بروفات ثورية (1) | تشيلي 72 – 1973: العمال والثورة والعسكر
ظلت مصداقية آيندي متماسكة في العام الأول من حكومة الوحدة الشعبية بشكل كبير. غير أن التوترات التي لم تُحل ظلت تقبع تحت السطح مباشرة، إذ لو كان النصر الانتخابي جاء كنتيجة لدرجةٍ متزايدةٍ من النضال، فإنه أيضا شجع الفكرة القائلة بأن المكاسب تُصنع فقط عبر النضال. لم تر قطاعات عديدة من العمال والفلاحين سببًا يجعل من وصول آيندي إلى قصر الرئاسة مبررًا لوقف تعبئتهم الذاتية.
إن تنظيمات الفلاحين المعدمين، مثلا، والتي شجعها التزام الوحدة الشعبية بالإصلاح الزراعي كثفت من مصادرتها للأراضي. في مايو 1971 طالبهم آيندي بالتوقف عن احتلال الأراضي وانتظار عملية التقاضي، ودعا أيضا قيادة MIR التي كانت تتمتع بنفوذ داخل صفوف الفلاحين وتنظيمات المدن العشوائية ووبخهم على عملهم خارج نطاق القانون.
كان آيندي راغبًا في مناقشة الأمر، لكن زادت كثافة هجومه وزملائه على هذه وغيرها من المبادرات المستقلة مع مضي العام الأول. في المقابل، فإن منظمات الطبقة العاملة أظهرت قدرًا أكبر من الطاعة. بالفعل لم تقع إلا بعض المناوشات القليلة بين العمال المنظمين والحكومة في النصف الأول من 1971. من ناحية، فإن أحزاب الوحدة الشعبية كانت تسيطر بحسمٍ على النقابات العمالية، ومن ناحيةٍ أخرى، فإن النقابات كانت المستفيد الأساسي من زيادة الرواتب والوظائف الجديدة التي نتجت عن تنشيط الاقتصاد. في العام الأول من انتخاب آيندي زادت رواتب العمال اليدويين بنسبة 38 بالمائة، ولذوي “الياقات البيضاء” بنسبة 120 بالمائة. انخفضت البطالة لما دون العشرة بالمائة وزاد الناتج القومي في الإجمال بنسبة 8 بالمائة.
مثّل الهدوء النسبي للشهور الأولى لحكومة آيندي ببساطة “الهدوء الذي يسبق العاصفة”. كانت البرجوازية تتحين وقتها لا أكثر، وتُضمد جراحها مُنتظرة اللحظة المناسبة للهجوم المضاد. لم يدع رجال أعمال تشيلي 1971 يمر بهم هكذا، فقد صدروا كل ما قدروا عليه من رأس مالهم للخارج ولم يستثمروا شيئًا في الداخل – وفي أحيانٍ كثيرة كانت الإعانات الحكومية هي الأموال الوحيدة التي تصل إلى المصانع. أدى ارتفاع مستوى معيشة العمال إلى ارتفاع مهول في الطلب الاستهلاكي وبالتالي لنقص في السلع، فاقم منه التخزين الممنهج من قبل الطبقة الوسطى، ووفر مناخ الندرة وانعدام الأمان للبرجوازية الظروف المناسبة لشن أول تحد لآيندي.
اختيرت لحظة الهجوم بعناية. في نوفمبر 1971، قام الرئيس الكوبي فيدل كاسترو بزيارة تشيلي. وفي ثاني أيام زيارته، استُقبل كاسترو بمظاهرة يمينية سُميت “مسيرة الأواني الفارغة”. تحت قيادة الأحزاب اليمينية، خرجت مئات من سيدات الطبقة الوسطى إلى الشوراع يلوحن بطناجر فارغة من قبيل الرمز لنقص السلع. تمثّلت المفارقة هنا في اصطحاب الكثيرات من المتظاهرات لخادماتهن معهن – على الأغلب ليساعدنهن في حمل الأواني والطناجر التي كانت قلة منهن تستخدمها بنفسها.
بيد أنه وراء الاحتجاجات على نقص السلع الاستهلاكية كان يكمن غرض آخر أبعد أثرًا، ألا وهو حشد الطبقة الوسطى وتحذير البرجوازية على نطاق أممي من المعارك المقبلة، وللتعبير عن شك البرجوازية في قدرة الوحدة الشعبية على احتواء الطبقة العاملة.
فقد كان من الصحيح أنه على الرغم من مناشدات الوحدة الشعبية للعمال بضبط النفس وهجماتها المستترة بصورة هزيلة على المضربين والمستولين على الأراضي بوضع اليد، فإن آيندي لم يستطع السيطرة على حركة الطبقة العاملة كليةً. وصل عدد الإضرابات ما بين يناير وديسمبر عام 1971 إلى 1785 وكان هناك 1278 عملية غزو من الفلاحيين المعدمين للأراضي الزراعية. ردت البرجوازية بالهجوم على الحكومة والسعي لعزل ومحاكمة وزير الداخلية هوزيه توها وحجب إجراءات التأميم في البرلمان. وخارج البرلمان اشتكوا من ” الاحتلالات غير القانونية” التي لم تكن من صنع اليسار المتطرف، وإنما كانت أيضًا عملًا عفويًا من قبل الفلاحين والعمال وعمال المناجم.
إن المُدهش حقًّا أن آيندي وأعداءه اتفقوا على هذه النقطة: إن أكثر تهديدٍ يواجه الحوار المستمر بينهما – الذي اعتمدت عليه استراتيجيته – كان النضال المستمر للطبقة العاملة ذاتها! لقد نُوقشت خطة الوحدة الشعبية الاقتصادية، لعام 1971 بصورة مطولة مع مجموعات المعارضة والمنظمات المهنية والتكنوقراطية، لكنها لم تناقش في أي مرحلة بصورة علنية ولا قُدمت للنقابات العمالية للموافقة عليها. ولم يكن من المُستغرب بأي حال أن يرد العمال على نمو السوق السوداء ونقص السلع وتجدد التضخم عن طريق إعادة تنشيط منظمات نضالهم التقليدية وبالأخص النقابات لحماية المكاسب التي حققوها.