أنطونيو جرامشي – النظرية والممارسة
عاش العمال تحت حكم ديمقراطي لأكثر من قرن في شمال غرب أوروبا، ولعقودٍ في ألمانيا وجنوب أوروبا، يتمتعون في ظله بحق التصويت والتنظيم، طالما أنّ ذلك لا يشكل تحديًا مباشرًا للنظام. فقد استفادوا من إصلاحات الرفاهة الاجتماعية، والحصول على تعليم ورعاية صحية، حتى وإن تقلصت قليلا في السنوات الأخيرة، ولم يشهدوا هبوطًا كارثيًا في مستوى الحياة.
ينبع المذهب الإصلاحي من ظرف يُمكِّن النقابات المهنية، على الأقل، من التدخل في تحديد الأجور والظروف أماكن العمل. قد تُقدم الأحزاب الإصلاحية، بداخل البرلمان وغرف المجالس المحلية، وعودًا بتوفير بعض التحسينات في الحياة اليومية، أو على الأقل تكون هي الدرع المنبعج الحامي للعمال من عصف السوق بهم.
جرت العادة أن النقابات المهنية تفرّق بين أهدافها الاقتصادية وأهدافها السياسية، ولا تتحدى الحكم الرأسمالي في حد ذاته، بل تطالب النقابات بمقعد على طاولة المفاوضات. أما عن استخدام السلطة الاقتصادية لجلب التغييرات السياسية فهذا أمر لا يُطرح. وتقبل الأحزاب الإصلاحية الشقيقة، في الوقت ذاته، بالنظام البرلماني، وبأعراف الدولة البرجوازية كحدودٍ لنشاطها.
الفريقان يقبلان بأن هذه “دولتهم” التي يدافعون عنها في وقت الحرب، وأنّ هذا هو “اقتصادهم” الذي يحمونه من المنافسة الأجنبية غير العادلة، وهذا هو “نظامهم القضائي” الذي يمتثلون له. أما بالنسبة لغالبية العمال والمضطهدين فلا يوجد في أغلب الأوقات سببًا يدفعهم لعدم الإيمان بأن النظام لا يمكن أن ينجح، طالما أنه انتُخب المرشحون والأحزاب المناسبة. فكرة أن السلطة لا بد من تنتزعها أيدي الطبقة العاملة لضمان التقدم الاجتماعي والاقتصادي، لا يؤمن بها إلا قلة.
شهد النظام الرأسمالي العالمي، على مدار العقود الثلاثة الماضية، سلسلةً من الأزمات الاقتصادية العظمى، تخللتها فترات ازدهار قصيرة، وحدثت على المستوى العالمي نقلةٌ من دولة رفاه إلى سوق حرة أو اقتصاد نيو ليبرالي وتوافق اجتماعي، تبعته نتائج كارثية. كما تغيرت توازنات القوى تمامًا مع زوال الاتحاد السوفيتي، وصعود الصين، وجهود الإمبريالية الأمريكية المتضافرة؛ لدعم هيمنتها وتثبيتها. تعاني بريطانيا من أزمة خاصة، وتحاول الطبقة الحاكمة البريطانية، منذ فترة، وقفَ هبوط بريطانيا، وإعادتها لمنحنى الصعود.
أدى هذا إلى أزمة عضوية في قمة الهرم الاجتماعي، مهدت الأرضية التي تُمكن “القوى المعارضة” من التنظيم على حد تعبير جرامشي. شهدت السنوات الخمس الأولي من القرن الواحد والعشرين مقاومةً متزايدةً للأجندة النيوليبرالية العالمية، ووصلت الحركة العالمية المناهضة للحرب إلى حجم غير مشهود. فقد شاهدنا في عدد من البلدان، وفي بريطانيا أيضا، تشكيلات يسارية جذرية تنشأ لتعلن رفضها لليسار المؤيد لاقتصاد السوق ذي الأرضية البرلمانية. تأخر الصراع الاقتصادي حتى الآن بسبب الهزائم التي مُني بها العمال في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، إلا أن ثمة مؤشرات تشير إلى أن هذا قد يتغير.
العديد من الحجج التي ساقها جرامشي حول طبيعة النزعة الإصلاحية وكيفية استمالة العمال للأفكار الثورية قد تكتسب حيوية جديدة في ظل هذا الوضع. لقد سيطرت الطبيعة المزدوجة للنزعة الإصلاحية وكيف يمكن استمالة العمال للأفكار الثورية على اهتمام جرامشي بعد الفترة الحمراء وانتصار الفاشية.