بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

أنطونيو جرامشي – النظرية والممارسة

« السابق التالي »

17- أحزاب وطبقات

لكن إذا كان الماركسيون يحاولون أن ينمّوا “حسًا سليمًا” ليصبح وعيًا طبقيًا مكتملا، فهناك قوى أخرى تحاول هي أيضًا مأسسة وعي العمال المتناقض، بطرقٍ تعيق هذه التنمية، أو على الأقل توقفها عند نقطة محددة لا تتعداها. نجحت الأحزاب اليمينية في بعض الأحيان في أن تحشد العمال حول “حس مشترك” خالص للطبقة الحاكمة. فقد كان الحزب المحافظ في بريطانيا في الماضي على سبيل المثال يتلقى دعم أقلية مهمة من العمال أحيانًا.

بيد أن أحزاب الإصلاح الجماهيرية هي أهم تعبير عن تناقض وعي العمال. تبنّت الطبقة العاملة منظورًا سياسيًّا تقليديًا في تطورها، يبحث عن العدالة والمساواة والتغيير، ويقبل كذلك المنطق العام عن الحياة السياسية كما وضعتها الطبقة الحاكمة، والذي يقضي بأننا لا بد وأن نلتزم بالقواعد البرلمانية. نجد هنا مزيجًا من قبول أفكار الطبقة الحاكمة مع رفضها جزئيًّا، وذلك عندما نجد تعايشًا بين “الحس المشترك”، وعناصر من “الحس السليم” بداخل عقول أعداد كبيرة من العمال. وكنتيجة لذلك فقد شهدنا سيطرة أحزابٍ كحزب العمال في بريطانيا، والأحزاب الاشتراكية الأوروبية، وحزب العمال البرازيلي.

فهم جرامشي كذلك أن الطبقة الحاكمة لا تكتفي بشكل أساسٍ بضخ أفكارها من خلال وسائل الإعلام. فهذه الأفكار لا بد أن يتبناها الناس، وأن يدخلوها في حياتهم اليومية. اعتمدت الطبقة الحاكمة، حسب جرامشي، في إيطاليا على المدرسين والمحاميين والقساوسة والصحفيين؛ لبث هذه الأفكار في المجتمع لتترجمها إلى اللغة جماهير الشعب.

وتعتمد الطبقة الحاكمة على هذه الشبكات حتى الآن؛ لذا استمر الصراع الدائم في بريطانيا على مدار ثلاثة عقود من أجل توجيه المناهج في المدارس لتصبح أضيق ولتأخذ طابعًا أكثر تقليدية. إلا أن ساسة، مثل توني بلير، ينظرون للإعلام أكثر فأكثر على أنه أفضل طريقةٍ لتمرير رسالتهم. لكن الاعتماد ببساطة على الإعلام لتوصيل رسالة لمتلقٍ سلبي يحتمل أن يكون نقطة ضعف. فلا يوجد رابط فعال مع الأنصار يمكن أن يستخدم في حشدهم.

عندما شاركت بريطانيا في قصف العراق عام 2003 حاولت الحكومة نشر سلسلة من الأكاذيب تبرر دخول الحرب، إلا أنها لم تجد صدى. بدأت الحركة المناهضة للحرب، على الجانب الآخر، في بناء شبكات في البلاد لكسب تأييد لأفكارها، ليس هذا فحسب بل أنها بدأت أيضًا في حشد أعداد كبيرة جدًا. خلق هذا أزمةً في المستوى الأعلى من المجتمع، وأصاب توني بلير في مقتل. وقسم الحزب إلى حزب العمال الجديد، وأثار تساؤلات على نطاق واسع حول كيف تحكم بريطانيا.

كانت عضوية حزب العمال والأحزاب الأوروبية الشقيقة في الأصل مفتوحةً للجمهور، وكان نشطاؤهم متواجدين في كل مجتمعات الطبقة العاملة. فقد أصبحوا بمثابة حائط صد أمام بعض الأفكار الأكثر رجعية، إلا أنهم في لحظة تفاقم الصراع كانوا يعملون أيضًا لكبح انتفاضة الطبقة العاملة. تعمل النزعة الإصلاحية عملين، أولهما أنها تدافع عن مصالح الطبقة العاملة كالدرع، وثانيهما أنها تحول دون تقدمها أكثر كحاجز رئيسٍ. إلا أن هذه الجذور تندثر اليوم.

هكذا نعود إلى طبيعة العلاقة بين الحزب والطبقة العاملة والحركات الجماهيرية، وهي جوهر اهتمام جرامشي.

كان رد جرامشي على الادعاءات القائلة بأن الماركسية بلورة كريستالية، تسمح لنا بالتنبؤ بالمستقبل، هو أننا “نستطيع في الواقع التنبؤ علميًا بوقوع الصراع فقط، ولكننا لا نستطيع معرفة اللحظات المحددة لوقوعه، وهي حتمًا لا يمكن أن تكون إلا نتيجةً للقوى المعارضة في الحركة المستمرة، التي لا نستطيع أبدًا تقليلها لكميات محددة، حيث إن الكمية بداخلها تتحول إلى كيفية باستمرار. نستطيع في الواقع أن “نتنبأ” بقدر العمل وقدر المجهود المبذول طوعًا، ومن ثَمَّ أن نساهم بشكل ملموس لخلق النتيجة “المتوقعة” (جرامشي، كراسات السجن ص 438).

لا يُحسم الصراع بين الحس السليم والحس المشترك القديم بشكلٍ عفوي أبدًا. إنه صراعٌ يجب الانتصار فيه. وهنا يقول جرامشي أنه لابد من وجود شبكات من الثوار الحائزين على ثقة رفقائهم العمال في الصراع المشترك، الذين يستطيعون تقديم استراتيجية تضمن الانتصارات الجديدة على القديمة.

« السابق التالي »