بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

كارل ماركس – النظرية والممارسة

« السابق التالي »

عشرة أيام هزت العالم

في عام 1844، التقى ماركس لأول مرة بأكبر معاونيه فريديريك إنجلز. باعتباره ابناً لأحد الصناعيين، قضى إنجلز بعض الوقت في مصنع والده في مانشستر، واختبر عن قرب “أحوال الطبقة العاملة” – فقرهم واستغلال مصانع الشمال الجديدة لهم، بؤس أولئك الذين يقودون الآلة الإنتاجية للرأسمالية الصناعية. كان إنجلز أيضاً على اتصال وثيق بالحركة الجماهيرية المتنامية – الحركة التشارتية – والتي كانت بداية لتنظيم الطبقة العاملة لمقاومة أهوال المجتمع الجديد.

كان الشابين (كان ماركس يكبر إنجلز بثلاث سنوات) قد تعرفا بالفعل على كتابات بعضهما البعض قبل لقاءهما في أغسطس في باريس، أي أن هذا كان لقاء العقول، أول لقاء بين الثوريين الاثنين اللذين اقتنعا بأن مهمتهما هي بناء وتطوير رؤية شيوعية جديدة للعالم يمكنها تحفيز النضال الثوري للطبقة العاملة. ولكن أولاً كان أمامهما معركة كسب الحركة العمالية، خاصة في وجود آولئك الذين لا يزال لهم نفوذ بين العمال الألمان. الجدل المستمر، والغامض في بعض الأحيان، حول العائلة المقدسة كان يدور بين أوساط الهيجليين الشبان الذين رافقوا ماركس في البدايات المبكرة من رحلته، الآن يعرّف ماركس وإنجلز نفسيهما من خلال رفضهما لمناقشة تلك الأفكار إلا في سياقٍ سياسي.

“ليس بمقدور الأفكار وحدها تنفيذ شيء على الإطلاق. إن تنفيذ الأفكار بحاجة لرجال بمقدورهم ممارسة القوة العملية”.

منذ هذه اللحظة فصاعداً، كرّس ماركس وإنجلز جهودهما لبناء المنظمة التي بوسعها التحضير للثورة، والتي سماها إنجلز “حرب الفقراء المفتوحة ضد الأغنياء”. ولم يخف نشاطهما عن أعين مخبري السلطة وعملائها سواء في فرنسا، حيث لا يزال يعيش ماركس، أو في ألمانيا حيث كان إنجلز يتحدث إلى المجموعات السياسية والعمالية. منعت السلطات الفرنسية في أواخر عام 1844 نشر جريدة “فوروارتس” الناطقة بالألمانية، والتي كان ماركس أحد كتابها؛ وفي غضون أسابيع قليلة لاحقة، تحديداً في فبراير 1845، طُرد ماركس من فرنسا تحت ضغط من السلطة الألمانية. وبعد مرور شهرين على تلك الواقعة، غادر إنجلز ألمانيا متيقناً أن أمراً مماثلاً بشأنه كان في طريقه للحدوث بالفعل.

التقى الثوريان مرة أخرى في بروكسل، حيث كان لا يزال هناك قدراً من التسامح السياسي، وإن ظلا تحت أعين البوليس السياسي دائماً. كان ماركس قد صاغ بالفعل أطروحاته حول فيورباخ والأيديولوجيا الألمانية. يقوم العمال بالثورات في ظروف حقيقية ملموسة – ووفر إنجلز الدليل الحي من كل من نضالات العمال والظروف المادية التي وصفها ماركس بالفعل في مخطوطات عام 1844. الفلسفة – التعامل مع العالم من خلال الأفكار – استُبدِلَت الآن بالتطبيق العمالي للثورة، وبناء الوسائل والأدوات التي بمقدورها إسقاط الرأسمالية ووضع حد للاغتراب، أي أن تكون الماركسية هي نظرية وممارسة الثورة العمالية.

أوضح كلٌ من ماركس وإنجلز رؤيتهما الجديدة تلك في الأيديولوجيا الألمانية، التي عرفّت الشيوعية بأنها “مبادئ وشروط تحرر الطبقة العاملة”. أطروحات مخادعة في بساطتها عن فيورباخ، فقط ثلاثة صفحات وأحد عشر تعريفاً واضحاً، بينوا بجلاء مثير التغيير الذي يصنعه الرجلان. لطالما جادل الهيجليين الشبان بأن الأفكار والوعي هما الدافع للأفعال؛ ولهذا السبب ازدروا واحتقروا إضراب عمال النسيج بسيسيليا، لأنهم لم يكونوا “على قدر كاف من الوعي” بعد. وبنفس القدر من الازدراء والاحتقار، كان رد ماركس بأن الوعي هو جزء من دورة الحياة وأنه من أجل تغيير العالم، يغير البشر تفكيرهم. والعملية التاريخية، يقول ماركس: كانت “التقاء بين تغيير الذات وتغيير الظروف”.

“ليس الوعي هو ما يحدد الوجود الاجتماعي، بل الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي”.

الخلاصة، والكلمة الأخيرة جاءت في نهاية “أطروحات عن فيورباخ” وعبّرت بقوة وبساطة عن صميم الفكرة الشيوعية: “كل ما فعله الفلاسفة هو تفسير العالم؛ المهم هو تغييره”.

ومنذ تلك اللحظة، كان هذا هو المشروع الذي كرّس من أجله، كلٌ من الرجلين، حياتهما وطاقاتهما.

في عام 1845، رافق ماركس إنجلز إلى إنجلترا، حيث التقى مع قادة التشارتيين وآخرين غيرهم، وكانا مصرين على الدعوة لاجتماع يضم جميع الاشتراكيين الذين يعيشون في لندن. وعلى الرغم من عدم مشاركتيهما، إلا أن هذه الدعوة قدمت لمحة عن ما هو مقبل في المستقبل. شدد الرجلان على الطابع العالمي للرأسمالية، وقالا أن رد فعل موحد للطبقة العاملة قادر على أن يعبر الحدود. وبالعودة لبروكسل، نجد أنهم قد شكلوا لجان المراسلة الشيوعية، طليعة الأممية؛ التي كان الغرض منها بدء عملية “كسب البروليتاريا الأوروبية على مبادئنا وقناعتنا”.

ويمكننا القول بأن تلك كانت نواة لحزب سياسي جديد قادر على الاتصال المباشر بنضالات الطبقة العاملة. وعلى الرغم من بديهية الفكرة، يجدر هنا الإشارة إلى أن الإيمان بأن على الثوريين العمل مع وداخل الطبقة العاملة، حيث أن عملية تحريرها هي الدافع للثورة، لم يؤمن بها كل أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم شيوعيين.

في هذه المرحلة، في حين أن ماركس، بشكل خاص، لم يتراجع عن كتاباته الدورية، كانت مسألة التنظيم هي ما تشغله هو وإنجلز. وبينما لم يكن بمقدور أحد التنبؤ بأحداث 1848 الثورية، إلا أنه كان هناك تغيراً في الأجواء بالفعل حيث جمعوا قادة الاشتراكية الأوروبية معاً لتحديد طبيعة علاقتهم بحركة الطبقة العاملة. فعلوا هذا، كما فعلوه دائماً، من خلال مناقشات حادة وعنيفة داخل الحركة مع التيارات الأخرى التي كانت أفكارها من شأنها أن تؤدي إلى أشكال تنظيمية أخرى مختلفة تماماً. أفكار برودون، على سبيل المثال، بيّنت قناعات الحرفيين والعمال المهرة ودفاعهم عن قضية إنشاء جمعيات تعمل خارج دوائر رأس المال. لكن برودون نفسه كان رافضاً للنقابات العمالية و”معادٍ للثورة”. الأفكارالأخطر صدرت من أناس مثل “فيتلينج” الذي، مثل أوجست بلانكي الفرنسي، كان غير مقتنعٍ بأن العمال مستعدون للثورة الآن، إلا إذا أُلقيت المهمة على عاتق مجموعات تآمرية صغيرة تعمل بالنيابة عنهم. إلا أن لم كل ذلك لم يؤدِ إلى تثبيط همة ماركس وإنجلز.

في أواخر عام 1846، جذبت أفكارهما متعاطفين جدد، خاصة داخل رابطة العدالة بلندن والتي تأثرت بالتشارتيين أكثر من الروابط والفرق الأوروبية الأخرى. كانت هناك بعض الشكوك حول “المثقفين القاريين” الذين بدوا مهيمنين على أوروبا؛ ولكن القضية الأهم بالنسبة لماركس وإنجلز كانت إنشاء “الحزب”، أو على الأقل شكلاً جماعياً من أشكال التنظيم.

كانت تلك هي الطريقة التي ستجعل أفكارهما مقبولة. لقد حرضا من بروكسل على عقد اجتماعات دورية للجان المراسلة وبدءا مناقشات حول قضايا الاستراتيجية والتكتيك؛ على سبيل المثال، كيفية تواصل الشيوعيين الألمان مع الليبراليين الإصلاحيين. هذا النشاط كان أبلغ رد على اتهام ماركس وإنجلز بأن أداءهما مثل المثقفين. مع زيادة حدة التوتر في ألمانيا، واستمرار الحركة التشارتية في إنجلترا في النمو، استغرق الرجلان بالكامل في قضية التنظيم السياسي – وكانت كتاباتيهما تساهم في هذه المهمة الأساسية.

في 1 مايو 1847، دعا فرع العصبة في لندن لعقد مؤتمر أممي في لندن. لم يستشيروا ماركس وإنجلز في هذا الأمر، ولكن أرسلوا مبعوثاً إلى بروكسل لإقناعهما بالإنضمام للعصبة وحضور اجتماع مايو. وكان هذا دليلاً واضحاً على نفوذهما السياسي المتزايد داخل الحركة. عُقد الاجتماع في أوائل يونيو 1847؛ وكان بمثابة المؤتمر الأول لرابطة الشيوعيين الجديدة، التي عرّفت نفسها في الكلمة الافتتاحية “نهاجم النظام الاجتماعي القائم والملكية الخاصة، وهدفنا مجتمع الملكية العامة”. وكان شعارها “يا عمال العالم، اتحدوا”.

لم يتمكن من حضور المؤتمر سوى إنجلز ومعاونه الوثيق ويليام وولف؛ بينما بقى ماركس في بروكسل. ورغم ذلك كان تأثير حزب ماركس وإنجلز بادياً بوضوح، كما ازداد نفوذهما مع عقد المؤتمر الثاني للعصبة في نوفمبر من نفس العام. وفيما يخص الرابطة، فقد أخذت أهدافها في الوضوح أكثر فأكثر. حيث وصفها إنجلز قائلاً:

“الشيوعية حركة وليست مذهباً؛ تنبثق من الحقائق لا من المعتقدات. وبقدر ما هي نظرية، بقدر ما هي تعبير نظري عن موقف البروليتاريا داخل هذا الصراع.. وشروط تحررها”.

حضر المؤتمر المنعقد في نوفمبر وفود العديد من الدول تناقشت لمدة عشرة أيام حول نوع الحركة التي هم بصدد بناءها. ماركس وإنجلز كانا من بين الحضور، وعند التوصل لاتفاق نهائي في نهاية المطاف، كانا هما اللذين كُلِفَا بكتابة البيان التأسيسي للمنظمة الجديدة. في بروكسل بدا ماركس متردداً، أو متأخراً في الكتابة – وهو الرجل الذي باستطاعته كتابة مئات الصفحات في فترة وجيزة. لكن الموعد النهائي المتفق عليه في لندن دفعه للعمل. هكذا، في أواخر عام 1848، كان البيان الشيوعي في طريقه للمطبعة، ورغم أن ماركس كتب الجزء الأكبر منه لكنه حمل اسميهما معاً – ماركس وإنجلز. وبوصوله للشارع، وفقط خلال أيام قليلة لاحقة اجتاح اللغط أوروبا.

« السابق التالي »