أنطونيو جرامشي – النظرية والممارسة
فُرض على جرامشي قضاء سنوات سجنه في عزلة تامة تقريبا، عدا بعض الشهور المليئة بالسعادة، والتي وجد نفسه فيها في جزيرة قرب صقلية مع شيوعيين آخرين ومناهضين للفاشية. وبالفعل ساءت صحته، كما هو منتظرٌ من هذا الوضع. أصابه، بين ما أصابه، مرض السل وتصلب الشرايين وداء بوت، الذي كان يأكل في عموده الفقري فتحلّل بدنُه. خشى أن يجبره ظرفه الصحي العسير أن يلتمس معاملة خاصة من النظام، إلا أنه لم يفعل أبدًا.
كانت إرادته الصلبة تدفعه إلى الأمام، فرغم كل شيءٍ عكف ما بين عامي 1929 و1935 على كتابة سلسلة من الكراسات التي خرجت في أمان رغم صعوبة ذلك. كُتبت كراسات السجن في ظروف فائقة الصعوبة، وفي ظلّ عدم توفّر أدبيات الماركسية الكلاسيكية، فقد كان عليه أن يستحضرها من الذاكرة.
حال المرض دون أن يستمر في الكتابة عام 1935، ثم أُطلق سراحه؛ لينقل إلى رعاية عيادة في روما، بعد ضغوط مارستها حملة دولية لتحريره، وعدد من ضحايا الفاشية. إلا أن الوقت كان قد فات وتوفى في أبريل 1937.
كُتبت الكراسات بشكل مشفّر حتى تفلت من رقابة السجن. فقد كان يشير بـ “فلسفة الممارسة” إلى الماركسية، وبـ “الأمير الحديث” إلى الحزب الثوري، مُستخدمًا نفس ما كان يُطلق على كاتب النهضة ميكيافيللي، وغير ذلك من الشّفرات. أبعدت العزلة جرامشي عن النقاشات الموسعة التي دارت في الحركة الشيوعية، مما صانه من التأثر بالستالينية، ولكن الأهم أنه لم يكن مدركًا تمام الإدراك لمدى تأثيرها. هاتان الحقيقتان سمحتا لمن جاءوا بعده أن يحاولوا الاستيلاء على كراسات السجن لتوظيفها لأغراضهم هم.
نشر الحزب الشيوعي الإيطالي أجزاء انتقائيةً منها بعد الحرب العالمية الثانية، واستخدمها منذ ذلك الحين لتبرير استراتيجية “المسيرة الطويلة من خلال مؤسسات الدولة الإيطالية” الخاصة بهم. وبمعنى آخر فقد استُخدم جرامشي لتبرير المسيرة البرلمانية تحقيقًا للاشتراكية، التي كان قد صبّ جام غضبه عليها. اختُزل كفاح جرامشي من أجل الهيمنة – أي القبول العام بأفكار معينة – إلى هدف كسب 51% من الأصوات.
وبعد مرور وقتٍ طويلٍ، ومع قرب انتهاء القرن العشرين، استغله جيل من الأكاديميين الدارسين لعلوم ما بعد الحداثة تبريرًا، كما ادعوا، لاعتقادهم أن الرسول والرسالة شيء واحد، وأن الهيمنة هي من أجل احتلال المواقع في الإعلام الجماهيري حتى يؤثر على الرأي العام.
الحقيقة أن كراسات السجن كانت تحمل بين طياتها حربًا، يشنها جرامشي ضد قيادة الحزب الشيوعي الإيطالي، الذين أصبحوا يتبعون توجيهات ستالين في موسكو. أعلن ستالين الذي كان يزداد ديكتاتورية في 1929، أن الرأسمالية تواجه أزمةً أخيرةً وأن وقت الثورة قد حان. وعليه فقد نادت قيادات الحزب الشيوعي الإيطالي على الفور بثورة لإسقاط الفاشية.
كان جرامشي يعلم أن هذا هراء خطير. لم تكن إيطاليا على حافة انتفاضة. راحت كل الجهود، التي بذلها لإعادة بناء الحزب وإعادة بوصلته ليقوم على بناء مقاومة موحدة ضد موسوليني، هباءًا منثورًا.
تفككت مجموعة البحث التي كان جرامشي مشاركًا فيها في السجن في بوليا، عندما كان يسوق حجته بأن الثورة لا يجب أن توضع على أجندة العمل القريب، وأن المهمة الملحة الآن بالنسبة للشيوعيين هي بناء جبهة متحدة مع مناهضي الفاشية الآخرين.
كان يرى أن هذه طريقة أمام الحزب للتدخل وحشد الجماهير، مع تقديم وجهتهم الخاصة عن جمهورية العمال القائمة على سوفيتات للعمال والفلاحين. صارح أخيه بمعارضته للخط الجديد، إلا أن الأخ قرر أن يحجب هذا الرأي عن توجلياتي وقيادة الحزب، خوفًا من أن يطرد جرامشي.
يجب قراءة كراسات السجن في ضوء هذا كله. وإذ أن جرامشي كان بعيدًا البعد كلّه عن رفض الثورة، فقد عاد لفكرة كيف يمكن تحقيقها في أوروبا الغربية، مع الحث على الصبر كفضيلةٍ ثورية. وكان جرامشي مازال يعتبر الانتفاضة المسلحة هي لحظة حسم الصراع، وأن أميره العصري، أي الحزب الثوري، مازال الكيان المركزي المنسّق والمُعمم.