أنطونيو جرامشي – النظرية والممارسة
انقسم الحزب الاشتراكي الإيطالي إلى أقلية وقواعد. الأقلية هي الجناح اليميني الإصلاحي، وهي فرقة تحمست لفكرة الانضمام إلى أي حكومة، وأما القواعد فأوصلت اليسار بأصواتها إلى مواقع النفوذ. وقد تبنى اليسار بقيادة جياسينتو سيراتي، بصوت عالٍ وسيل من الكلمات، الحد الأقصى من الانحياز للثورة، لذا أطلق عليهم أصحاب برنامج الحد الأقصى. بينما شدد الإصلاحيون على برنامج الحد الأدنى، ذلك الذي يحتوي على إصلاحات عاجلة. ولم تكن هناك أي محاولة لمدّ الجسور بين النضال الآني، والمهمة ذات المدى الثوري الأطول.
وفي يونيو لعام 1914 تحولت مظاهرة، كانت قد قامت ضد إرسال قوات عبر السفن إلى ألبانيا – التي كانت تقع تحت استعمار إيطالي حقيقي-، إلى انتفاضة وانتشرت في منطقة رومانيا. وانضمت إليها مدن بأكملها وأُعلن خلالها عن قيام الجمهوريات الاشتراكية، ورفرفت الأعلام الحمراء على مبنى البلدية. فلم يستطع الحزب الاشتراكي ولا النقابات أن يفعلوا شيئا، لذا تم قمع الانتفاضة على يد الجيش.
ومع تلبد سماء أوروبا بالغيوم، ارتفعت نداءات موسيليني من خلال مكتبه في الجريدة من أجل إعلان إضراب عام مناهض للحرب ومن أجل قيام ثورة. ولكنه في الحقيقة لم يكن لكل هذا محتوى حقيقي، غير مطلب من أجل العمل. بيد أن جرامشي والعديد من الاشتراكيين الشبان رحبوا به.
اندلعت الحرب في أغسطس عام 1914 بسبب التوتر بين القوى الأوروبية، ودخلت إيطاليا في تحالف مع ألمانيا والنمسا على أمل أن يكسبها ذلك أراضٍ في البلقان، إلى جانب حدودها في جبال الألب. ثم رفضت الدخول في حرب إيفاءً بهذا التحالف، وبدأت تقدم نفسها في العواصم الأوروبية بحثًا عن أكبر مكافأة لدخول حرب حمام دم.
أما داخل البلاد فقد طالب اليمين القومي الحكومةَ بإعلان الحرب إلى جانب فرنسا وبريطانيا، فالنمسا كانت العدو التاريخي للوحدة الإيطالية. ووضعت قطاعات الأعمال الكبيرة أعينها على العقود المربحة التي ستجلبها الحرب، في الوقت نفسه الذي أراد خصوم جيوليتي أن يتخلصوا منه، وقد أراد الجميع، بدءً من الملك نفسه مرورًا بمجموعة من الشعراء والفنانين إقامة إمبراطورية.
بحلول مايو لعام 1915 وبمساعدات مقدمة من فرنسا وبريطانيا، طالب اليمين شنّ الحرب. وقد أراد الحرب كلٌّ من الملك وخليفة جيوليتي كرئيسٍ للوزراء، ووقعوا معاهدة سرية مع بريطانيا وفرنسا، تحصل بموجبها إيطاليا على أراض في البلقان والشرق الأوسط وشمال أفريقيا (نشره البلاشفة وغيره الكثير بعد الثورة الروسية في 1917).
انقسمت إيطاليا، فدعم جيوليتي خيار الحياد إيمانا منه أن إيطاليا يمكنها أن تكسب أكثر. وعارضت الكنيسة الكاثوليكية صاحبة النفوذ الواسع الحرب؛ إذا أنها لا تستطيع أن تنحاز إلى جانب بلد كاثوليكي ضد بلد كاثوليكي آخر، دون تدمير مصالحها وثروتها. وقد برز الحزب الاشتراكي الإيطالي، من بين الأحزاب الاشتراكية في أوروبا الغربية، بمعارضته للحرب، ولكن ذلك كان فقط دعما للحياد ومعارضة لأي معارضة فعالة لجهود الحرب.
تردد البرلمان في إعطاء صوته للحرب فنزل اليمين إلى الشارع. ومع ممارسة القليل من الضغط تأرجحت الأصوات. وابتدعت خرافة اشتعلت بين اليمين، تُفيد بأن الأمة متحدة باستثناء اليسار المتطرف، والقساوسة الموالين للبابا أكثر من ولائهم لإيطاليا.
المهم أن اليمين قد ذاق النصر من خلال اللجوء إلى وسائل بعيدة عن البرلمان، رغم أن الاحتجاجات كانت بمساعدة ومعاونة الشرطة والجيش، وبتمويل الأعمال الكبيرة. وقد قام إضراب عام كبير في تورينو مناهض للحرب، إلا أن المدينة تُركت لتناضل وحدها، وقُمعت لا للمرة الأولى ولا الأخيرة.
ولكن ماذا كان موقف موسيليني، المناهض الحماسي للحرب؟ في خريف عام 1914 أعلن فجأة معارضته للحيادية. كانت خطوة قصيرة قبل دعم دخول إيطاليا للحرب. فقد قفز موسيليني ليستقيل من الحزب قبل أن يُدفع إلى ذلك، ولينشئ صحيفة جديدة هي “الشعب الإيطالي”، بتمويل مصنعي السلاح، وبمساعدات بريطانية فرنسية. عاد موسيليني لمكتب صحيفته في ميلانو، بعد خدمة قصيرة في الجيش، انتهت بعد إصابة بسبب حادثة مع قنبلة يدوية.
انفجر خبر انشقاق موسيليني كالقنبلة، وانتقلت أعداد صغيرة من نشطاء الاتحادات وأعضاء الحزب الاشتراكي والفوضويين معه، إلا أن داعميه من شباب الحزب أصيبوا بصدمة. وكتب جرامشي في تورينو مقالة ضعيفة في محاولة لشرح خطوة موسيليني الأولية لرفضه للحياد ثم انهار عصبيًّا.