كارل ماركس – النظرية والممارسة
تعد واحدة من أعظم إنجازات ماركس وإنجلز كتابتهما للعمل الذي عبرّ بوضوح عن الروح الثورية لعام 1848 حتى من قبل أن تتحقق. وهو دليل على النهج السياسي الذي اعتمداه كنقطة إنطلاق لهما نحو الواقع المادي في ذلك الوقت، فضلاً عن تحديد التوترات والصراعات الكامنة في العمق، التي بالكاد ترى. لقد رأوا، كما جاء في الافتتاحية الشهيرة للبيان الشيوعي أنّ:”شبح يخيم على أوروبا. شبح الشيوعية”.
لم يكن كتيباً سياسياً معتاداً؛ بل كان بياناً عميقاً يحمل رؤية. ولقراء القرن الحادي والعشرون، ولكل الذين قرأوه منذ كتابته وحتى الآن، يبدو البيان معاصراً بشكل مذهل. فهو يصف العالم كما ندركه اليوم، لكن عندما كتب البيان الشيوعي كان العالم لايزال في مراحله الأولى.لقد كانت الرأسمالية الصناعية التي استوعبها ماركس بتبصر وعمق فقط في المرحلة الأولى من تطورها المحموم. لقد كشفا النقاب عن الاستغلال المقيت الذي هو أساس النظام برمته، والأثر اللاإنساني المهين الناتج عن الرغبة في مراكمة الأرباح؛ ومع ذلك، فقد فعلا الكثير قبل أن يدركا بالفعل مدى تأثيرهما الكبير على الأجيال اللاحقة.
“البرجوازية لا تستطيع البقاء دون التثوير المستمر لأدوات وعلاقات الإنتاج.. هذا الانقلاب المتواصل في الإنتاج، والتزعزع الدائم في كل الأوضاع الاجتماعية، والقلق وعدم الاستقرار الدائمان، كلها أمورٌ ميزت البرجوازية عمّا سبقها من العصور. فالعلاقات الجامدة، البالية، مع كل ما يتعلق بها من إنحيازات وأفكار قديمة مهيبة، تتفكك كلها، وكل جديد ينشأ سرعان ما يصبح عتيقاً قبل أن يشتد عوده، كل ما هو قائم يتبدد هباء، وكل ما هو مقدس يدنس، ويجد الناس في نهاية الأمر أنفسهم مجبرون على النظر لأوضاعهم المعيشية، وعلاقاتهم المتبادلة بمزيد من التبصر.
والبرجوازية في حاجة لسوق واسع دائم لتصريف منتجاتها في جميع أرجاء الكرة الأرضية، لذا عليها أن تعشش وتتجذر وأن تبني علاقات في كل مكان”.
يتطلب هذا جهداً من جانب القاريء ليتذكر أن هذا العمل كُتب قبل أن تبدأ عملية التنقيب عن النفط في ابتلاع الشرق الأوسط وتحويله إلى ساحة حرب لمصالح الجانب الآخر من الكوكب، وقبل أن تترك نايك وكوكاكولا بصاماتهما على آلاف الثقافات المختلفة، كُتب قبل إنشاء بورصة لندن لتدمر حياة ملايين البشرعلى بعد آلاف الأميال. ومَكمن القوة الهائلة هنا ليس نابعاً من دقة التحليل فقط، ولكن يتجلى في الوصف الدقيق لطريقة عمل النظام الرأسمالي والقوى الدافعة له. في النهاية، إنه بيان شيوعي، لم يُصاغ ليشيد بالرأسمالية، ولكن ليدفنها. لكن، من هم حفارو قبرها؟
الإجابة على هذا السؤال تَرِد بعد قليل في البيان ذاته. فعندما برزت الرأسمالية من المجتمع القديم ابتلعت ورش العمل الصغيرة لحسابالمصانع كبيرة، وحولت صغار المزارعين والفلاحين إلى عمال في نظام الإنتاج المكثف للمزارع الحديثة التي تلبي احتياجات المدن النامية، كما أزاحت المجموعات التجارية الوطنية والدولية المتنامية صغار التجار جانباً. كل هذا قد ذاب لصالح الصناعات الناشئة داخل وحول المدن.
“يتم تنظيم جموع العمال في المصانع تنظيماً عسكرياً. فالعمال، جنود الصناعة البسطاء، يوضعون تحت رقابة تراتبيّة كاملة، من ضباط وصف ضباط. هم ليسوا عبيداً الطبقة والدولة البرجوازية فحسب؛ بل هم أيضاً في كل يوم وفي كل ساعة عبيداً للآلة، ولمراقب العمل، وقبل كل شيء عبيداً للبرجوازي صاحب المصنع نفسه”.
في البداية، ضغطوا عليهم للانتقال من عمل إلى آخر، وبسبب تخويف وتهديد أصحاب المصانع وملاحظي العمال، لم يقاموا بشكل منظم، رغم أنهم من وقت إلى آخر، وتحت وطأة الغضب والألم، قاموا بتحطيم الآلات.المفارقة هنا، بالطبع، أن الآلة ليست العدو – أنها من فقط وسائل خدمته. والتناقض كما فسره ماركس بوضوح أنه؛ كلما زادت قدرة البشر على الإنتاج، كلما اقتربوا من إمكانية التحرر من عبودية العمل. لكن الرأسمالية انتزعت هذا الحق، والميكنة، التي حلت محل تحرير البشر، استعبدتهم أكثر وأكثر.لكن أيضاً هناك شيءٌ آخر يحدث، البروليتاريا، الطبقة العاملة، لا تُدفع صوب المدن فحسب؛ أنها تتركز أكثر وأكثر كلما أصبح الإنتاج آلياً وأكثر تطوراً. وهذا يمنح العمال القوة الجماعية التي تمكنهم من تنظيم أنفسهم ومواجهة أصحاب الآلة.
كتب ماركس البيان الشيوعي في بروكسل، وكتب الجزء الأكبر منه وهو جالس في مقهى الببغاء الأزرق بالميدان الرئيسي. أُرسل البيان للطباعة في فبراير 1848؛ وحال وصوله للشارع، تواردت الأنباء من فرنسا حول متاريس وإقتتال في الشوارع؛ وأن رئيس الوزراء المكروه “جيزو” قد تقدم بإستقالته وفي صبيحة اليوم التالي تبعه الملك بالتنازل عن العرش. وفي غضون أسابيع لاحقة، كانت روح الثورة والتمرد قد حلت على برلين وسقطت حكومة أخرى. وبحماس كتب إنجلز: “لهيب إشتعال القصور الملكية الفرنسية يضيء فجر البروليتاريا.. تنهار الآن في كل مكان سيطرة البرجوازية.. وفي إنتظار، كما نأمل، أن تتبعهم ألمانيا”.
أثارت الحرائق التي إندلعت في أرجاء أوروبا خوف السلطات في بروكسل، وأدى هذا لوضع نهاية مفاجئة لتسامحها مع ماركس. وبحلول شهر مارس، طُرد ونُفي إلى باريس، حيث أعلن ماركس الآن أنها ستكون مقر العصبة الشيوعية.انضم له إنجلز هناك، وبدأ الرجلان في التحضير للعودة إلى ألمانيا؛ لكن كانتهناك جدالات محمومة بين المنفيين العائدين، بعضهم، من عرفوا بـ “الفيلق الألماني” أرادوا أن يشنوا حملة مسلحة، وقد عارضهم ماركس بقوته المعهودة. بالنسبة لماركس كان الحل يكمن في الدفع لتنظيم الحركة العمالية، لكن داخل الحركة الأوسع الساعية للديمقراطية.
بحلول أبريل، عاد ماركس مرةً أخرى إلى ألمانيا وبدأ في الإعداد لنشر جريدة يومية بإسم “الرينانية الجديدة” في كولونيا، وكنتيجة لاعتياده التدخل في النقاشات السياسية الجارية داخل الحركات الثورية، باعت الجريدة في أوج رواجها، خمسة آلاف نسخة.كان الإصدار الأول للجريدة الذي كان قبل ذلك بأربع سنوات، قد حظى بدعم الطبقات الألمانية الوسطى المحبطة؛ بينما هذه المرة كانوا أكثر تردداً في دعم مشروعه الذي كان شديد النقد للمؤسسات الجديدة الناشئة عقب سقوط النظام القديم – مثل الجمعية الوطنية الجديدة.
شُكلت المجموعات العمالية في جميع أنحاء ألمانيا، لكن مطالبهم كانت تميل للاقتصار على الدفاع عن قضايا الديمقراطية. بصدور الجريدة في يونيو، اعتبرها كل من ماركس وإنجلز محور لتنظيم الشيوعيين. لكن ماذا عن الرابطة الشيوعية؟ شعروا انها أصغر من أن تكون ذات تأثير كبير على الأحداث التي تدفع بالآلاف نحو النشاط العام. ففي أوقات الاضطراب والتغيرات السريعة، الأمر الهام هو التحلي بقدرة على التأثير على الحركات الأوسع بدلاً من الانعزال أو معاداة الحركة. وصف ماركس الثورة في وأقاتٍ سابقة بأنها “تزامن بين التغيير الذاتي وتغيير الظروف المحيطة” فالتحولات الكبيرة في الوعي تأتي في سياق تغييرات مادية، لكنها لا تحدث تلقائياً. واعتماد الأفكار الجديدة واستيعابها مرتبط إرتباطاً وثيقاً بوجودها داخل الحركة. كانت تلك هي الحجة التي حفزت جدال ماركس الغاضب مع الاشتراكي الألماني جوتشاك الذي كان يحظى بشعبية كبيرة بين العمال، لكنه كان يشجع فكرة الاختلاف والانفصال.
الحقيقة أن الحركة العمالية الألمانية كانت في مرحلة من مراحل تطورها حيث خرجت لتنتزع الحقوق الديمقراطية. في بريطانيا، وعلى النقيض من ذلك، وصلت الحركة التشارتية إلى ذروة نفوذها، وبالتأكيد نظر إليها ماركس وإنجلز بإعتبارها طليعة النضال العمالي في أوروبا.وعلى حد سواء كانوا متفقين في أن العمل الموحد مع العناصر الليبرالية لا يعني التنازل لهم عن القيادة السياسية للحركة. وعند توزيع العدد الأول من جريدة “الرينانية” في إصدارها الجديد، كانت الأحداث في أوروبا تقفز نحو مرحلة جديدة مرة أخرى.
في فرنسا لم يكن هناك أثرٍ للوعود التي قطعتها الحكومة الليبرالية التي حلت محل النظام الملكي في فبراير؛ وبحلول يونيو، اجتاحت الجماهير الغاضبة الشوارع احتجاجاً على ذلك. كان في إنتظارهم تلك المرة قمع وحشي، وصف ماركس سلوك الربجوازية الفرنسية بالجبان، أما نظرائهم الألمان فاعتبروا إدانته تلك موجهة ضدهم ومن ثم تراجعوا عن دعمهم للجريدة. وفي يوليو، شهدت ألمانيا أيضاً إحلال الحكومة الليبرالية نسبياً، بأخرى أكثر قرباً من الرجعية؛ وكان ماركس وجريدته من أول أهداف القمع، ومنعت من النشر إلا لمرة واحدة طيلة الشهور اللاحقة. لكن، كلما ازداد ما يهدد الحقوق الديمقراطية، من فيينا إلى برلين، كلما ازداد صخب ماركس وجريدته في المطالبة بحقوق العمال. كان ماركس يضع نصب عينيه استراتيجية كسب العمال وبناء الحركة العمالية – ما أطلق عليه فيما بعد “ديمومة الثورة”. لكنه في الوقت نفسه كان يرفض ويجادل ضد الخطوات المتعجلة التي تؤدي إلى نزول الرجعية بثقلها قبل أن تستعد الحركة للمقاومة. كان ذلك وقت “التمهل الثوري وضبط النفس” كما أشار ماركس وإنجلز، إذ كان من الواضح بالنسبة لهم أن الثورة المضادة تستعد للهجوم.
في فيينا، واجهت الحركة هذا القمع في الشوارع، أما في ألمانيا فقد طالبت مظاهرات جماهيرية بدعم إخوتهم وأخواتهم في العاصمة النمساوية. هُزِمَت الحركة في أكتوبر، لكن تطلب الأمر شهرين آخرين قبل أن تعلن الثورة المضادة انتصارها في برلين، وفي ألمانيا كلها، بانقلاب فريدريك الرابع وتربعه على رأس الحكم. وخلال الشهور التالية، عمل ماركس وإنجلز بلا كلل، بالأخص من خلال الجريدة، لدعم القوى الديمقراطية، ولتوطيد التحالفات بين العمال والفلاحين، والأكثر أهمية من ذلك كان لتحليل وفهم الحركة في ألمانيا كجزء من الصورة العامة.
وعلى الرغم من سلسلة التراجعات داخل ألمانيا، حمّسَت النضالات، التي كانت لا تزال مستمرة في أرجاء أخرى من أوروبا، ماركس، وجعلته يشعر بالتفاؤل بالإمكانيات الثورية ويدعم منظمات مثل جمعيات بادن وفرانكفورت المؤقتة، والتي كانت لا تزال تقاوم.
وبحلول منتصف العام 1849، كانت الحركة الثورية تعاني من حالة تراجع شديد، حيث سحقت قوات القيصر الانتفاضة المجرية، وفي ألمانيا كان التراجع يسيطر على كل شيء. في 16 مايو، أُجبِرَ ماركس على مغادرة كولونيا، ليتجه إلى باريس في اليوم التالي. انضم إنجلز في تلك الأثناء إلى القوات المتمردة في بادن. وقبل رحيلهما، طُبِعَ العدد الأخير من جريدة “الرينانية الجديدة” بكامله بالحبر الأحمر.
“كان علينا أن نستسلم وننسحب من قلعتنا، لكننا نفعل ذلك ومعنا أسلحتنا وعتادنا… وراياتنا ترفرف… كلمتنا الأخيرة ستكون دائماً وفي كل مكان: تحرر الطبقة العاملة”.