أنطونيو جرامشي – النظرية والممارسة
كان هناك صوتٌ واحدٌ يتحدث بوضوح مبسط بين صفوف اليسار، بعد انكسار احتلال المصانع، وهو صوت أماديو بورديجا. قبل أن يسبقه غيره، دعا بعلو صوته للانفصال عن الحزب الاشتراكي، وإنشاء حزبٍ شيوعيٍّ منفصلٍ. وهو أيضًا من قدّم بعد هزيمة احتلال المصانع، المسارَ الوحيد الذي يتميز بالوضوح والحسم للمضي فيه، وكان هذا المسار هو الانفصال القاطع بما يسمح لليسار أن يضمن قيام حزب شيوعي متماسك متمتع بنقاء أيديولوجي. في خريف عام 1920 بدا ذلك الطرح طرحًا منطقيًّا أمام قوى الثورة المشتتة. دفع الإحباط والغضب، من رفض سيراتي للانفصال القاطع عن الإصلاحيين، مع فقدان الوجهة الواضحة الممزوجة بفيض من الخطابة، دعم أقصى اليسار لتأييد لهذا المسار.
ولكن المشكل أن بورديجا كان على حق فيما يتعلق بضرورة إنشاء حزب شيوعي، إلا أنه استند في دعوته للانفصال وإنشاء حزب جديد إلى عدد من الحجج الأخرى، التي بها عوار شديد، مثل مقاطعة الانتخابات، وحث العمال على ترك النقابات المهنية القائمة.
اعترض بورديجا على مجالس المصانع وأنصارها في “النظام الجديد”، كان له منظورٌ نخبويٌّ للحزب، كقائدٍ نصَّب نفسَه ليأخذ بيد الطبقة العاملة كي تتحرر. أما عن جرامشي فلطالما نظر للحزب كأداة يحقق العمال باستخدامها الثورة بأنفسهم. في حين رأى بورديجا في الحزب كيانًا مؤسسًا مسيطرًا موجهًا للمجالس المصانع والسوفيتات، واضعًا إياهم بذلك في مكانة ثانوية.
اجتمعت مختلف قوى اليسار الثوري من كافة أرجاء إيطاليا، لينشئوا الحزب الشيوعي. وكان دور جرامشي هامشيًا في هذه العملية، مما أفضى إلى توابع كارثية. فقد كان فشله في بناء شبكة وطنية من الأنصار المتضامنين مع أفكار “النظام الجديد” يعني أن يظل منعزلا وغير قادرٍ على أن يكون له تأثيرٌ حاسم على الأحداث. لقد عزف بشكل عام عن نقاشات الحزب الداخلية؛ إذ كان يرى دوره في تثقيف الطبقة العاملة. في حين ناشد بورديجا لمجرد الإعلان عن حزب شيوعي حقيقي. كان جرامشي يعتقد أنه لا بد من تحضير أرضية له بين القواعد. كما رفض جرامشي فكرة مقاطعة الانتخابات؛ لأن الانتخابات في اعتقاده يمكن أن تستخدم لتوصيل الرسالة الثورية، في حين أن البرلمان قد يكون منصةً لنشر الحلول الحقيقية لمشاكل البلد من خلالها.
لم يرَ بورديجا لمجالس المصانع أو السوفيتات أي دورٍ في الثورة، كان يرى بِدَور الحزب فقط، كما عارض حتى مجرّد إنشاء مجالس المصانع قبل نجاح الثورة. كان يَفترض، بعد الثورة، إقامة سوفيتات في الأفرع المحلية للحزب الشيوعي، بدلا عن انتخابها في المصانع والورش.
أكّد بورديجا في عام 1920على ثلاثة أشياء: ضرورة الانفصال عن الحزب الاشتراكي الإيطالي، والامتناع عن المشاركة في الانتخابات البرجوازية، وتوجيه النقد لمجالس المصانع. كان يضع الثورة في مقابل المشاركة في الانتخابات البرلمانية، ولكنه لم يقدم أي شيءٍ ملموسًا ليجتذب العمال من الجانب الأول إلى الجانب الأخير. لم تخاطب الدعوة بالمقاطعة العمال الذين تقبلوا، بأي درجة كانت، فكرة أن التغيير قد يأتي من خلال البرلمان. ظنّ بورديجا، إضافة إلى ذلك، أن المطلوب كله هو اتخاذ القرار أو المانفيستو الصحيح؛ حتى يرى العمالُ أن طريقهم طريقٌ خاطئ.
كانت غالبية حزب إيطاليا الاشتراكي داعمةً للثورة الروسية، وضرورة القيام بثورة. وبدا مؤكدًا أنهم سيجتمعون معًا في حزبٍ جديد، ينتهج نهجًا ثوريًا واضحًا، وينفصل عمّن ولائه للديمقراطية البرلمانية.
إلا أن هذا لم يتم. وبدلا من أن ينسحب الإصلاحيون من الحزب، انسحب بورديجا وأتباعه، ومعهم جرامشي، في مؤتمر الحزب في شهر يناير لعام 1921 المُقام في ليفورنو. لقد عانى الحزب الشيوعي من العزلة منذ تأسيسه. اقترب حدس جرامشي من الصواب كثيرًا، ولكن ثقته اهتزت بسبب عدم قدرته على تأسيس منظمة ثورية قادرة على خوض الفترة الحمراء.
بالنظر مرة أخرى إلى الانقسام الذي حدث في مؤتمر ليفورنو للحزب الاشتراكي الإيطالي، وتأسيس الحزب الشيوعي، تذكر جرامشي ما قاله لينين: “انفصلوا عن توراتي – زعيم الجناح اليميني للحزب الاشتراكي الإيطالي – ثم تحالفوا معه”. والقصد أنَّ علينا أن ننفصل، وهي المهمة الضرورية التي يُحتمها التاريخ، ليس فقط عن المذهب الإصلاحي، بل أيضًا عن برنامج الحد الأقصى، الذي مثَّل في الواقع ومازال يمثل، الانتهازية الإيطالية الصميمة في الحركة العمالية. ولكنه بعد ذلك كان علينا، عن طريق الصراع الأيديولوجي والتنظيمي الدؤوب، أن نسعى لتأسيس تحالف ضد الرجعية. (جرامشي، كتابات سياسية، 1921 -1926 ص 380).
ظلَّت نصيحة لينين ماثلةً أمام عيني جرامشي حتى مماته. فقد طرح السؤال تقريبًا على الفور في إيطاليا عام 1921.