أنطونيو جرامشي – النظرية والممارسة
أتت لحظة الحسم في الفترة الحمراء في سبتمبر 1920 عندما أشعلت كثرةُ الإقالات لأعضاء النقابة في ميلانو احتلالَ المصانع بشكل واسع في إيطاليا. وبحلول الرابع من سبتمبر وصل 400 ألف عامل ليحتلوا المصانع، ومع مرور بضعة أيام وصل قفز هذا العدد إلى مليون عامل. اجتاحت حركة الاحتلال هذه، والتي كانت قوية جدا تحديدا في الشمال، كافة أرجاء البلاد. ها قد ظهرت أخيرا قومية حقيقية لتواجه الرأسماليين ودولتهم، وفاقت كونها مجرد احتلالات. أعاد العمال في مصنع تلو الآخر عملية الإنتاج تحت سيطرة العمال.
كتب جرامشي مبتهجًا: “يوم كهذا بعشرة أيام من النشاط المعتاد والدعاية المعتادة والإدراك المعتاد للمفاهيم والأفكار” (جرامشي، كتابات سياسية 1910 – 1920 ص340).
انتعشت مجالس المصانع على إثر الاحتلالات مباشرة في كل أنحاء تورينو. وفي شركة فيات قام مجلس بتعيين مفوضين خاصين؛ لتولي الأمن بداخل المصانع حفاظًا على النقل وإمداد المواد. كما شُكّل الحرس الأحمر لحماية المصانع من هجوم محتمل. وفي مصنع SPA صُنّعت قنابل يدوية ووزِّعت على المصانع المحتلة، في حين أن ورشة في شركة فيات تخصصت في صناعة الأسلاك الشائكة.
وقال جرامشي مجادلا إنّ المجالس عليها أن تخطو خطوة أخرى، وأن تؤسس منظمة على مستوى المدينة وقوة دفاع عسكرية، تلك القوة التي كانت موجودة بالفعل على مستوى المصانع. ولا يمكن تحقيق السيطرة على أماكن العمل، وإقامة ديمقراطية على طراز السوفييتات، والحفاظ عليها إلا في ظل ثورة وعصيان ضد سلطة الدولة القديمة.
إلا أن المشكلة الجوهرية تمثّلت في أن نفوذ النظام الجديد وجرامشي، رغم تأثيرهما الحاسم في تورينو، لم يكن لهما تأثير في أمكنة أُخرى، خاصة في مدينة صناعية كبرى أخرى وهي ميلانو. تشكلت مجالس المصانع في ميلانو، وفرض مسئولو الاتحادات المهنية والحزب الاشتراكي سيطرتهم عليها لضمان عدم تأثرهما بعدوى “تورينو”. رأى اتحاد عمال المعادن في الاحتلالات وسيلة للضغط على حكومة جيوليتي؛ حتى يعمل كحكم بين الحكومة وأصحاب الأعمال، لا أكثر.
كان جرامشي والنظام الجديد فعليًّا معزولان في تورينو. كان يقول إن ميلانو هي نقطة ارتكاز الثورة؛ لأن “قيام الثورة الشيوعية في ميلانو يعني قيامها في إيطاليا بأكملها، حيث إنها فعليًّا عاصمة الديكتاتورية البرجوازية”. (جرامشي، كتابات سياسية 1910 – 1920 ص152).
وكانت حجة جرامشي أن الاستيلاء على المصانع خطوةٌ هامة، إلا أنه يجب أن تتطور الأوضاع لأكثر من ذلك. وحتى تُحسم الأمور كان على العمال أن يُدفعوا للاستيلاء على المراكز الحقيقية للسلطة الرأسمالية، ألا وهي: وسائل الاتصال والمصارف والقوات المسلحة وباقي مؤسسات الدولة.
طالب أصحابُ المصانع القوات بأن تُخلي المصانع، إلا أن الحكومة المركزية لم يكن لديها أعداد كافية من العساكر، كما تشككت في ولائهم. وكانت الحكومة من جانبها تتطلع لاتحاد النقابات، وقيادات الحزب الاشتراكي ليحلوا المشكلة. ورغم خطابهم الثوري إلا أنهم كانوا كالأرانب الواقعين في الفخ، يُسلّط عليهم الضوء مع كل تطور ثوري للأحداث.
لم يستنتج جرامشي رغم ذلك أن على الثوار أن ينفصلوا عن الحزب ليشكلوا حزبًا شيوعيًا قبل ربيع عام 1920 – وذلك عندما غرق اليسار الإيطالي بالفعل في أزمة الثورة. في ظل هذه الظروف كانت القفزة بالنسبة لجرامشي وقسم من اليسار في تورينو سهلة نسبيًا في وقت قصير، إلا أن كسب أغلبية مجالس المصانع وعضوية الحزب الاشتراكي الإيطالي كان يتطلب وقتًا، في حين أن الوقت كان محدودًا.
علّق المؤرخ جوين وليامز قائلا: “إن اشتراكيي إيطاليا، وهم غير قادرين على الطريق الإصلاحي ولا على الطريق الثوري، أصبحوا بلا حيلة. لم يتبق في أيديهم سوى خدعةٍ واحدةٍ أخيرة: أن يتجاوبوا مع أبسط غرائزهم، بل عادوا إلى الوضع “الطبيعي”، فطرحوا المسألة للتصويت”. (جوين وليامز، النظام البروليتاري، بلوتو، 1975 ص256 – 255).
والتقت المجموعتان في ميلانو، وسألوا الموفدين من تورينو إذا ما كانوا مستعدين لشنِّ تمردٍ مسلحٍ؟ وجاء الرد بـ”لا”، إذ خشوا أن يُطلب منهم مرةً أخرى أن ينتفضوا وحدهم. ثم طالبت قياداتُ النقابات المهنية الحزبَ الاشتراكي أن يثورَ، فجاء ردهم بلا. وأخيرًا، وفي خضم الأزمة الثورية، أحالوا الأمر لمؤتمر يعقده اتحاد النقابات!
لم تضم تشكيلتُه ممثلين من مجالس المصانع، ولكن من أفرع الاتحاد، مستبعدًا بذلك أغلب العمال المتمردين. والمدهش أن الميل للثورة كاد أن ينتصر. إلا أن المفوضون الممثلون لعدد 245,591 صوتوا ضد ذلك، وجاء 569،409 صوت مع، في حين امتنع عدد 623،93 عن التصويت. فجاء القرار مناهضًا للثورة وأصبح لدى الاتحاد والحزب العذر بعدم العمل حسبما جاء التصويت، فانهزمت الحركة.
حضر عمال السكك الحديدية والبحرية المتمردون، ولكنهم لم يتمكنوا من التصويت. وكان المصوتون في غالبيتهم منحازين للموالين للاتحاد، أو من العاملين به، مما يُزيد من غرابة النتيجة بفارق ضئيل. ثم دخلت قيادات الاتحاد في مفاوضات لتحسين الأجور وظروف العمل، بالإضافة إلى وعد بأن يكون للاتحاد كلمة في كيفية إدارة المصانع. انتزعوا القبول بهذه الحزمة وإنهاء احتلال المصانع بصعوبة بالغة.
تول العمالُ المصانع، وأداروها لمدة تراوحت بين ثلاثة إلى أربعة أسابيع بلا أجر. كان إنجازًا رائعًا، ولم يترنّح إلا عندما وظفت قيادات الحزب والاتحاد نقاشها حول الثورة.
هل كانت لحظة ثورية؟ إذا كانت الإجابة تعتمد على إمكانية نشوب تمردٍ فوري على المستوى القومي، فهي لا. ولكن إذا ما فهمنا أن الثورة عمليةٌ تنشأ فيها سلطةٌ بديلة معارضة للدولة البرجوازية، وقادرة على إزاحتها في وقت ما، ففي هذه الحالة قد يُوصف الوضع بالثوري. كان هذا احتمال بيد مجالس المصانع، لو أنهم استطاعوا الخروج من تورينو. وبالتأكيد كان العنفُ رد فعل ناتج عن الفزع الذي شعر به أصحاب الأعمال.