بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

كارل ماركس – النظرية والممارسة

« السابق التالي »

الانتقال إلى باريس

رحل عدد من المنفيين إلى باريس، حيث يمكن نشر الأفكار التقدمية عبر جريدة جديدة. في أكتوبر، دعا ماركس الفيلسوف لودفيج فيورباخ لكتابة مقال حول أن الأفكار هي نتاج الوجود الاجتماعي وليس العكس. ولقد كان المقال مهماً وملهماً للغاية، وأمدّ ماركس بالزخم اللازم للمضي بأفكاره لما هو أبعد من هيجل والهيجليين الشبان. كانت النقاشات، حتى تلك اللحظة، مجردة إلى حد ما، لكنها وضحت أن تغير العالم هي عملية مادية، تغيير جذري للشروط الفعلية للحياة؛ وفي سياق تلك العملية تنشأ أفكار وإمكانيات جديدة.

هذا التغير في تفكير ماركس، لم يكن مجرد طفرة فكرية. ففي فرنسا وجد نفسه وجهاً لوجه مع حقيقة واقع الطبقة العاملة في المجتمع الصناعي النامي، حيث الأفكار الشيوعية والاشتراكية متأصلة ومتجذرة بالفعل. ليس فقط وسط الطبقة العاملة الفرنسية، ولكن أيضاً في أوساط ما يقرب من أربعين ألف عامل ألماني من المهاجرين هناك. لقد تأثر ماركس بـ “حيوية وعظمة” هؤلاء العمال.

“من بين “برابرة” مجتمعنا المتحضر يعمل التاريخ على إعداد العنصر الأساسي لتحرير الجنس البشري”.

واجهت الجريدة مشكلة وحيدة؛ فالنسخ التي أُرسَلت سراً إلى ألمانيا أثارت غضب الرقابة الحكومية. وسرعان ما صدرت الأوامر بالقبض على ماركس وآخرين، وتملك الخوف من الناشرين. ولم تكن تلك هي المرة الأولى، وبالتأكيد لم تكن الأخيرة، التي يجد فيها ماركس نفسه أمام فرص قليلة وميزانية أسرية متضائلة. لكن من منظور آخر، كانت تلك بمثابة فرصة جيدة وغير متوقعة لقراءة وتطوير أفكاره أثناء المناقشات الكثيرة والغاضبة بينه وبين أعضاء الحركة الآخرين. لم يكشف عن مذكراته حول تلك الفترة في باريس إلا بعد مرور وقت طويل، عندما نُشرت تحت عنوان “مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية” (أو مخطوطات باريس).

في ذلك الوقت كان ماركس في السادسة والعشرين من عمره. لكن هذه الكتابات عكست طفرة فكرية للأمام في فهمه لتجربة العمل في المجتمع الصناعي الرأسمالي. ولم يكن “الاغتراب” مصطلحاً من اختراع ماركس؛ لكن بينما فسر فلاسفة مثل هيجيل الاغتراب بوصفه حالة نفسية أو سمة من السمات المشتركة بين جميع البشر، فإن ماركس أرجعه للظروف المادية للعمل:

“بقدر ما ينتج العامل من سلع أكثر بقدر ما يصبح هو نفسه السلعة الأبخس ثمناً. ويوازي انهيار قيمة العالم الإنساني تنامي قيمة العالم المادّي.. إذ أن في انتزاع المنتوج اغتراب للعامل وإقصاء له. فالعمل لا ينتج سلع فحسب، بل إنه ينتج ذاته أيضاً، وينتج العامل باعتباره سلعة. إن شعور العامل بالاغتراب تجاه ما ينتجه يعني أن الشيء الذي ينتج بالعمل، يقف الآن في مواجهة العمل ككائن مغرَّب، كقوة مستقلة عن المُنتج. إن نتاج العمل هو العمل الذي تجسد في موضوع وتحول إلى شيء مادي، وبالتالي، فإن العامل لا يحقق ذاته في عمله، بل ينفي ذاته، ويكون لديه شعور بالبؤس أكثر من شعوره ككائن طبيعي”.

وهذا التناقض الكبير يعد واحداً من أسس نظريات ماركس؛ حيث يعيد البشر تشكيل العالم ويبتكرون وسائل تحريرهم عن طريق العمل. لكن، في ظل الرأسمالية، يُبعد العمل إلى حد كبير العمال المنتجين عن تلك الحرية المحتملة، لأن ما ينتجونه يُنتزع منهم ومن ثم يُباع ويُشترى كسلع، بعيداً عن سيطرتهم. وهذا كله بسبب العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع – النظام الطبقي الذي يمنح طبقة واحدة الحق في تملك الإنتاج، في حين أن الطبقات الأخرى، أي الغالبية التي تنتج السلع، لا يمتلكون شيئاً باستثناء أجسادهم وقوة عملهم التي تشتريها وتبيعها الرأسمالية كما لو كانت مجرد سلعة. ولا تحدد احتياجات المجتمع ما يُنتَج، ولكن تحدده رغبة صاحب المصنع في مراكمة الأرباح.

وبذلك تكون الوسيلة الوحيدة أمام العمال للتغلب على الاغتراب هي نضالهم ضد الرأسماليين. في نفس العام، ضرب نضال عمال النسيج في سيسيليا بألمانيا مثلاً حياً لماركس لقدرة العمال على محاربة النظام. وبالنظر إلى الحال في بلده، أدرك ماركس أن طبقة الرأسماليين وملاك المصانع ضعيفة بشكل لا يهيئها لتحدي الدولة وهزيمتها وانتزاع السلطة منها كما فعلت نظيرتها الفرنسية عام 1789.

ولهذا، فإن الطبقة العاملة وحدها القادرة على التغيير. عندما كان يجادله بعض معاصريه ويسوقون حجتهم الأثيرة بأن العمال الألمان ليسوا على قدرٍ كافٍ من الوعي السياسي، كان ماركس يجيبهم بازدراء قائلاً أن لديهم ما يكفي من الوعي الطبقي، ويستشهد خلال ذلك بالمعارك التي خاضها عمال النسيج في سيسيليا كدليل دامغ على وجهة نظره. إن دفاع ماركس الشغوف عن عمال النسيج أوضح مقدار المسافة التي قطعها ماركس بعيداً عن زملاء السنوات الأولى.

لقد ساهمت دراسة الاقتصاديين الإنجليز، الذين وصفوا طريقة عمل نظام الإنتاج الرأسمالي، في تقديم منحناً جديداً في فهم ماركس. حيث بدأ الآن في الحديث عن “التحرر الذاتي للطبقة العاملة”، أي أن فهمه لطبيعة النظام كان في خدمة قضية الثورة. والتاريخ، كما يعرفه ماركس الآن، كانت تقوده دائماً قوى اجتماعية تسعى لغايات اقتصادية – وليس أية قوة خارجية أخرى، سواء كان الإله أو العقل والمنطق. في نقده للدين، سار الفيلسوف لودفيج فيورباخ في نفس اتجاه ماركس لبعض الوقت؛ ولكن كان أمام ماركس مسافة أخرى ليقطعها، ليؤكد أن التاريخ يتأثر بعمل الإنسان، وأن التحول في الإدراك الإنساني يتمثل في النضال من أجل تغيير العالم المادي وظروف الإنتاج.

« السابق التالي »