بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

بروفات ثورية (1) | تشيلي 72 – 1973: العمال والثورة والعسكر

« السابق التالي »

10- اللعبة الأخيرة

انتهى تمثيل الفصل الختامي للدراما التشيلية في يوليو وأغسطس 1973. وفي شهر سبتمبر أغرق الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة الوحدة الشعبية تشيلي في حمامات من الدماء.

حُسمت كل الأمور الثانوية بين العمال والبرجوازية في صيف 1973، ولم يتبق إلا أن تخاض المعركة النهائية بين الجانبين على السلطة. كانت معظم المصانع تحت سيطرة عمال المصانع، كانت مراكز توزيع السلع تحت السيطرة العمالية المباشرة، وكان قد تم إعادة تشكيل منظمات الدفاع المصنعية. كانت الطبقة العاملة مُستعدة للمعركة النهائية في الصراع الطبقي، لكن قادتها لم يكونوا مُستعدين.

بدا آيندي أكثر إتساقا وتصميمًا في الخطاب الذي ألقاه 25 يوليو، بعد تردده ودعمه غير المتوقع للكوماندوس كوميوناليس في تصريحاته السابقة،. مرةً أخرى عاد آيندي يوجه نيرانه ضد الكوردونات واليسار بصفةٍ عامة، مُتهمًا الاثنين بأنهم يدفعون البلد إلى حد الحرب الأهلية. يتضح الطابع السياسي الرجعي لخطابه ويغدو أكثر حقارةً من السياق الذي ألقاه فيه، فقد كانت الصحافة اليمينية الآن تدافع علنًا عن الإطاحة العسكرية بالوحدة الشعبية، كما كان من المقرر أن يبدأ الإضراب الثاني الشامل للبرجوازية بقيادة سائقي الشاحنات في اليوم التالي للخطاب.

كان الكونجرس عمليًا في حالة محلك سر، مشلولا بالنظر في سلسلة من المقترحات من اليمين لعزل آيندي وإزاحته من الرئاسة. كان الاقتصاد مشلولًا: هبطت قيمة صادرات النحاس، توقفت البرجوازية عن الاستثمار، وازدادت صعوبة الحصول على قطع الغيار والمواد الخام، كما خلق التكديس حالةً خانقة من نقص السلع.

كانت البرجوازية تستخدم كل أسلحتها الاقتصادية، كما كان اغتيال مساعد آيندي الشخصي، كابتن آرايا، إنذارًا كافٍ على استعدادها التام لاستخدام أسلحة حقيقية.

إلا أنه حين مُرر قانون التحكم في الأسلحة أخيرًا في بداية أغسطس، لم يكن الغرض منه استخدامه كمظلة قانونية لاتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين كانوا يحضرون للإنقلاب أو ضد العصابات اليمينيةٍ المتطرفة المسلحة. على النقيض من ذلك، مثل القانون الوسيلة التي أتاحت للجيش والشرطة – في ظل حالة الطوارئ التي أعلنها آيندي – القيام بضرباتٍ استباقية ضد التنظيمات الجماهيرية.

تمت قيادة تلك العملية بطريقةٍ منسقة وممنهجة على مستوى البلد. في 7 أغسطس وصفت تقارير وقوع مدينة بونتو آريناس في أقصى الجنوب تحت الاحتلال العسكري الكامل، وقُتِل أحد العمال. في كوتين وتيموكو تمت مصادرة ممتلكات منظمات الفلاحين وقُبض على كثيرٍ من قادتها وعذبوا – وقد نشرت جريدة تشيلي أوي صورًا من علامات التعذيب في عددها في 30 أغسطس. في كل حالة من الحالتين السابقتين كانت عمليات العسكرة والقمع المباشر ممكنة لأن قانون التحكم في الأسلحة سمح لقيادات الجيش بفرض الحكم العسكري في أي مكان أو مدينة على حسب تقديراتهم. كان قرار فرض الحكم العسكري في مكان ما مازال يتطلب إذنًا رئاسيًا. وكان آيندي يمنح الجنرالات الضوء الأخضر لفرضه في كل مرة طلبوا منه ذلك.

وضعت حالة الطوارئ في بلدة سان أنتونيو في الصدارة الرجل الذي سيغدو رئيسًا لجهاز أمن الدولة سيء السمعة بعد الانقلاب، مانويل كونتريراس. إلا أن كونتريراس واجه مقاومةً عنيدة من التحركات الجماهيرية المنسقة.

في تياترو ديل بويبلو في أوسورنو التقت كل المنظمات المحلية تحت قيادة الكوردون المحلي ونشرت برنامجًا لإحكام السيطرة المباشرة على البلدة. تضمن هذا البرنامج المزيد من المصادرات للمصانع، ودعمًا لنضالات هنود المابوتشي المعدمين، والتزامًا بإعادة تنظيم الخدمة الصحية تحت سيطرة العمال، ودعوة للجنود العاديين بالفرار من الجندية والانضمام للعمال. حُدّدت الأمور بوضوح هنا في أوسور نو: كانت قرارات المنظمات الجماهيرية تحديًا مباشرًا للدولة البرجوازية.

أعلن آيندي، في 3 أغسطس، عن وزارةٍ جديدة تضم أعضاء من الوحدة الشعبية مع جنرالات. جاء هذا القرار مُتسقًا مع تحركات آيندي وتصريحاته في الأيام القليلة السابقة عليه. لقد تنازل آيندي وسلم تمامًا لفكرة أن القضية الرئيسية في تلك اللحظات كانت الدفاع عن الدولة البرجوازية والحفاظ عليها. وفي هذا اتفق مع أهداف البرجوازية.

فمن إذن كان العدو، من وجهة نظر الوحدة الشعبية، في تلك اللحظات الفارقة؟

وضح قائد الحزب الشيوعي لويس كوربالان هذا الأمر -من هو العدو؟- بما لا يترك المجال لأي شك، وذلك في خطبةٍ -تراجيدية- ألقاها في سانتياجو في 8 أغسطس. مدح كوربالان في الخطبة وطنية القوات المسلحة المتسقة وولاءها وندد -في نفس الخطبة- ندد باليسار المتطرف، الذي حمله مع العصابات الفاشستية مسئولية وقوع العنف. في الأيام الثلاثة السابقة، كان الجيش قد احتل بعض المصانع في كوردون ثيرييوس، واقتحمت القوات البحرية مستشفى بان بيورين في بالبارايسو. لذا، فحين كان كوربالان وآيندي يهاجمان “اليسار المتطرف”، كانا يوجهان سمومهما للقوة الوحيدة على الساحة التي كانت تناضل و تتحدى الدولة بجدية، الطبقة العاملة نفسها.

نادرًا ما وجدت منظمات اليسار نفسها أمام فرص واحتمالات دراماتيكية وخصبة للتغيير الثوري، مثلما وجدت في الفرص التي أتاحتها منظمات العمال -الكوردونات والكوماندوس- في تشيلي في يوليو وأغسطس من عام 1973. يُبذل العمل التمهيدي الطويل والصبور لأي منظمة ثورية من أجل لحظةٍ كتلك التي أتت في تشيلي في صيف 1973. لكن حين يتم الوصول لنقطةٍ كتلك، فإنها لا تترك أي مساحة من الوقت للتذبذب والجدال. إنها لحظة لا بد من اقتناصها فورًا وإلا تضيع. لكن للأسف لم يكن اليسار التشيلي كفؤا للقيام بهذه المهمة.

لم تكمن المشكلة في مسألة ضرورة تسليح العمال لأنفسهم فقط، والواقع كان يقول أن طبقة عاملة غير مسلحة في تلك اللحظة الحرجة لم تكن تستطيع مهما كان أن تجذب الجنود بعيدًا عن انضباط الجيش ولا تستطيع أن تقاوم عسكرًا واثقًا من نفسه. كان من الطبيعي والضروري تسليح العمال عند لحظة محددة، لكن القضية المحورية في تلك اللحظة كانت شيئًا آخر. تسليح العمال يرجّح كفتهم في الميزان فقط حين يُستخدم لتحقيق هدفٍ سياسيٍ واضح: الاستيلاء على السلطة والإطاحة بالدولة البرجوازية، وحين يُستخدم من قبل حركة منظمة ومنسقة تحت قيادة ثوريين بفهمون طبيعة اللحظة.

لا يعني هذا أن كل ما هو مطلوب لنجاح الثورة هو وجود مجموعة من الثوريين المُصممين ينتظرون في الخلفية متحينين فرصتهم وسلاحهم جاهز للحظة المناسبة. فنجاح الثورة يتطلب تطور حركة سياسية قادرة على قيادة الطبقة العاملة، منظمة مزروعة في نضالات الطبقة الحياتية ومبنية حول فهم ناضج للصراع الطبقي وامكانياته.

في غياب قيادة سياسية كهذه فإن الثورة الاجتماعية تغدو مستحيلة، بالتأكيد إن النداءات للنضال المسلح من النوع الصادر عن MIR أو ألتاميرانو سكرتير الحزب الاشتراكي في الأيام الأولى من أغسطس 1973 كانت نداءات غير مسئولة لأقصى درجة. وفي هذه المرحلة، حتى الحزب الشيوعي – في مقطوعة أخيرة من الانتهازية- كان يدعو العمال لتسليح أنفسهم. وهنا نقلت دعوة ألتاميرانو للجنود العاديين بإلقاء أسلحتهم مسئولية الإمساك باللحظة الثورية للجندي الفرد -حين كانت هذه المسئولية تقع بوضوح على التنظيمات الثورية، أو تلك التي كانت تدعي الثورية.

في أواخر أغسطس شاع جوٌ من الإحباط في صفوف الطبقة العاملة التشيلية. جاءت احتفالات الذكرى الثالثة لفوز آيندي في الانتخابات في 4 سبتمبر كئيبة ومحبطة – على الرغم من وجود نصف مليون شخص في الشوارع.

بدت نتيجة الانقلاب العسكري بعد أسبوع محسومة سلفًا. غير أنه الأمر كان من الممكن أن يسير في طريق آخر. كان العمال جاهزين للنضال ومستعدين لعواقبه، كانت الأجهزة التي يمكن أن تبنى عليها سلطة عمالية موجودة بالفعل. بيد أنه حتى النهاية، اعتمدت كل منظمة من اليسار في تشيلي على الوحدة الشعبية، ونظرت إلى الدرجة العالية من النضال الجماهيري فقط كنوعٍ من الضغط على الوحدة الشعبية، وتخاذلت عن توفير قيادة ثورية بديلة. ارتقى ذلك الفشل في محاولة لعب دور القيادة للصراع الطبقي لمستوى ترك العمال عرضة للانتقام الوحشي للبرجوازية، ويجب أن تتحمل كل منظمة من منظمات اليسار التشيلي المسؤولية في هذه الخطيئة.

فشل خطاب آيندي الأخير على هذه الخلفية، والذي أذاعه على الراديو ساعات معدودة قبل قتله في الانقلاب العسكري الذي أطاح به، فشل في فهم وتوضيح لماذا حدث ما حدث. لم يتعدَّ صياحه الغاضب الأخلاقوي ضد من قاموا بالإنقلاب وتأكيده على أن التاريخ “سيدين الجنرالات”، لم يتعدى كونه رفضًا منه – رفضًا لايمكن أن يغتفر له- لتحمل مسئوليته الشخصية في ضياع الثورة و الأمل ووقوع الكارثة، كما ترك خطابه الأخير أكاذيب عديدة عن ما حدث في تشيلي للأجيال التالية.

أعطت أحداث 1972 و1973 في تشيلي للعالم بصيصًا منشكل سلطة العمال وقدرتهم على تحمل تحديات الصراع الطبقي. وقد وضحت هذه الأحداث – بصورة تراجيدية – أن عدو الثورة في تلك اللحظة هو “الإصلاحية”، وهي سياسات ومواقف أولئك الذين اختاروا أن يكونوا الأكثر التزامًا بالدفاع عن الدولة البرجوازية بدلا من تغيير العالم.

في أعقاب كارثة تشيلي، أُعيدت كتابة التاريخ الحقيقي لحماية الإصلاحيين حول العالم من العواقب الحقيقية لسياسات المصالحة والمهادنة المزمنة. كان الانقلاب الذي وضع نهايةً لصراعات 1972 – 73 في تشيلي هزيمةً رهيبة ووحشية للطبقة العاملة، لكنه لم يكن نتيجة مواءمة عالمية، كما أنه لم يكن أمرًا حتميًا. كان ثمة احتمالٌ آخر على الأجندة التاريخية لا ينبغي أن نسمح بدفنها.

تظل أهمية ثورة تشيلي في 1972 – 73 في الميراث الغني والرائع من النضال الذى تركته لنا من أجل نضالات المستقبل.

« السابق التالي »