بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

أنطونيو جرامشي – النظرية والممارسة

« السابق التالي »

2- تورينو – مركز عاصفة الثورة

شهدت تورينو في السنوات الأولى من القرن العشرين انتشارًا سريعًا للتصنيع، يشبه ما يحدث اليوم في العديد من المدن الصينية والهندية. وهيمنت على المدينة صناعة السيارات الجديدة، وتحديدًا شركة “فيات” العملاقة. وقد ناهز عدد سكان تورينو، وقت قدوم جرامشي إليها، 400 ألف نسمة، 20% منها من عمال المصانع.

وكان كلٌ من الحزب الإيطالي الاشتراكي (PSI)، والحركة النقابية الإيطالية، ما يزالون في مراحلهم الأولى. فقد سيطر على الحزب إلى حد كبير موظفو الطبقة المتوسطة الراغبة في تحسين ظروف حياة الطبقات الدنيا، والرافضة للثورة في الوقت نفسه. أما النقابات فكانت في الأغلب توجّه أنظارها إلى العمالة الماهرة فحسب، وكان اتحاد النقابات الرئيسة (CGL) على صلة وثيقة بالقيادات الوسطية المعتدلة في الحزب الاشتراكي.

كلتا المجموعتين تقبلتا الدخول في اتفاق مع جيوفاني جيوليتي، الذي كان يقود آنذاك ائتلافات الحكومات المتتالية في العقدين الأولين من القرن العشرين، بعقد الصفقات وإقامة الموازنات بين المصالح المحلية المهيمنة على السياسة الإيطالية. كان جيوليتي يأمل في إدماج الاشتراكيين والقيادات العمالية النقابية في ذلك.

أما عمال تورينو المنتمين للاشتراكية، فقد حاولوا ترشيح شخصية راديكالية من الجنوب، كانت قد ألقت الضوء على الظلم الواقع على الجنوب أمام البرلمان. ورغم فشل محاولتهم إلا أنها أثارت اهتمام جرامشي الذي بدأ يرى في عمال الشمال حلفاء لمزارعي الجنوب وعماله، وأن الثورة الاشتراكية هي الطريق الوحيد إلى التغيير الحقيقي في الجنوب.

التقى جرامشي، الذي كان حينها طالبًا نجيبًا ومتفوقًا دراسيًا رغم الفقر والمرض، بمجموعة موهوبة من الشبان الاشتراكيين في جامعة تورينو. وتزامن وصوله إلى المدينة مع تفاقم الصراع الاجتماعي في كل أنحاء أوروبا، فقد تراجعت الأفكار الليبرالية التي هيمنت على السياسة السائدة، لتفسح المجال أمام نوع أكثر قسوة من سياسة الطبقة الحاكمة. وفي ذلك الوقت كانت حدة التنافس بين القوى الكبرى قد وصلت مداها، ففي الخارج كان يعني ذلك الاستحواذ على أجزاء أكبر فأكبر من العالم، وفي الداخل كان يعني المزيد من الضغط للحفاظ على الأجور المنخفضة مع الإنتاجية المتزايدة. كما حفّز فشل الثورة الروسية عام1905حكام أوروبا على قمع اليسار وقلاقل العمال.

طالب رجالُ الصناعة وملاك الأراضي في إيطاليا الحكومةَ، جنبًا إلى جنبِ مع التفاوض مع النقابات واليسار، أن تستخدم الدولة ضدهم كل ما أوتيت من سلطان. وأراد الكثيرون فتح مستعمرات في أفريقيا لمنافسة فرنسا وبريطانيا.

انتفض عمال الهندسة الصناعية عام 1911 في إضراب عام غير رسميٍّ ضد الهجمات الموجهة لظروف العمل التي وافقت عليها القيادات النقابية. وهُزِمَ الإضراب بعد مرور 75 يومًا، لكنه وفي العام التالي قاد موظفو اتحاد عمال المعادن (FIOM) إضرابًا استمرّ 93 يومًا من أجل استعادة دعم النقابة لهم. كانت السمة الجديدة هي البناء من أسفل للقواعد العمالية التي أُطلق عليها اللجان الداخلية، وكانت تُنتخب من قِبَل العمال كلهم في المصنع، سواء كانوا حاملين لبطاقة النقابة أم لا. وقد حاولت القيادات النقابية خارج نطاق الإضراب أن تحتوي هذه اللجان، وأن تُحيّدَها، ولكن وجودها كان يعني أن إعادتها للحياة ممكنة عند الحاجة.

كان موقف كل جانب من جانبي الفصل الطبقي يزداد جمودًا مع الوقت. حاول جيوليتي في عام 1911 أن يسترضي منتقديه بإطلاق حملة استعمارية لليبيا. وقد طالب وقتها الجيل الأصغر داخل الحزب الاشتراكي الإيطالي بإنهاء الاتفاق مع جيوليتي. وظهر ذلك في زيادة دعمهم للمزارعين الجنوبيين والعمال، الذين عانوا قمعًا بلا رحمة كلما احتجوا، كما ظهر في انتشار الأجواء المعارضة للعسكرية والاستعمار. كان جرامشي الآتي من جزيرة سردينيا متعاطفًا بالفعل مع الثورة المناهضة للاستعمار ضد القوى الأوروبية، واعتبر “مسألة الجنوب” مسألةً جوهرية، وقد ساهم كل ذلك في ازدياد اهتمامه بالماركسية. وفي عام 1913 جُنِّد في الحزب الاشتراكي على يد طالب زميل له هو أنجيلو تاسكا.

شكل بنيتو موسيليني، الشعلة النارية الآتية من منطقة رومانيا المتمردة، قوةً جاذبةً للتذمر من قيادات الحزب الاشتراكي الإيطالي الحذرة المتآمرة. وقد فاز موسيليني بمنصب رئيس تحرير الجريدة اليومية للحزب أفانتي (إلى الأمام)، بعد معارضة الاحتلال الإمبريالي الإيطالي لليبيا، وبعد خطبة حماسية في مؤتمر للحزب، هاجم فيها الجناح اليميني في الحزب الاشتراكي الإيطالي المتباطئ.

« السابق التالي »