كارل ماركس – النظرية والممارسة
إذن، ما هي الأفكار الأساسية لهذا العمل الاستثنائي؟
“المجتمع البرجوازي العصري، الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي، لم يلغ التناحرات الطبقية، بل أحل فقط محل الطبقات القديمة طبقات جديدة، وحالات اضطهاد جديدة، وأشكالاً جديدة للنضال”.
أولاً، الرأسمالية هي مرحلة في تطور وتغير التاريخ. لقد ظهرت في ظروف تاريخية معينة، ومثل كافة المجتمعات الطبقية السابقة عليها، كانت تناقضاتها الداخلية تفسّخها. ثانياً، البحث عن الوسائل التي تجعل العمال أكثر إنتاجاً بشكل متزايد، حيث “التثوير الدائم للإنتاج” الذي علّق عليه ماركس بأسلوب أدبي في “البيان الشيوعي”. ثالثاً، المصدر الآخر للربح هو العمل نفسه، أو بالأحرى استغلال العمل. يميل العالم المعاصر لتناول مسألة الاستغلال كقضية أخلاقية، باعتباره إساءة استخدام للسلطة، بينما تناول ماركس هذا المصطلح خصيصاً لتوصيف العلاقة بين رأس المال والعمال، حيث يسعى رأس المال لاستخلاص قيمة أكبر وأكبر من العاملين، القيمة التي تزيد عما هو ضروري للإبقاء عليهم أحياءاً يعملون – أي فائض القيمة.
تلخصت إجابة ماركس في المجتمع الطبقي، حيث تملك طبقة صغيرة وسائل الإنتاج (أطلق عليها اسم البرجوازية، أي الطبقة الرأسمالية)، وأغلبية عظمى لا تملك سوى قوة عملها (وهذه هي البروليتاريا أو الطبقة العاملة).
داخل كل طبقة هناك الكثير من التنوع، في الجنس والعرق والمظهر. هناك رؤساء خيريون وآخرون مستبدون، ليبراليون وعنصريون وقوميون ومنفتحون. وكذلك بين العمال، هناك المتعلمون وغير المتعلمين، الماهرون وغير الماهرين، بعضهم سود وآخرين من البيض، رجال ونساء. إلا أنهم جميعاً ينتمون إلى نفس الطبقة بسبب علاقتهم بموارد المجتمع والطريقة التي يُنظمون بها؛ البرجوازيون جميعهم يتحركون بشكل موحد للدفاع عن ملكيتهم لثروات المجتمع، علاوة على استخدامهم لسلطتهم وسطوتهم لتنظيم عملية الإنتاج الاجتماعي من أجل تحقيق أرباحهم. “التراكم، التراكم.. هذه هي كلمة السر”.
بهذه العبارة البسيطة، لخّص ماركس العوامل المحركة للرأسمالية. أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج ينتمون إلى نفس الطبقة، لكنهم أيضاً خصومٌ يتنافسون على الأرباح والهيمنة على الأسواق. تعمل الرأسمالية من أجل الربح. لكن الرأسمالي ليس مجرد شخص يملك وسائل الإنتاج، فهو يستخدمها لجلب المزيد من الربح والمال وللتقدم على منافسيه، والرأسمالية هي طريقة تنظيم النظام الاقتصادي التي تجعل ذلك ممكناً.
بالطبع هذا النظام (الذي أطلق عليه ماركس نمط الإنتاج) يتسم بالكثير من التعقيد، فهو لا يتطلب فقط طريقة معينة في الإنتاج نفسه، بل أيضاً أشكالاً وهياكل متنوعة للحفاظ عليه قائماً، بدءاً من الوسائل التي تنقل الناس من وإلى العمل، إلى تعليمهم كيف يستخدمون الميكنة الجديدة، مروراً بخلق سلسلة من الأدوات الثقافية التي تقنع أولئك المفترض بهم القيام بالإنتاج أن هذا العالم الذي يعيشون فيه هو أفضل ما يمكن تحقيقه، برغم الفقر الذي يعانونه. هذه هي الأبعاد الذي تناولها ماركس وعكف على تحليلها.
لكن في القلب من كل ذلك يقبع الإنتاج نفسه. كيف يمكن للرأسماليين أن يجنوا أرباحهم؟ من الواضح أنهم لا يقومون بأي عمل بأنفسهم، فكل ما عليهم هو أن يستثمروا أموالهم، ويشتروا الآلات ويوظّفوا بعض الناس ويقرروا ما يُنتج وكيف. أما الإنتاج الحقيقي فيقوم به العمال الذين يتقاضون أجوراً مقابل العمل على الآلات. في الوقت الذي عاش فيه ماركس، كانت أعداد من يعملون على الآلات تنمو بشكل مطرد. بالطبع كان من السهل على ماركس أن يتخيل المصانع الضخمة في القرن العشرين حيث يعمل الآلاف في إنتاج البضائع على خطوط إنتاج كبرى. أما اليوم، فخطوط الإنتاج هذه يمكن أن تعمل بواسطة عدد قليل للغاية من الناس على خطوط إلكترونية – حيث يقوم الروبوت بأغلب العمل، حتى أنه يمكن أن يرسم اللوحات مثل بيكاسو.
إلا أن الحال يبقى على ما هو عليه، قديماً واليوم على حد سواء، فالإنتاج عملية دقيقة يشارك فيها أناسٌ من مختلف أنواع العمل. مصانع القطن في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، كانت تستخدم القطن الذي يجمعه عمال السخرة في مصر والهند، ومن ثم ينقله عمال آخرون إلى لانكاشاير في بريطانيا، بالإضافة إلى آخرين (بأعداد أقل مما هو الحال اليوم) يعملون على تغذية وتعليم وتمريض الأيدي العاملة في المصانع، وبالتالي فقد قامت جيوشٌ من الناس للتعامل مع ضحايا نظام وحشي وغير إنساني. ما وحَّد ويوحِّد كل هؤلاء الناس في مختلف مراحل سلسلة الإنتاج – من العاملين بمراكز الاتصالات إلى عمال الخدمات الاجتماعية إلى سائقي الحافلات – هو علاقتهم بذاك النظام. إنهم جميعاً يبيعون قوة عملهم لمن يملكون وسائل الإنتاج مقابل أجر.
النقطة الأساسية بالنسبة للإنتاج الرأسمالي هي أن العمال ينتجون أكثر بكثير مما يتقاضون من أجور. والفرق بين قيمة ما ينتجون وما يتلقون من مال في صورة أجر، هو ما أطلق عليه ماركس “فائض القيمة”. وهذا ما يذهب إلى خزائن الرأسماليين.
يرى الرأسماليون أن هذه الأموال من حقهم، إذ أنهم بحاجة إلى الاستثمار مرة أخرى، وبحاجة أيضاً إلى التعويض عن “المخاطر” التي يتعرضون لها في استثمار تلك الأموال. الخبرة الحديثة توضح لنا بشكل جلي أن الاستثمار حينما ينهار، ويفقد العمال وظائفهم، يتلقى رؤساء الشركات ومديروها تعويضات كبرى، وينعمون بالحماية من آثار “المجازفة”، بعكس العمال.
في الحقيقة، بعدما يقومون بتجديد الآلات ويدفعون ما عليهم للبنوك، تتبقى لهم الأرباح التي يُنفق جزءٌ منها على الحفاظ على أسلوب حياة البرجوازية. لكن جزء آخر يُسخَّر للاستثمار في آلات وميكنة جديدة تنتج قدر أكبر من فائض القيمة وتمنح المستثمر الأسبقية في المنافسة. من المفترض أن كل رأسمالي يفعل الشيء نفسه، لكن ما الذي يدفع بأحدهم للتقدم على الآخر؟ الإجابة هنا بسيطة؛ الرأسمالي القادر على اعتصار عماله المنتجين، من أجل إنتاج أكبر، يسبق منافسيه.
يُساق الإنتاج الرأسمالي بالحاجة العنيدة الجامحة لمراكمة الأرباح أكثر من الرأسماليين الآخرين. كلمات السر إذن هي التراكم والمنافسة. وإذا كان العمال في أحد المصانع ينتجون أكثر من زملائهم في مصنع آخر، مقابل نفس الأجر، فهذا يعني زيادة أرباح المصنع الأكثر إنتاجاً. كما أن هذا يعني أيضاً السيطرة بشكل أكبر وأكبر على موارد الأرض، استهلاكها وتدميرها، في سباق السوق.
تُزال الغابات، ويُحرق الوقود الحفري، ويكاد النفط والغاز أن ينفذا من الأرض، وتُستنفذ المزيد والمزيد من الأراضي في هذه العمليات. المصانع الكبرى، بعد أن كانت موجودة فقط في أوروبا وأمريكا، صارت اليوم أيضاً في الصين وكوريا والمكسيك، إلخ، تستخدم وتستهلك اليوم كافة موارد الغد. لماذا لا يلتفتون لذلك؟ لماذا يرفض رئيس الولايات المتحدة إدراك ما هو جليّ للملايين من الناس؟ في الحقيقة، خلال السباق المحموم في السوق، لا يفكر الرأسمالي في أيٍ من هذه الأمور، لأن كل منافسيه يفكرون بنفس الطريقة. هذه واحدة من القوى الدافعة للرأسمالية التي شرحها ماركس، وهي بالتأكيد لها أثر شديد التدمير على العالم بأسره. وبالطبع لا تهتم شركات كبرى مثل هاليبرتن أو بيتشيل بما سيحدث العام المقبل، طالما أن أرباحاً طائلة يمكن تحقيقها اليوم. هذه هي كلمة السر.
سؤالٌ أبعد من ذلك يطرح نفسه؛ مِن أجل مَن تُنتج هذه المنتجات؟ في مجتمع يستجيب لاحتياجات الناس ويلبيها، من الطبيعي أن يتعلق قرار ما يُنتج بما يحتاجونه – تنتج المصانع غذاءاً للجوعى والمحرومين، وسيارات إسعاف للمرضى، إلخ. إلا أنه من الواضح بجلاء أن الرأسمالية لها اعتبارات أخرى تسيطر عليها، وهكذا نجد أن النقص الهائل في سيارات وإعدادات الإسعاف يتوازى مع فائض ضخم من السلاح، وبينما يجوع الملايين في العالن نتيجة نقص الغذاء، يتم التخلص من كميات غزيرة بشكل يصعب تخيله من الغذاء غير الضروري وغير المرغوب فيه. ذلك لأن السلع تُباع وتُشترى في السوق، وليس هناك علاقة مباشرة بين المنتج والمستهلك، علاوة على أن قرار واختيار ما يُنتج يتحدد بشكل حصري فقط على ما يدر الأرباح. لكن هذا السوق تنافسي أيضاً؛ أكثر من شركة (رغم تناقص أعداد هذه الشركات) تنتج نفس السلع، وما يعطي الأسبقية لشركة على أخرى في السوق هو تكلفة العمالة. وهذا هو السبب وراء نقل الشركات متعددة الجنسيات الإنتاج من أوروبا والولايات المتحدة، حيث التنظيمات النقابية القوية والتاريخ الطويل من النضال أدى إلى زيادة الأجور، إلى بلدان ذات مستويات معيشية منخفضة وأجور أقل، ومقاومة اجتماعية أكثر تراجعاً.
لذا فإن الرأسماليين، في سباقهم وتنافسهم المحموم على السيطرة على الموارد وقوة عمل البشر، يتجازون الحدود القومية ويمتدون عبرها، ويتصارعون على الهيمنة على إمدادات المواد الخام. إن طبيعة الرأسمالية قائمة بالأساس على التصارع والتناقض.