بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

بروفات ثورية (1) | تشيلي 72 – 1973: العمال والثورة والعسكر

« السابق التالي »

3- وعد “الوحدة الشعبية”

وصل سالفادور آيندي للسلطة في عام، كممثلٍ لتحالفٍ من ستة أحزاب أُطلق عليه “الوحدة الشعبية” (UP)، كان ذلك سادس ظهورٍ لآيندي كمرشحٍ لجبهة عريضة من هذا النوع. كون الحزب الاشتراكي، الذي كان آيندي عضوًا فيه، والحزب الشيوعي التشيلي الكتلتين الرئيسيين في الوحدة الشعبية. تزعمت هاتان المنظمتان بجدارة القيادة السياسية للطبقة العاملة التشيلية. جاءت هيمنتهما داخل الطبقة العاملة كمحصلةٍ تاريخ متسق من النضال البروليتاري، بدايةً من الإضرابات البطولية لعمال النايترات في العقد الأول من القرن العشرين.

أُسُس الحزب الشيوعي التشيلي في عام 1920 من قبل لويس إميليو ريكابارين، أحد أهم منظمي أمريكا اللاتينية الثوريين. أما الحزب الاشتراكي فقد تأسس في بدايات أربعينات القرن العشرين وكان يطرح أيضًا – مثل الحزب الشيوعي – مشروع الثورة العمالية – حتى أن دستوره حتى عام 1970 كان مازال يعلن عن التزامه بالإطاحة المسلحة بالدولة الرأسمالية.

إلا أن الحزبين – الاشتراكي والشيوعي – أبديّا التزامًا صميمًا باستراتيجية الاعتماد على التحالفات الانتخابية للوصول للحكم من أجل تحقيق الاشتراكية، مُؤسسين تنظيماتٍ جبهوية عريضة لكل انتخاباتٍ رئاسية كل ست سنوات لانجاح استراتيجيتهم. على الرغم من ذلك، ظلت جذور الحزبين في أوساط الطبقة العاملة عميقة، وهو الأمر الذي ساعد آيندي على الحصول على 36 بالمائة من الأصوات الشعبية في انتخابات 1970.

بالتأكيد لمّا لم يفز آيندي بأغلبية الاصوات، فإن فوز ائتلافه، الوحدة الشعبية، أُرجع إلى الانقسامات داخل البرجوازية. بالتأكيد، لقد سقطت تنظيمات البرجوازية في المشاحنات و”الشللية” بعد فشل “ثورة الحرية” – برنامج التنمية المحدودة والإصلاح الذي وعدت به حكومة الديمقراطيين المسيحيين تحت قيادة إيدواردو فراي (1964 – 1970). لكن تفسير فوز آيندي بأنه نتيجة فشل معطيات البرجوازية فقط، هو تفسير يتجاهل الدور النشط الذي لعبته الطبقات العاملة خلال تلك السنوات.

دفع فشل حكومة فراي، في تطبيق إصلاحاتها الموعودة، الطبقةَ العاملة في طريق نضال جذري متصاعد. ففي 1967 على سبيل المثال، تزامن رفع الحكومة الحظر على تكوين النقابات العمالية الريفية مع صدور تشريع للإصلاح الزراعي، وقد قوبل ذلك الإجراء بمقاومة عنيدة من قبل الأوليجاركية المالكة للأراضي، تلك الطبقة التي لم يكن فراي مستعدًا أو راغبًا في مواجهتها.

صُمم ذلك الإصلاح الزراعي، والذي كان الهدف منه خلق طبقة مُستقرة من صغار المزارعين، لتهدئة التوترات الطبقية في الريف، لكن جاءت النتيجة عكس ذلك تمامًا. فأولئك الذين كان لديهم أمل في الاستفادة من الإصلاح الزراعي – وصوتوا للديمقراطيين المسيحيين من أجل هذا الغرض – شعروا الآن بأنه تم الاحتيال عليهم. من ناحيةٍ أخرى، فإن الفلاحين الذين لم يمتلكوا أي أرض، والذين لم يُوعدوا بأي شيء من البداية، كانوا قد بدأوا موجةً نضال من أجل احتلال الأراضي الزراعية.

كان فراي قد وعد بنمو الصناعة، وقد جذب ذلك الوعد العاطلين الريفيين للمدن. كانت الموجات الأسبق من المهاجرين الريفيين للمدن قد استقرت في أحياء الطبقة العاملة، وبنى هؤلاء المهاجرين مدنًا عشوائية بوضع اليد في المساحات الخالية، كما كانوا قد بدأوا في التنظيم والنضال من أجل حقهم في أرض للإسكان والمرافق الأساسية.

لقد لعبت تنظيمات المهاجرين الريفيين دورًا مهمًا في أحداث 1972 و1973. لم يكن كل من الفلاحين المعدمين وواضعي اليد على الأراضي ضمن التنظيمات التقليدية للطبقة العاملة وقيادتها. ولذلك فقد كانوا منُفتحين على النفوذ السياسي لقطاعٍ ثالث تكفلت المرحلة بدفعهم للراديكالية – الحركة الطلابية.
تطورت الحركة العامة للإصلاح التعليمي في 1968 – 1969 في تشيلي، وبلغت ذروتها في مسيرةٍ ضخمة على العاصمة سانتياجو من كل ركنٍ في البلد. لكن تياراتٍ أخرى اشتركت في تلك الحركة أيضًا.

إن جيلًا من الشباب الثوريين تأثر بثورة 1959 الكوبية، وبالرومانسية الثورية التي رمز لها تشي جيفارا. وجد ذلك التيار في تشيلي تعبيرًا عنه بتأسيس الحركة الثورية لليسار (MIR) عام 1965. وإذا كانت تجربة فراي الإصلاحية قد قُصد منها تقديم بديلٍ غير ثوري للتغيير، فإن فشلها أنتج مجموعةً ثانيةً من الشبان الإصلاحيين الذين صاروا راديكاليين: منظمون في حركة العمل الشعبي المتحدة (MAPU) واليسار المسيحي، موجهين طاقاتهم الأساسية لتنظيم برنامج الإصلاح الزراعي، وحين بدا أن حكومة فراي ستتخلى عن التزامها بهذا البرنامج انضمت (MAPU) للوحدة الشعبية (UP).

لم تؤثر أزمة حكومة فراي فقط في القطاعات التي كانت غير منظمة من قبل، بل أثرت أيضا داخل الحزب الاشتراكي حيث عاد انقسام داخلي قديم الأزل يؤكد نفسه في جدال حول أيهما من المفترض أن يحتل الصدارة في أنشطة الحزب: التنظيم النقابي أم الانتخابات البرلمانية. ذلك الجدال القديم داخل الحزب لم يُعاد من قبيل الصدفة، ولكنه عاد للظهور تحت ضغط التطورات في حراك الطبقة العاملة.

نظم اتحاد نقابات عمال تشيلي في بدايات 1968 إضرابًا عامًا احتجاجًا على خطط فراي لتوقيع عقود مع النقابات تمنع الإضرابات. وفر نجاح الإضراب وقودًا لنضالية الطبقة العاملة: في 1968 و1969 واجه العمال ارتفاعًا في الأسعار بلغ قرابة الخمسين بالمائة، وتزايدت البطالة التي صُحبت بردود قمعية من الحكومة. زاد عدد الإضرابات من 1939 إضراب يشمل 230,725 عامل في 1969 إلى 5295 إضراب يشمل 316,280 عامل في 1970.
كان هذا إذن هو المناخ الذي وصل فيه آيندي إلى الرئاسة في 1970.

حاول برنامج الوحدة الشعبية (UP) السياسي الموائمة بين المصالح المتضاربة أحيانًا للقوى السياسية التي اعتمد عليها التحالف. وفي كل الأحوال فقد اقترح آيندي تفعيل الإصلاحات فقط، التي كان من الممكن تمريرها في ظل التشريعات القائمة والتي تستطيع أن تحظى بموافقة كونجرس يسيطر عليه اليمين. وضع ذلك قيودًا شديدة على ما هو ممكن من الناحية الفعلية، وهي القيود التي سمحت لليمين بتحديد سرعة التغيير.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار منظوره “الانتخابوي” الحازم، فإن آيندي لم يكن يستطيع أن يفعل أي شيء من شأنه تنفير أصوات الطبقة الوسطي التي أعتمد عليها إلى حد ما في انتصاره، والتي كانت تستطيع أن تعطيه أغلبية برلمانية. لكن المفارقة تمثلت في أنه كان يستطيع أن يحافظ على تأييد هذه القطاعات فقط بمقدار ما تستطيع الحكومة أن تقوم به، لتبرهن على مقدرتها على السيطرة على الطبقة العاملة وتحجيم حركتها.

في الاقتصاد، شرعت الوحدة الشعبية في استكمال برنامج فراي غير المُنجَز للنمو والتحديث، برفع الاستهلاك عن طريق رفعٍ عام للأجور، ومن ثم إعادة تفعيل الكثير من مقدرة تشيلي الصناعية غير المستغلة. وفي الزراعة، تعهد آيندي بتنفيذ قانون الإصلاح الزراعي لعام 1967 كما هو، بما يشمله ذلك من التزام الحكومة دفع تعويضات سخية للمالكين، مقرونة بالتعهد لهم على إبقائهم على أخصب 500 فدان لاستخدامهم الشخصي بالإضافة إلى أفضل الآلات الزراعية.

غير إن العنصر المحوري من تلك الحزمة كان التأميم دون تعويض لمناجم النحاس المملوكة لأمريكا. فعلى الرغم من مضي سنوات دون أن تستثمر الشركات الأمريكية فيها أي شيء، فإن التأميم منح حكومة آيندي السيطرة على أكبر صناعات التصدير التشيلية. من ناحيةٍ أخرى، فإنه في حين أن برنامج الجبهة الشعبية الكامل شمل تأميم المصالح الصناعية والمالية الأساسية، إلا أنه ترك أغلب الشركات في أيدي الملكيات الخاصة. تمثل تصور الجبهة الشعبية في ضم 150 شركة صناعية فقط للقطاع العام من أصل 3500 شركة، وهو ما مثل 40 بالمائة من الناتج الإجمالي، وقد خُفّض لاحقًا هذا الرقم.

لم يكن ثمة شيء ثوري في حزمة سياسات الوحدة الشعبية على الرغم من تأكيدات الإعلام العالمي أن تشيلي قد انتخبت لتوها أول رئيسٍ ماركسي للبلاد. لم يختلف برنامج الوحدة الشعبية كثيرًا من حيث المضمون عن برنامج فراي الإصلاحي، كونه خطة “كينزية” أرثوذكسية لإعادة تشغيل الاقتصاد. لم يحوِ برنامج الوحدة الشعبية أي تحدٍ لسيطرة رأس المال الخاص، على النقيض من ذلك فقد أعطى البرجوازية الصناعية جملةً من الضمانات ومنح لمالكي الأرض تعويضات سخية.

كان الفارق الحقيقي بين الوحدة الشعبية وفراي يكمن في علاقة الوحدة الشعبية بالطبقة العاملة. كانت المساهمة الكبرى للوحدة الشعبية في إعادة تنشيط الاقتصاد التشيلي هي مقدرتها على السيطرة على الطبقة العاملة والحصول على دعمها لبرنامج النمو الاقتصادي. لكن حتى هذا لم يكف لإزاحة شكوك البرجوازية، لذا، وكدليلٍ نهائي على احترامه للدولة البرجوازية والتزامه ببقائها، وكمقابل لسماح الأحزاب اليمينية له بتولي الرئاسة في نوفمبر 1970، فإن آيندي قام بتوقيع “ميثاق الضمانات”. وقد وعدت هذه الوثيقة بأن حكومة آيندي سوف تحترم الدولة وهياكلها وسوف تترك كل تلك الأدوات التي طورتها البرجوازية لحماية مصالحها الطبقية متماسكة – النظام التعليمي، الكنيسة، الإعلام، والقوات المسلحة.

ظل “الميثاق” ساريًا من الناحية العملية رغم أنه لم يُعرض أبدًا على أنصار الوحدة الشعبية للتصويت أو المناقشة. جعل استمرار العمل بالميثاق من تأكيدات بعض منظري الحزب الشيوعي بأن الوحدة الشعبية قد “أحكمت قبضتها على جزء من السلطة”، بما يمكنها من شن هجومٍ على مؤسسات الدولة الباقية، جعلها تأكيدات جوفاء وهزلية. في حقيقة الأمر، لقد كان الإعلان بمثابة وعد من آيندي لرأس المال بعدم محاولة القيام بأي تحول جوهري في المجتمع التشيلي.

من ثم كانت استراتيجية الوحدة الشعبية تفترض التعاون بين رأس المال الخاص والدولة لتحقيق النمو الاقتصادي. كان سيتم تأميم بعض المصارف وشركات التأمين بالإضافة إلى مناجم النحاس، مع منح الحكومة رأس المال الخاص جملة من الإعانات من الدولة. كان هدف آيندي طويل الأمد يتمثل في بناء اقتصاد مختلط من ثلاث قطاعات – عام وخاص ومختلط.

و قد شملت استراتيجية الوحدة الشعبية بالطبع تعاونًا موازيًا على المستوى السياسي بين حكومة آيندي والبرجوازية. حين كان آيندي يتحدث عن “السلطة الشعبية” في خطبه الرئاسية، لم يكن بالتأكيد يشير إلى أي مبادرة على مستوى القاعدة الشعبية، أو لأي نضال من أجل السلطة العمالية. لقد كان من شأن “الإعلان” والحوار المستمر بين آيندي والبرجوازية – المقترنين بنداءاته المستمرة للطبقة العاملة بكبح الجموح والانضباط الذاتي – أن يتركا زمام المبادرة السياسية مع البرجوازية.

كانت منظمات كتلك التي أنشئت بدعمٍ حكومي في الشهور الأولى من 1972 في الأساس أدوات للحصول على دعم شعبي لإنجاح إجراءات الحكومة – كلجان الإمداد والتوزيع المحلية أو اللجان المحلية للوحدة الشعبية. وبالطبع، فإن إشارات آيندي العديدة لـ”السلطة الشعبية” في شهوره الأولى في الحكومة، لم يُراد بها إلا قبولًا من الجماهير الكادحة وبدون مساءلة لقرارات قيادة الوحدة الشعبية.

« السابق التالي »