كارل ماركس – النظرية والممارسة
بحلول منتصف العام 1850، بات من الواضح لكارل ماركس أن الثورة لم تعد على جدول الأعمال. كانت الرأسمالية في أوروبا تتحرك تجاه مرحلة من النمو والتمدد، وكما أثبتت الأحداث في ألمانيا في ذلك العام، كانت الديمقراطية البرجوازية تحرر نفسها من بقايا النظام القديم. دبت جدالات مريرة داخل العصبة الشيوعية، حيث كان هناك الكثيرين في قيادة التنظيم على قناعة بأن الثورة لا تزال إمكانية راهنة، وكل ما تحتاجه هو الاستعداد بالسلاح. وحتى أثناء بعد أحداث 1848، صُبغت الجدالات بصبغة قومية، حيث أصر الرفاق الألمان على التجذير المستمر لطبقتهم العاملة القومية.
أما بالنسبة لماركس وإنجلز، فقد كانت هناك قضيتين أساسيتين. أولاً، كما ذكرا بوضوح في “البيان الشيوعي”، ينبغي أن تتخذ الحركة الثورية للعمال طابعاً أممياً. ثانياً، قامت الثورة نتيجة تشابك العوامل الذاتية (وعي العمال ونفوذ الأفكار الثورية بينهم)، مع العوامل الموضوعية (أزمات النظام).
“استُبدل المنظور الشامل والأممي للبيان الشيوعي بوجهة النظر القومية الألمانية، كما كانت هناك محاباة للمشاعر القومية لدى الحرفيين الألمان. تم التخلي عن وجهة النظر المادية المُتضمَنة في البيان، لصالح المثالية. فيما لم يعد يُنظر للثورة باعتبارها نتاج للحقائق الملموسة في الواقع، بل نتيجة للجهود الإرادية. وبينما نقول للعمال: أمامكم 15 أو 20 أو 50 عاماً من الحرب الأهلية لتحويل الأوضاع ولتدريب أنفسكم على ممارسة السلطة، يقولون: علينا أن نأخذ زمام السلطة الآن أو أن نخلد إلى أسرَّتنا”.
كانت تلك أوقاتاً عصيبة بالنسبة لماركس؛ كان وضعه المالي ضائقاً، وكان يضطر وعائلته للانتقال من مكان إلى آخر، لقد بدا أن الشيء الوحيد الذي أنقذ ماركس وعائلته هو الدعم الدائم والمتفاني من جانب إنجلز. وبحلول نهاية العام، توفي ابنهم الحبيب هاينريتش (الذي أطلق ماركس عليه إسم فاوكسي)، وبعدها بستة أشهر أنجبت خادمتهم المقيمة معهم ولداً سُمِّيَ فريدي، في الأغلب كان ابناً لماركس، إلا أنه لم يعترف به قط، فيما أعلن إنجلز أبوّته له بغية حماية صديقه وزميله ماركس – لم تكن تلك المرة الأولى التي يقدم فيها إنجلز تضحيات من أجل ماركس، ولا الأخيرة.
اتخذ الآن ماركس مكانه المعتاد في غرفة القراءة في المتحف البريطاني، وكان قد بدأ بالفعل في المشروع الطموح لتعريف وتوصيف السمات العامة للنظام الرأسمالي ككل، حيث تطوره التاريخي، والاتجاه الذي يسير فيه. بعض ممن شاركوا في الحركة (بالأخص أولئك الذين يقضون الليالي في التخطيط للمؤامرات والتمردات) رفضوا ذلك، واعتبروه تخلياً عن السياسة. إلا أن ماركس وإنجلز لم يتخليا على الإطلاق عن المنظمة السياسية، بل في الحقيقة لم يتوقفوا قط عن محاولات بناء الحزب حتى إنشاء الأممية الأولى في 1864. لم يتوقف ماركس بالطبع عن السجال مع الاشتراكيين الآخرين، ولم يتوقف أيضاً عن كتابة أو إصدار الكراسات والمقالات. وفي الحقيقة، كانت تلك السجالات والنقاشات، التي جرت في فترة الركود بعد انفصالهما عن العصبة الشيوعية، تُعتَبر جزءاً من عملية بناء حزب جديد.
لكن ما لا شك فيه أن ماركس قد اعتبر، في هذه المرحلة، دراساته وأبحاثه في النظام الرأسمالي المهمة السياسية الرئيسية. لم يكن ذلك بغرض التعرف على العدو، بل كان الهدف هو فهم القوى الدافعة للنظام الرأسمالي والتوترات والتناقضات التي تنتج عن تطوره. وبالوضع في الاعتبار حتمية أزمات النظام، كان من الضروري أن يكون قادراً على ترقب – أو حتى توقع – متى وأين ستحدث التشققات. كل ذلك كان جزءاً من مهام إعداد الشيوعيين للمعارك المستقبلية في النضال الطبقي.
كان ذلك وقت الدراسة والقراءة، وقد غدا ماركس وجهاً معتاداً في المتحف البريطاني. كان المهمة التي رسمها لنفسه جامحة الطموح؛ أن يفهم الطريقة التي تعمل بها الرأسمالية، كنظام عالمي، وتتطور عبر الزمن، بغرض الكشف عما أطلق عليه “قوانين الحركة”. لكن ذلك لم يكن كل شيء، فالمشكلة أن ما قد يظهر على السطح ربما ليس هو ما يحرك النظام بشكل فعلي من داخله. فأولاً وأخيراً، استفاض ماركس في أعماله الأولى في تحليل الطرق التي غالباً ما أخفت بها الكثير من الأفكار والتفسيرات آليات وقوانين الرأسمالية – وهذا ما كان يعنيه بـ”الأيديولوجيا”. نحن ندرك تماماً، من العصر الذي نعيش فيه اليوم، أن القرارات الاقتصادية التي تتخذها أطرافٌ قوية تتمتع بالسلكة بغرض خدمة مصالحها، تُقدَّم إلى العالم بوصفها عملية طبيعية. حينما تُعرَض تلك الإحصاءات المبهمة في خاتم كل نشرة أخبار، لتصف “حركة السوق”، تُحشَر بين أنباء الكوارث ونشرة الأرصاد الجوية، وكأنهم جميعاً يندرجون في نطاق الأمور التي لا نملك قدرة التحكم فيها.
يقول ماركس: “يتحدث الاقتصاديون البرجوازيون عن العلاقات داخل عملية الإنتاج البرجوازي وكأنها ثابتة وأبدية غير قابلة للتغيير”. لكن ماركس نفسه كان قد أوضح أيضاً أن حركة رأس المال تُحدَّد وتُقرَّر بناءاً على مصالح طبقة واحدة تعارض من ينتجون ثرواتها الذين على الرغم من ذلك ليس لديهم أي سيطرة على النظام أو على الطريقة التي يعمل بها.
وفي الكتابات التي أنجزها أثناء فترة شبابه، وصف ماركس، في الأغلب على نحو متعاطف كثيراً، خبرات العمال في ظل الرأسمالية، حيث يمثل الاغتراب الذي يعيشونه داخل المجتمع حالة من فقدان القوى يشعرون بها. السؤال هنا؛ أي ظروف ترسخها الرأسمالية في المجتمع تنتج هذه العلاقة بين مالكي رأس المال من ناحية ومنتجي الثروة من ناحية أخرى؟ وما هي القوى الدافعة الحقيقية التي تحرك النظام بكليّته إلى الأمام، بغض النظر عن الأمثلة الفردية لسلوك هذا الرأسمالي أو ذلك أو معاملتهم للعمال؟ ما هي العلاقة بين طبقة الرأسماليين وطبقة العمال في النظام الرأسمالي العالمي؟
الإجابة على هذه الأمثلة بالطبع لا يمكن إيجادها في الصيغ المجردة، فماركس كان قبل أي شيء مادياً، وهكذا رسم أطروحاته وأرساها بناءاً على مراقبة سلوك القوى الحية الفاعلة في التاريخ الحقيقي، فيما كان اختبار النظرية عن طريق الممارسة هو منهجه لاستيضاح الحقيقة المادية وتطوراتها عبر الزمن. وهذه التطورات، كما في كل حركة تاريخية، هي تطورات جدلية تنتج تناقضات وصراعات لا يمكن حسمها إلا من خلال تغيير المجتمع. وتظهر هذه التناقضات والتوترات في صورة أزمات دورية يمكن خلالها أن تحقق الحركة الثورية مكاسب هامة، فقط إذا ترقبتها وفهمت طبيعتها وأعدت نفسها تنظيمياً لانتهاز الفرص التي تقدمها. لذا، بالنسبة لماركس، كانت فترة الدراسة والبحث تمثل إسهاماً مادياً مباشراً لهذا المشروع السياسي.
“يسر حزبنا أن يحظى بالفرصة مرة أخرى من أجل الدراسة. إنها لميزة عظيمة أن أسسه النظرية تمثل رؤية علمية جديدة تطويرها يشغله بما يكفي. ولهذا السبب وحده لا يمكن أن يكون حزبنا مُحبَطاً وهامداً مثل “الرجال العظام” في المنفى”.
كلمة “حزبنا” هنا يقصد بها ماركس فقط نفسه وإنجلز. وعلى الرغم من البُعد الشديد لآفاق النضال، إلا أن معنوياتهما لم تنهار. بالطبع كان صمود ماركس ومرونته ملحوظَين، بالوضع في الاعتبار الأيام السوداء التي قضاها هو وعائلته في الفقر وانعدام الأمان، علاوة على الانتقال المستمر من منزل لآخر، والمرض المتكرر لأفراد العائلة، انتهاءاً بوفاة إدجار الصغير. وفقط كان الدعم المتفاني الناكر للذات من جانب إنجلز هو ما حفظهم من الانهيار.
قضى ماركس الأعوام العشرين التالية في كتابة “رأس المال” الذي لم يصدر الجزء الأول منه حتى 1867، ولم يتوفر بكامله للجمهور حتى بعد وفاة كاتبه. أول جزء طُبع وصدر (في 1859) كان “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي”.