أنطونيو جرامشي – النظرية والممارسة
أكد جرامشي على ضرورة بناء تحالفات في إيطاليا، وذلك بشكل أساسي بين الطبقة العاملة في الشمال، والفلاحين في الجنوب. وكان يناصر استراتيجية الجبهة الموحدة كما قدمها لينين في المؤتمرين الثالث والرابع للأممية الشيوعية الثالثة في أوائل عشرينيات القرن العشرين.
كان الاستعداء العصبوي، تجاه إنشاء ونشاط مثل هذه التحالفات أو الجبهات المتحدة، نتيجة الأسلوب الميكانيكي المُتبع من قبل بورديجا وأتباعه، بالتهوين من الفاشية عن طريق وصفها بأنها شكل مختلف من أشكال الرأسمالية. وأصبح ستالين والكومنترن – الأممية الثالثة – يكررون الآن هذا الخطأ.
ما يحسم بناء هذه التحالفات هو تنمية القوى الثورية، وتعلمها من خلال الدعاية والتحريض. تلخصت مقاربة الجبهة المتحدة، التي كان جرامشي يؤيدها، في العمل مع الناس الذين نتوافق معهم في الرأي على بعض الأسس، ونختلف معهم على البعض الآخر. كما أنها تشمل أيضًا التعامل مع خليط الأفكار التي تدور في رؤوس الناس، أو ما أطلق عليه جرامشي مصطلح “الوعي المتناقض”.
حرص جرامشي على تمييز هام بين الأفكار التي تعكس “الحس المشترك” – وهي في الحقيقة أفكار الطبقة الحاكمة – و”الحس السليم” وهي الأفكار التي تشرع في التعبير عن الخبرة الواقعية للعمال ومصالحهم حتى وإن كان في البداية مجرد شعور الـ”هم ونحن”.
قال جرامشي، شارحا، أن الوعي الشعبي يحتوي على كل الأفكار الحديثة والتقدمية، مع بعض الفلتات الفظيعة. العامل، بالنسبة لجرامشي، قد يكون كائنا خارج العصر أو “أنتيكا” يمشي على قدمين، ويعبر عن كل أنواع الأفكار العنصرية والمناهضة للمرأة، ويكون في الوقت ذاته نقابيًّا مخلصًا لا يتعدى أبدًا حدود اعتصام. يتضمن “فكر” العمال عناصر من العصر الحجري إلى جانب مبادئ العلم المتقدم، والعصبيات من كافة المراحل التاريخية على المستوى المحلي، ومؤسسات الفلسفة المستقبلية التي تبشر باتحاد الجنس البشري في كافة أرجاء العالم. (جرامشي، كراسات السجن ص 324).
قد تدور في أذهاننا أفكارٌ متعارضة مع العالم. لخّص جرامشي هذا على النحو التالي: “قد نجزم دائمًا بأن للعامل وعيين نظريين، أو وعي متناقض، وعي غير ظاهر ويُستشف من نشاطه ويربطه عمليًا بزملائه من العمال في التحولات العملية في العالم الواقعي، ووعي ظاهر على السطح أو منطوق، ورثه عن الماضي واستوعبه دون تمحيص”. (جرامشي، كراسات السجن ص 333).
كيف يمكن فصل عوامل الـ “الحس السليم” عن “الحس المشترك” للحفاظ على تنمية “وعي طبقي حقيقي” لدى العمال؟ كيف للماركسية أن تنمّي أفكار العمال الإيجابية لتصبح نقدًا أكثر تماسكًا للعالم؟
أكد جرامشي على أن هذه العملية لا يمكن فرضها ببساطة من الخارج على يد الثوريين. فقد شدد على أن الموضوع “ليس موضوع إدخال شكل علمي للفكر على حياة كل فرد من الصفر، بل تجديد وجعل ما هو “حاسم” نشاطا موجودا فعلا. (جرامشي، كراسات السجن ص 331-330).
كما طرح نقطة هامة تفيد بأن العمال كثيرا ما يتصرفون بطريقة تتناقض مع ما يقولونه. كثيرا ما ينتفض العمال عفويا مع ظهور الصراع الخفي بين رأس المال والعمالة على السطح، رغم اعتناقهم للأيديولوجيا السائدة. قد يبدأ العمال بعد خروجهم من هذه المعارك في تطوير أفكار الجديدة.
مهمة الماركسيين حسب ما يرى جرامشي هي تطوير ما أخرجته مثل هذه المعارك من بصيرة “الفطرة السليمة” وعناصرها للعمال إلى منظور للعالم شامل معمم، يبدأ بخلق إرادة شعبية جماعية من أجل تغيير العالم.
قال جرامشي، بمراجعة خبرته مع الطبقة العاملة في تورينو، أن هذا التمرد العفوي للطبقة العاملة له أهمية حاسمة، لم يتعرض “عامل العفوية” هذا للإهمال أو حتى للازدراء. بل ازداد معرفة وتوجهٍ، ونُقِّيَ من العدوى من الخارج (جرامشي، كراسات السجن ص 198). نادى جرامشي بالمزج بين العفوية والقيادة والواعية. هذا النوع من العلاقة يتميز بالديناميكية المتبادلة بين الحزب الثوري والطبقة العاملة.
إذن، من أجل الفاعلية، لا بد من مأسسة الوعي الطبقي. ويجب أن يكون لها تعبير تنظيمي لضمان المحافظة على المكاسب من المعارك العفوية، وليسمح لها أن تكون واضحة وذات قوة.