كارل ماركس – النظرية والممارسة
كانت اشتهار ماركس كمحرض وكزعيم فكري للانتفاضة الثورية يعنون الاشتباه به أينما ذهب. وبعد إجباره على مغادرة باريس، عاد مع عائلته إلى لندن في أغسطس 1849. وبعد ذلك بفترة قصيرة، انضم إليه صديقه ورفيقه فريدريك إنجلز هناك. في الحلقات الداخلية، كان يُطلق عليه “الجنرال”، حيث انصب تركيز واهتمام إنجلز على مسألة تنظيم العصيان الثوري إثر خبراته في ألمانيا.
بالرغم من الهزائم التي مُنيت بها الحركات الثورية في أوروبا، إلا أن ماركس وإنجلز كانا متفائلين بآفاق انتفاضات جديدة في ألمانيا وفرنسا. عاشت عائلة ماركس، كما يتضح من مراسلات جيني بشكل جلي، في ضائقة مادية عصيبة، وما كان لديها من أموال كان يُصرف بسخاء لمساعدة الرفاق المهاجرين من ألمانيا ولتأسيس جريدة أخرى صدرت أعدادها الخمسة الأولى في يناير 1850. عادت جيني حاملاً إلى لندن في الخريف، في سبتمبر، إلا أن ماركس لم يكن مهتماً سوى بآفاق بناء حركة ثورية تخرج من رحم الأحداث الاستثنائية لعامي 1848 و1849.
في 1848، رأى ماركس وإنجلز أن العصبة الشيوعية ينبغي أن تُحل، فقد كانت هناك مهام أكثر إلحاحاً على الاشتراكيين حيث الاندماج في حركات أوسع في سياق الثورات، والنضال من أجل تحقيق نفوذ أيديولوجي داخل هذه الحركات. وبحلول العام 1850، بات من الواضح أن المهام الأساسية صارت مختلفة، حينها جادلا بنفس القوة بأن العصبة يجب أن تؤسس من جديد. لقد أدركا أن من المهم للغاية فهم الأحداث والتعلم منها، تلك الأحداث التي كانت لا تزال حيّة في أذهان نشطاء الطبقة العاملة والاشتراكيين عبر أوروبا. حلل ماركس تلك الأحداث في عملين تاريخين، وهما “عريضة المجلس المركزي إلى عصبة الشيوعيين” (مارس ويونيو 1850)، وسلسلة من المقالات المطوّلة نُشرت في الجريدة التي لم تستمر طويلاً (من يناير إلى أكتوبر) جُمِعَت بعد ذلك وأُطلق عليها “النضال الطبقي في فرنسا 1848 – 1850”. الأخير كان عملاً تاريخياً مذهلاً، ولم يكن مجرد مجموعات من التفسيرات يقدمها مراقب حيادي منعزل عن الأحداث أو لم يكن له ضلع فيها. فماركس، قبل كل شيء، انتُخِبَ رئيساً للجنة التنفيذية للعصبة الشيوعية، وكان مساهماً نشطاً وواعياً في بناء منظمة اشتراكية تعلمت من خبرة ثورات 1848 وبنت عليها، وكما قال ماركس “ماتت الثورة – تحيا الثورة”.
استخلص ماركس من خبرات 1848 الكثير من الاستنتاجات والرؤى التي تبدو معاصرة بشكل يثير الفضول. وعلى عكس الكثير من الكُتَّاب والمعلقين الذي كتبوا عن 1848، ناقش ماركس هذه الأحداث من وجهة نظر الطبقة العاملة بقصد استخلاص النتائج السياسية والتنظيمية للمنظمة الاشتراكية التي يمكن بناءها في المستقبل. الاستنتاج الأول هو أن الثورة في البداية قد جذبت قطاعات هامة من الطبقة الوسطى في حركة موحدة مع الطبقة العاملة. إلا أن هذه الوحدة أثبتت أنها قصيرة الأمد في كلٍ من ألمانيا وفرنسا. في كلتا الحالتين، فزعت البرجوازية – وهي المستفيد الأساسي من إدخال الديمقراطية البرلمانية (المكسب الرئيسي من ثورات 1848) – من أن الأمور قد لا تتوقف عند هذا الحد، ومن أن الطبقة العاملة وحلفاءها قد يقودوا العملية الثورية بشكل أسرع أبعد من ذلك، حيث تهديد الملكية الخاصة نفسها. لذا فقد انقلبت البرجوازية على حلفاء الماضي، وسعت لعقد المساومات والصفقات في حالات عديدة مع الطبقات الحاكمة القديمة التي أرادت إسقاطها بالأمس القريب.
وبالأخذ في الاعتبار أن المجتمع الرأسمالي لا يمكن أن تسقطه الطبقة التي لها مصلحة في الحفاظ عليه، فقد صار جلياً أن الطبقة العاملة قادرة على استكمال مسارها في استقلال عن حلفاء الأمس. “إنه لفي مصلحة البرجوازية الصغيرة إنهاء الثورة بأسرع ما يمكن… بينما في مصلحتنا، بل إنها مهمتنا، أن تكون الثورة دائمة”. هذه الأفكار عن الثورة الدائمة صارت مميزة لتفكير ليون تروتسكي، لكن أصلها هو ها هنا في تناول ماركس للخبرات الثورية لعام 1848. في تلك الأثناء التي كتب فيها ماركس ذلك، كان منخرطاً في جدال حاد مع البلانكيين، الذين استنتجوا أن على الثوريين أن يعملوا الآن في السر. شدد ماركس وإنجلز على هذه النقطة، وكان لزاماً أن تنظم الطبقة العاملة نفسها بشكل مستقل عن البرجوازية، وضعاً في الاعتبار أن البرجوازية ستدعو، آجلاً أم عاجلاً، لوضع حد للحركة. من الممكن أن يحدث ذلك بالقدر الذي تعي به الحركة العمالية مصالحها الطبقية وتدركها جيداً، وتعي في الوقت نفسه مصالح الطبقات الأخرى في المجتمع، وكيف تتحقق الثورة. هذا الوعي لا يتحقق فقط خلال اللحظات الثورية، بل أنه يُشكِّل ويبلوِر استجابة الطبقة العاملة للحظات الثورية حينما تأتي (أو حينما تأتي مجدداً).
صار الآن بناء حزب ثوري للطبقة العاملة مهمة اللحظة. ربما، كما أدرك إنجلز وكتب في مقدمة جديدة لكتاب “النضال الطبقي في فرنسا” بعد وفاة ماركس، كان ماركس مفرطاً في التفاؤل بآفاق الثورة في ذلك الوقت. لكنه كان محقاً في إصراره على أن مهمة الثوريين هي بناء الحزب الذي يحوز قيادة الحركة الثورية ويقودها إلى منتهاها. وهذا المنتهى كان، كما عبّر عنه ماركس هنا، “ديكتاتورية البروليتاريا”.
قليلة هي كلمات ماركس التي تعرضت لسوء الفهم وسوء التفسير مثلما تعرضت له العبارة السابقة. اتخذت كلمة “ديكتاتورية” معنى متجهماً وكئيباً في عالم شهد النازية والستالينية وشتى أشكال الاستبداد التي أفرزتها الرأسمالية في المائة عام الأخير تقريباً. لم يكن لهذه الكلمة نفس الوقع حينما استخدمها ماركس. فقد كان على سبيل المثال يتحدث في الحقيقة عن الدولة حين استخدم وصف الأداة الحاسمة في الحكم الطبقي بـ”اللجنة التنفيذية للبرجوازية”. في ألمانيا وفرنسا، الكثير من الوزراء في حكومات ما بعد الثورة كانوا لوقت قصير حلفاءاً للطبقة العاملة في النضال من أجل الديمقراطية، لكنهم انقلبوا ضد العمال بشراسة ووحشية قصوى. تساءل ماركس، أي دولة يمكن أن تحمي مصالح الأغلبية؟ وقد أجاب “الحكم السياسي للطبقة العاملة وحدها مع كافة التغييرات الثورية في الظروف الاجتماعية التي لا تنفصم عنه”. فقط هذه الدولة هي التي تستطيع الدفاع عن مكتسبات العمال، والإشراف على تحول الظروف الاجتماعية لضمان هذه المكتسبات. في هذه المرحلة، كان لدى ماركس فكرة عامة عن الأمر؛ أي نظرية. وكان لكوميونة باريس في 1871 أن تكشف الحقيقة.
بالطبع كان ماركس مادياً. وبرغم أن وعي وتنظيم العمال، أي الطبقة الثورية، يمثل القوة الدافعة في إسقاط النظام القديم وبناء الجديد، إلا أن ذلك وحده ليس كافياً. وكما كتب ماركس فإن “البشر يصنعون التاريخ، لكنهم يفعلون ذلك في ظروف لم يختاروها بأنفسهم”. تثبت الظروف المادية أنها حاسمة في العمليات الثورية أيضاً؛ مستوى تطور الاقتصاد الرأسمالي، وحجم الطبقة العاملة وثقلها النسبي، استمرار الأزمة الاقتصادية، كل هذه اعتبارات حاسمة. إن نضج الطبقة العاملة لا ينتج هكذا فقط بمجرد التثقيف السياسي، لكن أيضاً بثقلها الموضوعي بين الطبقات المستَغَلة. وكلما تطورت الصناعة وتقدمت الرأسمالية، ينمو تركيز العمال في مواقع عمل أكبر وأكبر، وتحول الفلاحون والحرفيون إلى عمال ليس لديهم مصدر عيش آخر سوى قوة عملهم، هذا كل ما لديهم لبيعه. وبنفس الكيفية، هؤلاء وحدهم هم منتجو الثروة، لكنهم لا يتلقون شيئاً يُذكر منها. هذا هو التناقض في القلب من الرأسمالية.
وبالنظر إلى ذلك الوقت الذي كان يموج فيه العالم بالتغيرات، أوضحت تحليلات ماركس الدقيقة الرابط بين الثورة والأزمة داخل النظام الاقتصادي. هذه الأزمة ليست نتيجة خطأ عابر في النظام وليست مجرد صدفة، بل نتيجة للصراعات الداخلية في الرأسمالية. أشار ماركس من قبل إلى تناقضات الرأسمالية على نحو مبهر في “البيان الشيوعي” الذي ناقش الحاجة الدائمة لدى الرأسمالية لتثوير الإنتاج. لقد استنتج أن غياب الأزمات، أو بتعبير آخر موجة الرخاء والنمو الاقتصادي، في إنجلترا في نهاية عقد أربعينات القرن التاسع عشر، هو ما فرَّغَ الحركة التشارتية من مضمونها الثوري. وفي المقابل، في فرنسا، لم تكن الطبقة العاملة قوية أو مركزية في الاقتصاد بما فيه الكفاية لتضمن فرصتها الثورية.
بالنسبة لمادي ثوري مثل ماركس، كان واضحاً أن “الأفكار لا تغير التاريخ” إلا إذا تجسّدت في قوى اجتماعية حية وفاعلة في الظروف المادية التي تجعل مثل هذا التغيير ممكناً. وقد كان فهم العوامل التي تدفع بالرأسمالية إلى الأمام، والظروف التي تنتج الأزمة، مهمة جوهرية لماركس، تماماً مثل بناء منظمات الطبقة العاملة والإعداد السياسي لأعضائها.