بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

بروفات ثورية (1) | تشيلي 72 – 1973: العمال والثورة والعسكر

في 27 أكتوبر عام 1972، أغلق أصحاب اللوريات في تشيلي شاحناتهم مُعلنيين بذلك عن اتخاذهم موقفًا واعيًا من العداء الطبقي للحكومة الاشتراكية. لم يكن المُضربون سائقين يعملون بالأجرة، بل كانوا مالكي شاحنات رأسماليين، يمتلك بعضهم أساطيل كاملةً تسيطر على نقل البضائع على الطرق السريعة في ذلك البلد الطويل والنحيف جغرافيًا. كان هذا الإضراب إضراب رجال أعمال، أعطتهم محدودية حجم شبكة القطارات الوطنية أصحاب اللوريات مركزًا اقتصاديًا حاسمًا في تشيلي، وقوةً حقيقية – اختاروا استعمالها في تلك الأيام العصيبة.

منح قرارُ حكومة “سلفادور آيندي” الاشتراكية في بداية هذا الشهر، بتأميم شركة نقلٍ صغيرة في بلدة أيسن في أقصى جنوب البلاد، الذريعةَ للسيد ليون برييلان، رئيس اتحاد أصحاب اللوريات، ليعلن عن قرار الإضراب. كان بيلارين نفسه سياسيًا معروفًا بانتمائه لليمين المتطرف. لم يكن الإضراب رغم ذلك نتاج مجرد مؤامرةٍ صغيرةٍ من اليمين، بل كان خطوةً رئيسيةً في استراتيجية كاملة للبرجوازية، أُسند فيها لأصحاب الشاحنات دور قوات الصاعقة للطبقة الحاكمة بأسرها، وهي الطبقة التي كانت مُصممة على استعادةِ السيطرة على الدولة التشيلية، التي شعرت في تلك الأيام أنها بدأت تفقدها.

كان إضراب أكتوبر الخطوة الثانية في تلك الاستراتيجية السياسية والاقتصادية للطبقة الحاكمة. وكانت الشهور السابقة قد شهدت تصاعدًا مُستمرًا في حشد وتعبئة الطبقة الوسطى ضد الثورة، كما شهدت عددًا من الانتصارات السياسية لليمين ضد الحكومة الاشتراكية.

توصل قادة المعارضة اليمينية، مع حلول شهر أكتوبر، إلى قناعة بأن الوقت بات مناسبًا للبدء في مرحلة الهجوم لإسقاط حكومة آيندي.

ولكن كما تبين فيما بعد، فقد أخذت الأحداث، بعد فشل إضراب أكتوبر، منحى غير متوقع للبرجوازية التشيلية وبنفس القدر لحكومة سالفادور آيندي.

دفع نجاح آيندي في انتخابات 1970 الرئاسية بسلسلة الأحداث للتصاعد. حمل آيندي إلى السلطة موجةً من نضال الطبقة العاملة، لم تملك البرجوازية حيالها ردًا. شرع آيندي بعد تقلده الرئاسة بصورة رسمية في ديسمبر 1970، في تنفيذ سلسلة محدودة للغاية من إجراءات الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي لصالح العمال والفقراء، لم تضر تلك الإصلاحات في حد ذاتها إلا بمصالح قطاعات محدودة من الطبقة الحاكمة القديمة. لكن البرجوازية التشيلية رأت في هذه الاصلاحات خطرًا سياسيًا هائلًا على سلطتها، ليس بسبب جذرية مضمونها، وإنما بسبب السياق الذي نُفّذت من خلالِه.

لقد جاء انتخاب آيندي للرئاسة في 4 سبتمبر 1970، نتيجةً لتنامي الثقة السياسية لدى الطبقة العاملة في السنوات القليلة التي سبقت 1970، و ضاعف انتصاره من شعور العمال والجماهير بتلك الثقة وبإمكانياتهم.

أصيبت القيادة السياسية للبرجوازية طيلة الشهور التسعة الأولى لحكومة آيندي بحالة من الشلل وعدم الاتزان، فقد اقتصر ردها على محاولات بائسة لتعطيل أي إصلاحات تخدم مصالح الجماهير من خلال المحاكم والبرلمان، بالإضافة إلى محاولات حشد طبقتها في حركات احتجاجية وتظاهرات ساخطة.

ولكن مع أواخر 1972، توصل قادة اليمين من أمثال بيلارين إلى قناعة بأن دعم آيندي من قبل الطبقة العاملة قد بدأ يخبو، فالنجاح الاقتصادي للعام الأول – الذي استفاد منه العمال إلي حد ما – حلت محله أزمة اقتصادية عميقة، عبّرت عن نفسها في زيادة معدلات التضخم، وانسحاب الاستثمارات، والتعطيل المتعمد من قبل الرأسماليين لعملية الإنتاج.

وجدت حكومة آيندي نفسها بصورة متزايدة في صراعٍ مع العمال والفلاحين الذين صوتوا لها، حيث إنه مع تنامي رعب الحكومة من اليمين، سعت لطمأنة البرجوازية بكونها على استعداد لتقديم تنازلات في شأن أيٍ من وكل الإصلاحات المقبلة.

أخذت الحالة الاقتصادية تزداد صعوبةً بصورة متزايدة، كما أن الاستراتيجية الدفاعية للطبقة الحاكمة، والمتمثلة مبدئيًا في الإبطاء الممنهج لكلٍ من الإنتاج والتوزيع المقترنين برفض الاستثمار، هذه الاستراتيجية كانت قد أخذت تخلي مكانها لمحاولةٍ دؤوبة لخلق فوضى اقتصادية. وكان إضراب أصحاب الشاحنات جزءًا من هذا المحاولة. وكان من الممكن أن تنجح استراتيجية الطبقة الحاكمة، لولا أن الطبقة العاملة انبثقت على مسرح السياسة وقامت بالسيطرة على الشوارع والمصانع.

وللمرة الثانية في أقل من عام، أخذت منظمات الطبقة العاملة زمام المبادرة السياسية وهزمت البرجوازية المُعبئة في مواجهاتٍ مباشرة، وللمرة الثانية أثبت القادة السياسيون التقليديون للعمال أنهم يخشون قوة وتنظيم العمال التشيليين أكثر من خوفهم من أعدائهم الطبقيين.

عبرت أحداث تشيلي عن مفارقةً درامية. مارست الطبقة العاملة سلطتها مباشرةً في الدفاع عن مكتسباتها، لكن بقدر ما كان ذلك الدفاع ينمو ليشكل تحديًا للدولة البرجوازية ذاتها، تمثل رد القيادة التقليدية للطبقة العاملة في استدعاء العسكر، لاستعادة سلطة تلك الدولة. هكذا خُلق السياق الذي تحركت فيه الطبقة الحاكمة الموزعة في اتجاه أكثر الحلول فظاظةً وبربريةً للصراع الطبقي – انقلاب الحادي عشر من سبتمبر 1973.

استُخدم النموذج التشيلي حول العالم، في السنوات التي أعقبت الانقلاب، من قبل الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية على حد سواء، كدليلٍ على أنه في الظروف الحالية يتعين على أي عملية تغييرٍ أن تلتزم بحدود ما هو مقبول من قبل البرجوازية – “الحل الوسط التاريخي”.

وفق هذه المعطيات، استُخدمت تشيلي لتبرير نبذ هذه الأحزاب للنضال لوصول الطبقة العاملة للسلطة. إلا أن الاستنتاج الذي توصلت إليه تلك الأحزاب يتضمن تزييفًا وتحريفا للتجربة الحقيقية في تلك الحقبة الدرامية من الصراع الطبقي.

« السابق التالي »