أنطونيو جرامشي – النظرية والممارسة
كان جرامشي يبحث عن السبل التي تحول المجتمع الاشتراكي المستقبلي من فكرة مجردة إلى واقع، وكانت مجالس المصانع جسرًا محتملا يقود إلى المستقبل.
اجتمع العمال في تورينو في عامي 1919 و1920 في مصانعهم لانتخاب تنظيمات جديدة ولانتخاب مجالس المصانع -أو كما كان يطلق عليهم أيضا اللجان الداخلية- بشكل مباشر من ورش المصانع. وكانت أكثر من مجرد نقابات؛ حيث أنها نظمت كل العمال سواء كانوا أعضاءً في نقابات أو لم يكونوا. كان العمال بداخل النقابات أفرادًا منفصلين في كثير من الأحيان عن أقرانهم من العمال المنتمين إلى نقابات مختلفة، التي غالبا ما كان يشغلها قضايا الأجر وظروف العمل.
كان جرامشي بالطبع مؤمنًا بأن على العامل أن ينضم لنقابة، إلا أنه رأى أن مجالس المصانع تعدت هذا، مما سمح لهم أن يتضامنوا كمجموعة لتقوم بإدارة المصنع. “يحقق المجلس عمليًّا وحدة الطبقة العاملة، ويعطي الجماهير نفس الشكل والتماسك المتبع في التنظيم العام للمجتمع.” (جرامشي، كتابات سياسية 1920 – 1910، ص100).
اكتسبت مجالس المصانع هذه ديناميكية ثورية عندما بدأت في تحدّي حق الإدارة في السيطرة على عملية الإنتاج ذاتها. وكان بإمكانها أن تشكل الأساس الذي تُبنى عليه دولةٌ جديدة للعمال.
كما كان يتم عمل أساس من أجل وحدة جديدة في مكان العمل. في شهر مارس عام 1919 أضرب موظفو الياقات البيضاء في مصانع تورينو الهندسية؛ بسبب إعادة تصنيف الفئات. استُغنيَ عن عدد كبير من عمالة الياقات الزرقاء خلال هذا الإضراب الطويل، إلا أنهم ظلوا متضامنين مع مجموعةٍ كانت بعيدة عن التمرد، وكانت تنظر لنفسها على أنها أعلى درجة من العمالة اليدوية. فكرة وقوف عمال الياقات الزرقاء مع الياقات البيضاء متحدين أسرعت الوتيرة، وأطلقت فكرة ضرورية أن يشمل التنظيم كل مَن في المصنع وبشكل دائم.
شارك الجميع في انتخاب المجالس الجديدة بغض النظر عن معتقداتهم السياسية أو الدينية، وبغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو إذا كانوا يحملون بطاقة عضوية في نقابة مهنية أم لا. كانت لهذه المجالس القدرة على جمع كل من يساهم في عملية الإنتاج من فنيين وعمالة الياقات البيضاء، التي كانت تعتبر نفسها في ذلك الوقت من الطبقة الوسطى، هي والمزارعون والعمالة الريفية. هؤلاء أصبحت لهم هوية خاصة بهم وسلطة، بعد أن كانوا نكرة في العملية الإنتاجية.
حاول جرامشي، على عكس أنصار برنامج الحد الأقصى أو بورديجا الذي قاد المعارضة لهم من اليسار، أن يخاطب قضية تحرك الطبقة العاملة إلى الأمام، من الحاضر إلى المستقبل. وأصر على أن الدولة الاشتراكية كامنة بالفعل داخل مؤسسات الحياة الاشتراكية، التي تميز الطبقة العاملة المستغلة. واستكمل شارحًا أن اللجان الداخلية هي الأجهزة الديمقراطية للعمال التي لابد من تحريرها من القيود المفروضة عليها من قبل أصحاب الأعمال، وأن تُبث فيها الحياة والطاقة من جديد. “اليوم، تُحِد اللجان الداخلية من سلطة الرأسمالي في المصنع … أما غدًا إذا ما تم تطويرها وإثراؤها يجب أن تصبح أجهزة السلطة البروليتارية التي ستحل محل الرأسمالي في كل وظائفه المفيدة من التنظيم والإدارة”. (جرامشي، كتابات سياسية 1920 – 1910 ص65 – 66).
وحث جرامشي العمال على الدعوة لتجمعات جماهيرية في المصانع؛ لانتخاب المفوضين، تحت شعار “كل السلطة في الورشة، في يد لجان الورشة”، مع جملة مُكمّلة: “كل سلطة الدولة لعمال وفلاحي المجالس”.
كان من تقاليد اليسار قبل 1917 أن يعمل في مجالين منفصلين: أثناء ساعات العمل في الورشة يعمل كناشطٍ صالحٍ، وفي المساء والعطلات الأسبوعية يعمل كاشتراكي ينشر الفكر ويعمل في الحملات الانتخابية.
ثمة شيء كان مفقودًا، ألا وهو طريقة ربط المعارك اليومية في المصانع مع الكفاح من أجل مستقبل اشتراكي. رأي جرامشي في مجالس المصانع الأداةَ التي تجمع بين الاثنين، وتبني الجسر لتسد الفجوة التي يصر المجتمع الرأسمالي على أن تظل موجودة بين المطالب السياسية والاقتصادية. كما آمن جرامشي أن مجالس المصانع ستعمل من أجل تثوير النقابات والحزب الاشتراكي الإيطالي.
كان تأسيس مجالس من العوام يحدث بدرجة أو بأخرى في المراكز الصناعية الممتدة من سانت بطرسبرج في روسيا مرورًا ببودابست في المجر، وبرلين في ألمانيا حتى جلاسجو على ضفاف نهر الكلايد البعيدة. انبثقت السوفيتات الروسية من مجالس المصانع التي صوتت من أجل الاستيلاء على السلطة في أكتوبر 1917، ممثلين بذلك ملايين من العمال والفلاحين والجنود.