتزاع مطلب فئوي يخص الضرائب العقارية (55 ألف موظف) والمطالبة بعودتهم إلى وزارة المالية لتحسين رواتبهم الضعيفة.

وسعيا لانجاز هذه المهمة، حرصت قيادة الاعتصام على تفادى التورط في تسييسه بالمعنى الشائع لذلك في مصر، فلم تسمح مثلا للنشاط من الأحزاب والحركات الاحتجاجية التي يفتقد اغلبها إلى قواعد جماهيرية، بركوبة موجة هذا الاعتصام وتحويله إلى سوق للمضاربة بالشعارات الحزبية، ومع ذلك كان هذا الاعتصام سياسيا بجدارة، ليس فقط لأنة نجح في إطلاق المبادرات المستقلة لهذه الشريحة الاجتماعية، وإنما أيضا لأنة نجح في ربط الشعارات السياسية الصحيحة بالشعارات المطلبية للاعتصام.

وقد تردد في جنبات هذا الاعتصام شعارات سياسية مهمة مثل:

(الإضراب مشروع مشروع ضد الفقر وضدالجوع)، (ولا ملامة في الإضراب والاعتصام لا ملامة)، (ياحكومة الأستثمار إحنا عايزين القرار)، (يارئيس الجمهورية…. العدالة الاجتماعية)، اربط اجري بالأسعار…. وما إلى ذلك من شعارات أخرى.

  1. الاعتصام……. والشرطة:

على غير العادة أظهرت قوات الأمن والشرطة سلوكا منضبطا، ولم ترفع عصاها الغليظة في وجه هذا الاعتصام واكتفت فقط بمراقبته.

وكان الاعتصام نفسه منذ يومه الأول رفع شعار (سلمية….. سلمية) ولم يتورط بدوره في أي سلوك صبياني لاستفزاز رجال الأمن بل على العكس سعى لتحييدهم، وخاطبهم بشعارات مثل (إحنا ولادكم ,,, وإحنا أخواتكم) ومن الضروري الآن البحث عن الوسائل التي لا تحصر هذا النموذج فقط في الإطار الأستثنائى وتعود أجهزة الأمن إلى سياسة القمع التقليدية، وربما لهذا يجب إعادة تأهيل كل قيادات الأجهزة الأمنية على ضرورة احترام حق المواطنين المصريين في التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي، والكف نهائيا عن نزعة القمع.

ولهذا فأن كل القوى في مصر: الدولة وخاصة أجهزتها الأمنية والحركة الوطنية والمطلبية مدعوة لاستخلاص هذا الدرس من خبرة اعتصام العقارية لأنه ربما كان السبيل الوحيد لإنقاذ السلم الأهلي للمجتمع المصري.

  1. المصريات لسن ناقصات لا عقل…. ولا دين:

كانت المشاركة الواسعة والنشطة لمئات السيدات من الموظفات في اعتصام العقارية، واحدة من أبرز الظواهر الايجابية في هذا الاعتصام، بعضهن شارك حيى في المبيت على الرصيف، وانخرطت الأغلبية منهن في تفعيل لجان الإعاشة، وبرزت من بينهن قيادات نسائية نشطة ممن شاركن في قيادة الاعتصام وقيادة الهتافات.

ومن الضروري الالتفات بكل جدية إلى هذه الظاهرة الايجابية على مستويين:

المستوى الأول:

ويخص المجلس النسوي الأعلى في مصر الذي يتعامل في الغالب مع نوعية محددة من النساء، فيما يجرى تهميش الأغلبية من النساء اللاتي يشبهن إلى حد بعيد نساء المعتصمات في تجربة العقارية.

المستوى الثاني:

فيخص التيار الأصولي الذي ينعت النساء عامة بنقص العقل والدين فيما شاهدنا على امتداد عشرة أيام كاملة مثل هذه المشاركة الفاعلة والنشطة لنساء موظفات يفقن في العقل والدين كل رموز هذا التيار الأصولي، ولم تكن النساء المصريات في هذا الاعتصام بحاجة أبدا لاستصدار فتوى بالاختلاط والمشاركة في كل الفعاليات.

  1. الانتصار لوحدة الهلال والصليب:

في اتجاه المعاكس تماما للحملات المشبوهة التي تطلقها بعض الصحف لللعب على المشاعر الطائفية، كان اعتصام العقارية قد تميز بالحرص على استعادة وحدة المسلمين والأقباط المصريين، إذ رغم الطابع الفئوي لهذا الاعتصام فقد شاهدنا بعض اللافتات التي تؤكد وحدة الهلال والصليب، كما جرى ترديد شعارات تحمل المعنى نفسه.وعلى المستوى العملي تجسدت هذه الوحدة في العلاقة الحميمة بين كمال أبو عيطة ومكرم لبيب عبد السيد أبرز قيادات هذا الاعتصام، وقد شاركا معا كتف بكتف في قيادة هذا الاعتصام في الشارع، وفي أدارة المفاوضات الصعبة مع وزير المالية في الحكومة وهذا يعنى أن الشعار الصحيح التي تستحقه مصر ويستحقه المصريين هو سعار (المواطنة هي الحل)

  1. الاعتصام والتنظيم الذاتي المستقل:

كان من أهم انجازات هذا الاعتصام التدريب السياسي والتربوي الذي خاضه بكل عفوية الموظفون المعتصمون، كان الاعتصام فرصة مواتية لإطلاق المبادرات الإبداعية المستقلة وتنظيم فعليات هذا الاعتصام على نحو ذاتي ومستقل خارج وصاية النقابات الصفراء والأحزاب التي تعيق وتعرقل إطلاق مثل هذه المبادرات المستقلة،

وفد بادر المعتصمون إلى تشكيل لجان ذاتية للإعاشة والأعلام والاتصالات والتفاوض، ولم يعد الأمر متوقفا على زعيم واحد أو قائد ملهم وكثيرا ما غاب من الاعتصام لفترات ليست بالقليلة قياداته، أبو عيطة ومكرم وعبدالقادر وغيرهم، ولم يتأثر كثيرا نشاط الاعتصام.

إن الدرس الذي ينبغي استخلاصه من هذه التجربة هو ضرورة رفع الوصاية عن الشعب المصري بدءا من المنزل ومرورا بالمدرسة والجامعة ووصولا إلى ولاية الدولة والحكومة والأحزاب لان تقدم مصر مرهون إلى حد بعيد بتحرير إرادة مواطنيها، وإطلاق مبادراتهم الإبداعية المستقلة وتشريع الحق في التنظيم وكل وسائل التغيير السلمي الأخرى.

  1. الإعلام وحماية الاعتصام:

كشفت تجربة هذا الاعتصام عن تنامي الدور الذي يلعبه الأعلام، ليس فقط على صعيد تعريف الرأي العام بقضايا المعتصمين ومطالبهم، وإنما أيضا على صعيد توفير نوع من السياج الحامي للاعتصام والمعتصمين، ورغم أنه لم تحدث في هذا الاعتصام أي احتكاكات بين أجهزة الأمن والاعتصام فأن الحضور شبه الدائم للاعتصام لعب دورا رادعا في وجه احتمالات انفلات النزعة القمعية من عقالها.

  1. إدارة المفاوضات ونظرية لي الذراع:

رغم قشرة الحداثة التي تغلف توجهات الحكومة المصرية، فان عقلها السياسي مازال محكوما بالمنطق التقليدي الموروث والمحافظ فيما تلوى هذه الحكومة أعناق المواطنين، تحت وطأة توحش الأسعار، فإنها تصر على المعاندة أو الاستجابة للمطالب المشروعة للشرائح الاجتماعية في مصر ٍوذلك بدعوى عدم الرضوخ لما تسميه سياسة (لي الذراع).

ولم يعد اعتماد هذا المنطق المتخلف جائز ولا مقبولا، لأن كل عناد من الحكومة سيقابل بمزيد من التصعيد، ولهذا ليس هناك من بديل آخر إلا الاعتماد على مبدأ التفاوض.

وكانت تجربة الاعتصام قد كشفت عن قدر غير قليل من المهارات التي أديرت بها عملية المفاوضات الشاقة مع الحكومة، كالقدرة على الحشد واختيار أسلوب الاعتصام، وتجنب المغامرات الصبيانية، واعتماد طول النفس والتصعيد المتدرج والمحسوب مثل الامتناع عن التحصيل وإغلاق المكاتب وتسليم المفاتيح لقيادة الاعتصام، وجمع العرائض.

وكانت الحكومة بعد فترة من العناد قد عرضت لجدولة مطالب المعتصمين على ثلاث مراحل مؤجلة.

وعند هذا المفصل قدم هذا الاعتصام نموذجا مميزا لإدارة الصراع والمفاوضات فتم عرض اقتراح الحكومة علنا على المعتصمين واجري عليه تصويت ديمقراطي، أسفر عن رفضه، وتقرر لذلك استمرار الاعتصام.

ثم خاضت لجنة المفاوضات جولات أخرى مع الحكومة أسفرت في النهاية عن تحقيق أهم مطالب الاعتصام ,

وقد يخشى أنصار نظرية (لي الذراع) في الحكومة من مغبة تكرار ما حدث في هذا الاعتصام من مواقع أخرى، والسؤال هو ولما لا ؟

والمهم هو أن تتوافق جميع القوى على عقد اجتماعي جديد، يرتكز على إطلاق حريات المواطنين وعدم تقيدها، خاصة الحق في التنظيم المستقل وكل أشكال التعبير، بما في ذلك التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي واعتماد المفاوضات خيارا وحيدا لإدارة الصراعات والتعارضات والمنازعات واقتراح هيئة تحكيمية عليا مستقلة تلجأ لها كل الأطراف إذا ما استعصى عليها حل خلافاتها عن طريق التفاوض

ومن بين الشعارات الكثيرة التي تردد صداها في هذا الاعتصام أعتز كثرا بشعار يقول (وسع وسع وسع…. خلىالورد في مصر يفتح)، (همه يشموا الورد……. وإحنا نموت من البرد)

« السابق التالي »