بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

بروفات ثورية (1) | تشيلي 72 – 1973: العمال والثورة والعسكر

« السابق التالي »

5- شقوق في التحالف

مع بداية الوحدة الشعبية لعامها الثاني في السلطة، أثار هجوم اليمين، ورد فعل الطبقة العاملة المستقل عليه، جدلًا جديدًا. وفي حين تمثل رد فعل آيندي على هذه التطورات في التحرك لتهدئة مخاوف البرجوازية، فإن ذلك خلق توترًا في علاقة الوحدة الشعبية بأنصارها، وأثار تساؤلاتٍ جوهرية عن “الطريق التشيلي للاشتراكية” المزعوم.

ثمة استراتيجيتان مختلفتان تمامًا تعايشتا داخل الوحدة الشعبية، وتطلبت الأحداث حلا لهذا التناقض. هل ينبغي على الوحدة الشعبية دعم العمال في نضالهم للدفاع عن مستويات معيشتهم والحيلولة دون تقويض البرجوازية لمكاسب العام الماضي أم لا؟ وإن فعلت الوحدة الشعبية هذا، فأي استراتيجية سياسية يستتبعها القيام بذلك؟

كان هذا هو السؤال المركزي الذي واجه الممثلين السياسيين للمنظمات التي تكونت منها الوحدة الشعبية أثناء لقائهم في مؤتمر “إل آرَّايان” في فبراير 1972، ومرةً أخرى في مؤتمر إعادة في “لو كورُّو” في يونيو. تركز الجدل حول استراتيجية الوحدة الشعبية المستقبلية في شأنٍ أُشير إليه في الخيار بين تدعيم موقعهم القائم أو التقدم للأمام. ارتأى الجناح اليميني وقف عملية الإصلاح، وتدعيم المكاسب التي حُقّقت، والسعي وراء تحقيق دعمٍ انتخابي أوسع قبل المضي قدمًا. من الناحية الفعلية كان ذلك يعني رهن “الطريق التشيلي للاشتراكية” لأهواء قطاعات الطبقة الوسطى التي أغرقها اليمين بقدر كبير من الاهتمام. بينما دافع اليسار في الوحدة الشعبية عن ضرورة الإسراع بخطى الإصلاح وتعميق عملية التأميم والاعتماد على النضالات الحقيقية للجماهير.

جادل اليسار بأن الطبقة العاملة قد برهنت على استعدادها دفع الصراع قُدمًا ووجه السؤال لليمين: هل سيقتدي قادة الطبقة العاملة السياسيون بالطبقة؟
لكن طيلة الجدال، لم يقترح أي شخصٍ بأنه يتعين على أي منظمة التحرك خارج نطاق الوحدة الشعبية. دار النقاش دائمًا حول ما ينبغي أن تفعله الوحدة الشعبية من موقعها داخل الدولة.

رأى الحزب الشيوعي والجناح اليميني للحزب الاشتراكي تحت قيادة آيندي بأن على الحكومة ألا تمضي أبعد من ما قطعت في توسيع القطاع العام، وأن عليها أن تعيد تأكيد استعدادها للتفاوض مع البرجوازية عن طريق إظهارها في مجال الممارسة أنها قادرة على السيطرة على الطبقة العاملة، وأن عليها السعي لتحقيق توافق عريض على سياساتها. وكان من المرجو أن يؤدي حل وسط كهذا بالبرجوازية إلى احترام المكاسب التي حُقّقت بالفعل – حتى على الرغم من كون الأحداث كانت قد أظهرت أن العكس هو الذي كان يحدث.

جاءت الحجة المضادة من (MAPU) واليسار المسيحي ويسار الحزب الاشتراكي ( وكانت مدعومةً أيضًا من MIR وإن لم يكونوا ممثلين في النقاشات) بأنه يجب توسيع القطاع العام وإعادة تأكيد التزام الوحدة الشعبية الأصلي بتأميم 90 شركة كبرى – بقرار حكومي كان قد خُفِّض هذا الرقم ل 43 – وفي الخوض عمليًا في الصراع الأيديولوجي لكسب الدعم الجماهيري لهذه السياسات.

ولكن جاءت خلافات اليسار مع اليمين داخل الوحدة الشعبية في الكم أكثر منها في الكيف. لم تقدهم “راديكالية الأرقام” التي طرحوها كبديل لأرقام اليمين أبدًا للتساؤل عن العلاقة بين الدولة ورأس المال الخاص، ولا طرح مسألة من يملك السلطة بالفعل حتى تلك اللحظة وما هي الرؤية لشكل وتوجه الاقتصاد ككل.

اتفق اليسار ككلٍ على أن “أجزاء من السلطة” قد كُسبت “بالفعل”، لم يعبر أحد عن القلق على “الأجزاء الأخرى” من السلطة التي ضمنها آيندي للبرجوازية. وظل الخطاب المرتبك هو النمط اليومي. فمثلا، دعت (MAPU) الحكومة لاستخدام “جهاز الدولة القائمة بأسلوب جماهيري”!! كان انعدام حسم (MAPU) قد تكشف في مؤتمرها القومي في يناير 1972 حين أعطت دعمًا قويًا لخطة جديدة مشتركة بين الوحدة الشعبية واتحاد النقابات CUT، لمشاركة العمال في ادارة في الصناعة، وهو الاقتراح الذي مثل من الناحية الفعلية تراجعًا عن سياسة التأميم، كما ضمت MAPU صوتها لصوت الوحدة الشعبية في إدانة ” اليسارية – المتطرفة” لحركة MIR. فهل كانت ولاءات MAPU مع اليسار أم مع اليمين؟

إنّ أي نظرة تُلقى على النقاشات والجدالات التي كانت تدور في مؤتمرات الوحدة الشعبية تعطي القارئ شعورًا بسذاجة ولامعقولية ما كان يُطرح فيها. فالخطب الجيدة والمُلهبة للمشاعر في تلك المؤتمرات تجاهلت تماما حقيقة أن الاتجاه المستقبلي للعملية السياسية التشيلية كان يُحدّد خارج الكونجرس وبعيدًا للغاية عن القصر الرئاسي في حي “لامونيدا”.

كان آيندي في يناير1971، وقبيل انعقاد مؤتمر “إل آرَّيان”، قد سلم بالفعل للمطالب بعزل ومحاكمة الوزير “هوزيه توها” لإهانته القوات المسلحة وقبل استقالته. وفي مارس، عندما دعت شركة النحاس الأمريكية كينيكوت – والتي كان قد أُمّمَ فرعها التشيلي – لحظرٍ عالمي على النحاس التشيلي وتقدم السيناتور المسيحي الديمقراطي كارلوس هاميلتون بأول مشاريع قوانين لمنع أي تأميماتٍ مقبلة.

كان رد آيندي من الضعف بمكان اضُطر معه في إبريل للقيام بإجراء تحركٍ تصالحي صوب يسار الوحدة الشعبية، فاتحًا مباحثاتٍ رسمية مع MIR في إيماءة لليسار بصفةٍ عامة – على الرغم من أنه لم يعرض حلًا وسط لخلافاته الاستراتيجية مع MIR.

تكشف بوضوحٍ في 12 مايو شكل ما هو آتٍ في واقعة في مدينة كونثبثيون الصناعية. فعندما أعلنت منظمة طلابية يمينية نيتها عن القيام بمسيرة خلال المدينة، ردت عددٍ من التنظيمات اليسارية بما فيها MIR لتظاهرة مضادة ضد اليمين. وفي هذه الأجواء المتوترة فرض العمدة الشيوعي حظرًا على كل المسيرات أمر شرطة مكافحة الشغب للتدخل ضد التظاهرة المضادة. خلف العنف الناتج عن ذلك قتيلًا من أنصار MIR. وجاء رد الحكومة عبر المتحدث الرسمي باسمها الشيوعي “دانييل بيرجارا” مجرد إدانة العنف “سواءً من اليسار أو اليمين”.

أيضًا في مايو رفض مؤتمر قومي لعمال الغزل والنسيج مجرد مشاركة العمال في إدارة الشركات وعوضًا عن ذلك طالب بسيطرة العمال على الصناعة ومحاسبة كل المسؤولين. جاء الرد على ذلك في يوينو بإعلان وزارة جديدة للوحدة الشعبية خلت بصورة لافتة من “بيدرو بوسكوفيك”، اليساري المستقل الذي جعل منه تأييده لسياسة المزيد من التأميم هدفًا مفضلًا لليمين.

أعاد مؤتمر الوحدة الشعبية، في نفس الشهر، الاجتماع في لو كوررّو بعد أن ضمن يمين الحركة اليد العليا. كان فقدان اليسار لأي بديلٍ واضح ليقدمه أحد أسباب ذلك الوضع، حتى إذا كان الجناح اليساري من الاشتراكيين قد دفع في لو كوررّو مناقشة بعض مطالب “السلطة الشعبية” التي بدأت في الظهور من مؤتمر عمال الغزل والنسيج.

استأنف آيندي في نفس الوقت المباحثات من المسيحيين الديمقراطيين (والتي كانت قد عُلقت لفترة وجيزة قبل ذلك بشهر)، وأعاد التصريح بالتزامه بالسعي وراء السلم الاجتماعي وحكم القانون. وكُشِف عمّا عناه هذا الالتزام في التطبيق العملي في منطقة “ميليبيّا” الريفية بالقرب من العاصمة “سانتياجو” أثناء يونيو 1972.
كان هناك في منطقة ميليبيّا عددٌ من المزارع من الكبر بمكان يسمح بمصادرتها وفق قانون الإصلاح الزراعي، لكن القاضي المحلي، أولاتي، وضع بصورة متكررة عراقيل قانونية في طريق إعادة توزيع الأرض وتعاون بصورةٍ متسقة مع مالكي الأرض المحليين.

أدت تظاهرة للفلاحيين في وسط مدينة ميليبيّا في الثاني والعشرين من يونيو إلى اعتقال اثنين وعشرين عضوًا قياديًا في تنظيم العمال الزراعيين. تلى ذلك سلسلة من تظاهرات الاحتجاج، وفي الثلاثين من نفس الشهر أُغلقت كل الطرق السريعة المؤدية للمدينة. ثم في 12 يوليو سارت تظاهرة جماعية من ميليبيّا إلى سانتياجو مُطالبةً بإطلاق سراح الاثنين وعشرين، والفصل الفوري للقاضي أولاتي. إلا أن الحكومة رفضت التدخل.

كان لأحداث ميليبيّا مغزىً أعمق مما بدا للوهلة الأولى. فخلال الاحتجاجات في ميليبيّا تضامن العمال من منطقة ثيرييوس المجاورة مع رفاقهم الريفيين في النضال. وجدت ثيرييوس نفسها غارقة في سلسلة من النزاعات الصناعية التي لم تحسم، ففي أواخر يونيو قام العمال في مصانع بيرلاك وبوليكرون للغزل والنسيج ومعامل لاس أميريكاس للألومنيوم ومصنع ثيرييوس للدجاج بالإضراب. وانضم بذلك المضربون لإخوانهم وأخواتهم في ميليبيّا.

قال عامل زراعي لصحفي أثناء الأحداث: “لدينا أناسٌ لنطعمهم وأسر لنحافظ عليها. وقد نفد صبرنا تمامًا” – ولاحظ محاوره أن العمال الحضريين والزراعيين الذين كان يخاطبهم وافقوا على أن “البرلمان لا يمثل مصالحهم”. أما المحتجون، فبينما أعربوا عن دعمهم لآيندي، فقد اشتكوا من كون مجلس النواب والمؤسسات الأخرى شكلت العقبة الرئيسية لتنفيذ برنامج الوحدة الشعبية.
غير أن التحرك المشترك من قبل العمال الزراعيين والصناعيين فتح المجال لاحتمالاتٍ جديدة ومختلفة تمامًا. إذ برز من النضال المشترك تنظيمٌ من نوعٍ جديد، تشكل في سياق إضرابات ثيرييوس، وسمي نفسه “الحزام الصناعي” أو “الكوردون”. ثم تطور “كوردون” آخر في منطقة “بيكونا ماكينّا”.

وقد نشر كوردون ثيرييوس بيانًا في أوائل يوليو مطالبا بسيطرةٍ عمالية على الإنتاج واستبدال البرلمان بمجلسٍ عمالي. تخطت مطالب كردون ثيرييوث بمراحل أي شيءٍ كان قد تمت مناقشته علانيةً من قبل أحزاب اليسار حتى تلك اللحظة.

غير أن الكردون حتى ذلك الوقت كان يُوصف من قِبل الصحيفة الراديكالية ” تشيلي أوي” كمجرد لجنة لاستمرار الإنتاج وتطبيق قرارت الحكومة في الاقتصاد. ولم تكن قدرة الكردون الكامنة كقاعدة بديلة للتنظيم الاجتماعي والسياسي قد دخلت رأس الكل بعد.

أمر الحزب الشيوعي والجناح اليميني للحزب الاشتراكي أعضاءهم بمقاطعة “الكوردونات”. وقد كان من رأيهم أن كل التحركات لابد من تنسيقها عبر قيادة الاتحاد العام للنقابات الرسمية (CUT). عكس ذلك الخط “التدعيمي” – الذي خرج منتصرًا من مؤتمر لو كوررو. لقد كان أن قرر أنه لن تكون هناك تعديات أخرى على رأس المال الخاص ولا تحديات للدولة، وقد روج آيندى لمقولة أن التنازلات للبرجوازية ستضمن احترامهم للعمليات الدستورية.

بدا أن العمال أنفسهم هم الوحيدون الذين أدركوا أن الصراع الطبقي لا يتوقف، وأن الطريقة الوحيدة للدفاع عما اكتسبوه هي تكثيف هذا الصراع، وأن البديل لذلك كان السماح للبرجوازية بالقتال لاستعادة ما فقدته.

بصورةٍ مفارقة، فإن الدعم الشعبي المتزايد للحركة الشعبية، كما عكسته كلٌ من الانتخاب التشريعية التكميلية في كوكيمبو، وانتخابات المكتب التنفيذي لاتحاد النقابات (CUT)، عبر عن ذلك الإدراك لدى العمال. لكن الجناح اليميني فسر ذلك الدعم بصورةٍ مختلفة – فسره كتعبيرٍ عن الموافقة على استراتيجية الحركة الشعبية الملتزمة بالتعاون الطبقي.

صارت تناقضات الموقف أكثر وضوحًا، حيث وضعت واقعةٌ إثر الأخرى الحكومة في مواجهةٍ مع قطاعاتٍ من العمال والفلاحين والطلاب وساكني مدن الصفيح. قُبض في يوليو على أعضاء مجموعة يسارية متطرفة، قاموا بالإغارة على مصرفٍ وعُذبوا من قبل قوات الأمن، التي كان على رأسها “كونتريراس” المعين من قبل آيندي شخصيًا. تعاملت الحكومة، في مناطق أعمال التنجيم، مع الإضرابات بخصوص شئونٍ محلية عن طريق استدعاء حالة طوارئ، وكانت النتيجة وضع مناطق المناجم تحت السيطرة العسكرية المباشرة.

أغارت الشرطة والجيش في 18 أغسطس على مجمع مدن الصفيح في لو أورميدا في سانتياجو. ظاهريًا، كانت القوات تبحث عن أعضاء آخرين في مجموعة يسارية متطرفة، ولكن في واقع الأمر، كانت لو أورميدا من الناحية السياسية منطقة لا وجود فيها للجبهة الشعبية على الأرض. هنا، كما في باقي الأحياء الفقيرة، تمتعت MIR بسيطرة سياسية تامة عن طريق منظمات جبهوية محلية مثل حركة “مدن الصفيح الثورية” (MRP). وبالتالي قوبلت عملية الشرطة بمقاومة جماعية، فانسحبوا وعادوا في اليوم التالي ب 400 رجلٍ مسلح. وترك هجوم القوات هذه المرة قتيلا، واثنى عشر جريحًا و160 معتقلًا.

على الرغم من أن آيندي قدم اعتذارا لاحقًا لـ” لو أورميدا “على هذه الغارة، تظل الحقيقة أن الحكومة استغلت الواقعة للهجوم على اليسار الثوري، ولتوجيه تحذير إلى كل أولئك الذين بدأوا يعملون خارج الإطار الدستوري، ولطمأنة البرجوازية على تصميم الحكومة على حفظ القانون والنظام.

كانت هجمات مثل تلك، بالنسبة للبرجوازية نفسها، في” لو أورميدا ” مناوشات مبكرة لتجربة “عضلاتها العسكرية” ومقدرتها على العمل المباشر.

بالنسبة لآيندي، كان الأمر المحوري هو هيمنة الحركة الشعبية سياسيًا. ففي حين حافظت الحركة الشعبية دون جدال على الهيمنة السياسية داخل حركة الطبقة العاملة، فإن الصراع نفسه طرح أسئلة سياسية لم يكن من الممكن الإجابة عليها في إطار إصلاحية الحركة الشعبية.

فلو تم، مثلا، تسريح تنظيمات العمال والفلاحين لوقوعها خارج سيطرة الحركة الشعبية، فما هي الضمانات التي تستطيع الحكومة تقديمها في المقابل بأن الحق في الاحتجاج والتظاهر لن يُهدّد من قبل الشرطة أو المجموعات اليمينة المسلحة؟ هل سيواجه آيندي أصحاب المصانع سواء في إغلاقهم للمصانع أو تخريبها لو لم يوقفهم العمال أنفسهم؟ هل سيقود آيندي العمال في الصراع الطبقي لدى اشتداده، أم أنه سيستمر في لعب دور الحكم؟

تسيدت هذه الأسئلة الجمعية الشعبية Popular Assembly التي عقدت في مدينة كونثيبثيون في آخر يوليو حين اجتمع حوالي 3000 آلاف مندوبٍ، يمثلون نطاقًا واسعًا من تنظيمات اليسار والنقابات والطلاب لمناقشة الظرف السياسي. كان الغائب الوحيد في هذا الاجتماع هو الحزب الشيوعي الذي أدان اجتماع كوسبثيون واصفًا إياه بأنه “مناورة من قبل الرجعية والإمبريالية تستخدم فيها عناصر من اليسار المتطرف كغطاء”. كرر آيندي نفسه في تصريحٍ صدر في 31 يوليو فكرة الحزب الشيوعي اليميني نفسها:

“للمرة الثانية خلال ثلاثة شهور أصبحت كونثيبثيون مسرح لعملٍ عصبوي، كان من أثره تقويض تجانس حركة الوحدة الشعبية. لا يوجد شك في ذهني أنها كانت عملية تخدم مصالح أعداء القضية الثورية”

أكد آيندي في الخطبة نفسها مرة أخرى وبوضوحٍ تام “التزامه بالديمقراطية البرجوازية ومعارضته لتطوير السلطة المزدوجة Dual Power بين العمال والبرجوازية “التي نشأت في مواقف تاريخية مختلفة عن ظروف تشيلي، لمعارضة هيكل قوى رجعية لم يكن لها لا قاعدة اجتماعية ولا دعم”.

رأي آيندي أن محاولة خلق أجهزة سلطة مزدوجة في تشيلي كان يعد عملًا يتصف باللامسؤولية التامة، لأن الحكومة التشيلية – في نظره – كانت تمثل مصالح الطبقة العاملة ككل. خَلُص أيندي “إلى أنه ليس بالإمكان تصور أن أي ثوريٍ عاقل يمكنه أن يتجاهل النظام المؤسسي الذي يحكم مجتمعنا والذي يشكل جزءًا من حكومة الوحدة الشعبية. أي شخصٍ يقترح عكس ذلك يجب اعتباره من معسكر الثورة المضادة”.

كانت هناك اختلافات داخل الجمعية نفسها، خاصةً فيما يتعلق بالعلاقة مع آيندي. ففي حين طرح كل من (MAPU) ويساريي الحزب الاشتراكي أنه من المفروض أن تقوم الجمعية بممارسة ضغط منظم على الحكومة للمضي قُدمًا في برنامجها فإن MIR دعت لتطوير برنامج ثوري. ولكن حتى MIR كانت مُحافظة في تعريف مغزى دعوتها، ولم تطالب في أي وقت بتشكيل منظمة ثورية جديدة توحد منظمات النضال المُمثلة في الجمعية.

على الرغم من ذلك لم يستخلص أي من المشاركين حقيقة أن خُطى النضال المتسارعة والمعمّمة على عرض البلاد، كانت تتطلب في هذه اللحظات أكثر من مجرد دعم النضالات. كان منطق الأحداث يطرح على الثوريين سؤالا ملحًّا عن المحتوى الطبقي للدولة نفسها: ما هي المصالح التي كانت الدولة تمثلها وتحميها؟ إلا أنه لم يكن من الوارد أو الممكن أن يطرح هذا السؤال المحوري إلا قيادة ثورية مُستعدة لوضع قضية الاستيلاء على السلطة على جدول الأعمال.

أخذ تطور الأحداث، في خلال أسابيع، في (لو إيرميدا) مغزىً جديدا أكثر شؤما، إذ قُيّمت بأثر رجعي، في حين فرُضت حالةُ الطوارئ مرة أخرى، هذه المرة في مقاطعة (بيو بيو) حيث تحرك المتظاهرون للدفاع عن محطة إذاعة مناصرة للحكومة تعرضت للهجوم من قبل اليمين. كان من الواضح أن آيندي على استعداد لاستخدام الدولة ضد أنصاره، واستدعاء الجيش والشرطة للدفاع عن القانون القائم والوضع (البرجوازي) الراهن.

لكن على الرغم من محاولاتهم عرقلة العملية، فإن الصراع الطبقي كان يفلت بسرعة من تحت سيطرة آيندي والوحدة الشعبية. رأت البرجوازية تذبذبه كعامل في مصلحتها، ونظمت بصورة علنية حملة معارضة سياسية وتخريب اقتصادي. وفي القناة التاسعة على التلفاز، في آخر يوليو، كان القسيس اليميني المتطرف الأب آسبون قد شرع في إصدار دعوات لانقلاب عسكري ضد آيندي.

كان قياديو الوحدة الشعبية -الذين أدانوا العنف والحرب الأهلية- يطالبون الطبقة العاملة بترك الأمر للحكومة للرد على تحركات اليمين، غير أن الحكومة، والتي كانت قد برهنت بالفعل على أنه ليس لديها أي نية في الرد على هذه التهديدات، تراجعت ببساطة أمام تهديدان اليمين ووضعت ثقتها في الشرطة والجيش.

لذلك حين أعلن آيندي في آخر سبتمبر عن مشروع قانون “السيطرة على الأسلحة” فإن المستهدف به من هذا الإجراء كان بوضوح تنظيمات العمال، وترك للجيش مهمة تجريدهم من السلاح. لم تأتِ أي من هذه التنازلات بالنتائج التي زعم آيندي أنها ستتحقق، بل على النقيض من ذلك، ففي كل مرة أعلنت فيها قيادة العمال عدم استعدادها للقتال ازدادت ثقة البرجوازية ويقينها بأن الطبقة العاملة لن تقوم بالرد على هجماتها.

تواجدت بالتأكيد ثمة ثقة في دوائر الطبقة الحاكمة في تلك اللحظات، ولذا أطلق أصحاب المحلات في سبتمبر إضرابًا احتجاجيًا ضد التسعيرة الجبرية ونقص السلع. ظلت تلك الثقة في التعمق وحفزت أصحاب الشاحنات على بدء إضرابٍ مفتوح في 11 أكتوبر.

أصيبت الطبقة الحاكمة عند هذا المنعطف بصدمة قاسية – لا على أيدي آيندي وحلفائه -الذين استمروا في إنكار أن صراعًا جوهريًا على السلطة أصبح أمر واقع الآن – ولكن على أيدي الطبقة العاملة التي قامت بالسيطرة المباشرة على آليات الصراع، ومن ثم ولدت نطاقًا من أنماط التنظيم التي منحت بصيصًا عن الكيفية التي ينبغي أن يخاض بها النضال من أجل سلطة العمال وتحقيق ذلك.

« السابق التالي »