بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

كارل ماركس – النظرية والممارسة

« السابق التالي »

يوم توقف فيه الزمن: كوميونة باريس

في 1871، جسّد التاريخ هذه النقاشات بشكل مثير، وحفّز ماركس لتناول هذه الأحداث بتحليل قوي ومتماسك. في يوليو 1870، أعلن لويس نابليون حاكم فرنسا الحرب على بروسيا وعلى بسمارك ذي النفوذ المتزايد. لكن بحلول سبتمبر أُسِرَ لويس نابليون. في باريس، أُعلِنَت الجمهورية بحكومة دفاع وطني، لم تستمر مقاومة هذه الحكومة طويلاً، فانتخبت جمعية وطنية بغرض إجراء مفاوضات سلام مع ألمانيا. ظلت الحكومة بقيادة الرجعي تيير، الذي مكث في مدينة فرساي، بين يدي الحرس الوطني. وحينما استسلم تيير وتراجع، تمكن البروسيون من الاستيلاء على العاصمة باريس، فيما أعلن السكان تأسيس الكوميونة.

ظل ماركس مندهشاً، مسحوراً بالكوميونة طوال الشهرين اللذين استمرت فيهما. كانت انتقاداته ورفضه لجمهورية لويس نابليون الثانية بنفس قوة وثقة تنبؤه بثورة جديدة في فرنسا. لكن للحق، لم تكن تلك الظروف هي الأفضل للانتفاضة العمالية، بعد شهور من الحصار واختباء البرجوازية بعيداً. لقد خشى ماركس أيضاً من أن تؤدي عزلة العمال الباريسيين إلى الهزيمة إن لم يتحركوا ضد فرساي.

وفي تحليله الملهم للكوميونة، رأى ماركس صورة واضحة لسلطة العمال، والعقبات التي ستواجهها، والحدود التي ينبغي أن تتجاوزها، والإبداع الذي يمكن أن تُظهره في بنائها لنظام جديد ومختلف. وقد بدأ بالفعل عصر جديد في باريس في مايو 1871.

ما الجديد إذن في الكوميونة؟ يجيب ماركس على ذلك في كتابه “الحرب الأهلية في فرنسا” الذي يقدم فيه تحليلاً لما جرى في باريس، ويقدم هذه الإجابة لجيله وللأجيال المقبلة. “كانت تلك بالأساس حكومة الطبقة العاملة.. الشكل السياسي الذي اكتُشِفَ أخيراً، والذي في ظله يتحقق التحرر الاقتصادي للعمل”. الأكثر أهمية من ذلك هو أن الكوميونة قد محت أدوات الهيمنة البرجوازية، حيث استُبدِلَ الجيش النظامي بالميليشيات الشعبية (الشعب المسلح)، وأُزيحت الديمقراطية البرجوازية وحل محلها ديمقراطية مباشرة لا يتمتع فيها المندوبين أو النواب بأية مميزات بسبب دورهم السياسي، بل ويمكن استدعاؤهم في أي وقت. كانت تلك دولة جديدة، أما الدولة القديمة فهي تبقى، كما كتب لينين، معتمدة حتى في لحظاتها الأخيرة على “القمع العنيف للأغلبية”. لقد استُبدِلَت هذه الدولة في باريس بنوع جديد من الحكم ليس منعزلاً عن هذه الأغلبية ولا يقبع فوقها، بل مكشوفة لها في كل شيء. هذه هي ديكتاتورية البروليتاريا كما تخيلها ماركس قبل الكوميونة بكثير.

لكن في الشهرين اللذين قضتهما الكوميونة قيد الحياة، لم يكن لدى الكوميونيون ما يكفي من الوقت لتفعيل النظام الجديد، أي لترسيخ تحرر النساء ومحو الاستغلال وبناء هياكل الكوميونة في الحياة الاجتماعية. وكما وصف ماركس، فإن “الإنجاز الأعظم للكوميونة هو وجودها في حد ذاته”. ومنها توصل ماركس إلى استنتاجه، الذي ربما يكون أكثر استنتاجاته اتساعاً في الأفق وبعداً في المدى:

“لا يمكن للطبقة العاملة ببساطة أن تستولى على جهاز الدولة القائم بالفعل وأن تستخدمه لتحقيق أغراضها الخاصة”.

الدولة البرجوازية قائمة في الأصل من أجل الدفاع عن حكم الطبقة الرأسمالية، بينما من أجل بناء مجتمع قائم على إعادة توزيع الثروة الاجتماعية، وتحقيق المساواة ووضع حد للاستغلال، يتطلب بالطبع أجهزته الخاصة في السلطة – الدولة العمالية. في باريس، في هذين الشهرين، أظهر لنا التاريخ لمحة مما قد يكون عليه المجتمع، كيف يمكن بناء أجهزة العمال الديمقراطية، وأيضاً النتائج الفاجعة لغياب رؤية عن العالم البديل في لحظات النهوض الثوري.

في جمعية الكوميونة، كان هناك 17 عضواً من الأممية. لقد كانت الجمعية تشمل طيفاً واسعاً من الرؤى، وباستثناء الدفاع عن الكوميونة ورفض الجمهورية الرجعية، كان هناك القليل من الوضوح حول الأمور. أنصار برودون كانوا منقسمين – حتى أن بعضهم ذهب إلى فرساي راكعاً خلال الأحداث. وآخرون كانوا من أتباع بلانكي وباكونين، الفوضوي الروسي الذي نازع ماركس في تراث الكوميونة وتسبب في فناء الأممية الأولى واندثارها. كان باكونين متآمراً نشطاً وافر الحماس، وعدواً لدوداً للدولة، لكنه لم يكن صديقاً للطبقة العاملة. وبالطبع كان باكونين يجادل بأن لا ينبغي على الطبقة العاملة أن تنظم نفسها وتعد العدة للإجهاز على السلطة، فذلك من وجهة نظره يُعد شكلاً من أشكال السلطوية. وبدلاً من ذلك، وهذا ما يثير السخرية، أن تتولى الخلايا التآمرية السرية شن الهجوم على الدولة – في تجاهل تام لمن تدعي تلك الخلايا تمثيلهم.

المهم في هذا الأمر أن باكونين كان يتحدى أكثر مبادئ ماركس مركزية – تحرر الطبقة العاملة ينبغي أن تنجزه الطبقات العاملة نفسها. وفي المؤتمر الثاني للأممية، في 1872، هاجم باكونين فكرة بناء منظمة مركزية منضبطة، فيما أجاب ماركس وإنجلز على ذلك بأكثر العبارات تأكيداً على أن الأممية، كما ذكرا: “أداة حاسمة للثورة، وليست نادٍ للنقاش… إنها منظمة للنضال، وليس للنظريات”.

توفي ماركس في مارس 1883. وللمفارقة، خلت سنواته الأخيرة من الضغوط المادية التي حالت حياته جحيماً هو وجيجي وأولادهما. لكن برغم الراحة النسبية التي نَعِم بها في شيخوخته، لم يكن شيءٌ يعوّضه عن فراق أطفاله ووفاة زوجته قبله بعامين. كان إنجلز بالطبع بجانب ماركس على فراش الموت، تماماً كما كان ملازماً له في كل خطوة في طريقهما الثوري منذ لقاءهما الأول. وخلال الـ 12 عاماً التي عاشها إنجلز بعد وفاة ماركس، كرّس الرجل هذه الفترة لنشر أعمال رفيقه وصديقه. وبكل تقدير وإنكار للذات، أعلن إنجلز لدى وفاة ماركس أن “توقف أعظم مفكر عن التفكير”.

كانت الانقسامات الداخلية بين باكونين وماركس تعني أن هذه المنظمة الأممية لا يمكن أن تحقق الهدف منها، وقد انهارت بحلول العام 1876.

أظهرت الكوميونة شجاعة وإبداع الطبقة العاملة، كما قدمت لمحة من نظام اشتراكي جديد، كما أوضحت بجلاء الحاجة إلى محو الدولة البرجوازية من أجل بناء النظام الجديد. وفي هزيمتها، والانتقام المريع الذي لحق بها بعد ذلك، والمذابح التي ارتكبتها الطبقة الحاكمة المذعورة، أوضحت أيضاً لمحة عن المستقبل، أظهرت الحاجة الماسة للأممية. سقطت الكوميونة، لكن ماركس أوضح أن ذلك كان بسبب “أنها لم تظهر في كل المراكز، في برلين ومدريد، إلخ، الحركة الثورية التي تستجيب وتتماشى مع الانتفاضة القصوى للبروليتاريا الباريسية” (25). والمهمة المطروحة في المستقبل، والتي يجب أن نتعلمها من الكوميونة، هو عدم تكرار ذلك.

« السابق التالي »