كارل ماركس – النظرية والممارسة
مولد “المناضل الجريء”
كان كارل ماركس ثورياً. وقبيل وفاته، ردد بضع مرات قوله أنه حين ينظر لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم ماركسيين، يتساءل إن كان هو نفسه ماركسي. ومنذ وفاته عام 1883، استُخدِمَ اسم ماركس، في مناسبات عدة، كمبرر للاستبداد والاستغلال – أي الاستراتيجيات التي كانت تماماً عكس كل آمن به. ظل “البيان الشيوعي” الذي كتبه مع رفيق عمره فريدريك إنجلز متصدراً قائمة الكتب الأكثر مبيعاً حتى نهاية تسعينيات القرن العشرين، وفي بداية القرن الحادي والعشرين، أظهر استطلاعٌ للرأي بين جمهور البي بي سي أن ماركس لا يزال محتفظاً بمكانته كأعظم فيلسوف عبر العصور.
لكن، وصفه بالفيلسوف ليس وصفاً دقيقاً، خاصة بعد قوله أن: “كل ما فعله الفلاسفة هو تفسير العالم؛ لكن الأهم هو تغييره”. لقد مثّلت هذه العبارة الشهيرة علامة فارقة ولحظة حاسمة في تطور فكر ماركس نفسه، اللحظة التي تحول فيها من فيلسوف إلى مفكر ثوري.
وُلِدَ كارل ماركس عام 1818، ابناً لعائلة يهودية ميسورة الحال ببلدة ترير، في راينلاند بألمانيا. كانت جيوش نابليون قد احتلت البلدة لفترة وجيزة في مطلع القرن، قبل أن تعود مرة أخرى تحت سيطرة الدولة البروسية بحكمها الملكي المستبد. كانت إقامة نابليون بالبلدة قصيرة، لكنه خلّف وراءه بعض الأفكار حول الحرية والتغيير، أفكار ومبادئ الثورة الفرنسية.
هيرشيل، والد ماركس، كان يحفظ عن ظهر قلب كتابات فولتير وروسو، وكان معروفاً بتصريحاته العلنية في المناسبات العامة حول ضرورة وجود نظام سياسي ممثل بشكل صحيح، فضلاً عن شجبه للتمييز الذي عانى منه اليهود في بروسيا. هاينريش (بعد أنّ بدّل ديانته من اليهودية إلى البروتستانتية وغير اسمه) لم يكن ثورياً – لكنه لم يكن في مأمن من رياح التغيير التي هبت على كل أرجاء أوروبا في ذلك الحين. ولم يكن بوسع كارل الشاب إلا أن يتأثر ببعض أفكار أبيه الليبرالية.
أصر الأب أن يدرس كارل القانون. وبحلول عام 1835، في عامه السابع عشر، بدأ ماركس دراسة القانون في جامعة بون. لكن الحقيقة أنه كان مهتماً بالشعر والنبيذ والفلسفة أكثر (ليس بالضرورة بنفس الترتيب). إلى حد ما كان هذا تأثراً بلودفيج فون ويستفالين، أحد أصدقاء العائلة الأثرياء، الذي عرّف كارل الشاب على شكسبير وشعراء اليونانية. (في عام 1843، ستصبح ابنته، جيني، زوجة ماركس ورفيقته مدى الحياة).
لم يكن حماس ماركس للفلسفة حماساً دراسياً فقط. فعندما كان طالباً، كانت النقاشات الفلسفية فرصة جيدة للفت الانتباه لقضايا المجتمع والتاريخ وتطور الإمكانات البشرية. ولقد هيمن فيلسوف بارز على كل تلك النقاشات الشغوفة، وهو هيجل. كان هيجل واحداً من المؤيدين المتحمسين للثورة الفرنسية؛ وكان مؤمناً بأن العالم سيدخل عصراً جديداً عندما يبدأ العقل في تطوير العلاقات الإنسانية. لكن عندما جاء الوقت الذي اختلف فيه ماركس مع أفكار هيجل، كان الأخير قد أصبح من المفكرين المحافظين، مقتنعاً بأن الله يمثل المنطق المطلق – وأنَّ الدولة البروسية – القمعية السلطوية – هي أوضح تعبير عن هذا المنطق الإلهي.
قَدم ماركس من ترير ومعه أفكاره الليبرالية، لذا فقد لفت انتباه مجموعة من شباب الطلاب كرّسوا جهودهم “للتغيير بالأفكار” – الهيجليين الشبان. هيجل، الذي كان ثورياً في وقت سابق، هو من اقتدوا به. كانوا ليبرالين ملحدين وبوهيميين وصحبة مناسبة جداً للشراب، تماماً مثلما كان ماركس عندما انتقل إلى برلين وانضم لنادي الأساتذة، حيث كان ذو لحية وشعر طويل وهي علامات متعارفة ومقبولة عن المفكر الراديكالي.
كان الهجيليون الشبان والمحيطون بهم متفقين في عدائهم للاستبداد القمعي للدولة البروسية؛ فبالنسبة لهم كانت الثورة الفرنسية تعني التنوير والتغيير والأفكار التقدمية التي من شأنها تحويل ألمانيا الإقطاعية إلى الرأسمالية الديمقراطية الحديثة. في ذلك الوقت كان ماركس قد تخطى بالفعل الأفكار التي سبق وأن تأثر بها في تجمعات والده المنزلية. رغم ذلك فإن معارف والده من رجال الأعمال التقدميين وأمثالهم كانوا هم من موّلوا جريدة “راينش تسايتونج” التقدمية التي عارضت استمرار الشكل الإقطاعي للدولة البروسية، وهي الجريدة التي بدأ ماركس في تحريرها فور عودته لترير عام 1841.
وكان لحادثة صغيرة أثراً في تطور تفكير ماركس. فكان قد أُلغي مؤخراً حق الفلاحين التقليدي في جمع الأخشاب من الغابة بموجب قانونٍ جديد عرّف هذا الفعل بأنه سرقة لأن تلك الأخشاب ملكية خاصة. وافق ورحب بهذا القانون كل من ملاك الأراضي والطبقة الصناعية الجديدة ممن موّلوا إصدار جريدته. وهكذا بدا الأمر، فالاقتصاد الرأسمالي الجديد القائم على الملكية الخاصة عاجز عن توفير أية ضمانات للفقراء والأجراء. وعلى نفس المنوال، أدرك ماركس أن الدولة التي وُجِدَت لتحمي الملكية الخاصة لن تحمي الطبقة العاملة.
بالنسبة لماركس، كانت تلك هي الخطوة الأولى نحو إدراك المجتمع من منظور طبقي. وحينما نشر بعض أفكاره الجديدة على صفحات جريدته، كانت فرصة جيدة لأن يُظهِر رقيب الدولة البروسية اعتراضه ويمنع نشرها، ويتخلص من “وقاحة المحرر المتزايدة”. ولاقت بقية الصحف التقديمة الألمانية نفس المصير. كان الوقت قد حان للمضي قدماً، وبعد هنيهة انتقل ماركس وجيني، زوجته، إلى باريس. عائلة جيني الأرستقراطية لم تكن سعيدة بالصحفي المفلس المتطرف الذي ربطت ابنتهم مصيرها به. لكن موقف العائلة لم يمثل شيئاً لهما.