بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

بروفات ثورية (1) | تشيلي 72 – 1973: العمال والثورة والعسكر

« السابق التالي »

6- انتفاضة البرجوازية

خُطِّط إضراب مالكي الشاحنات جيدًا، فعلى الرغم من كونه حظي بموافقة البرجوازية كلها إلا أن منظمة (بارتيا ي ليبرتاد) الفاشية هي التي تولت التنظيم اللوجستي للإضراب. قام أعضاء هذه المجموعة بتوزيع حرس مسلحين في كل التجمعات السكنية المحصنة على أطراف كل مدن تشيلي الرئيسية، حيث ركن سائقو الشاحنات مركباتهم في 11 أكتوبر.

لم يكن الإضراب أمرًا غير متوقع ولا سري بصورة خاصة. كان إضراب أصحاب المحلات في سبتمبر، مع استمرار المقاومة اليمينية المنظمة في الكونجرس لكل مبادرات الوحدة الشعبية، بمثابة رسائل إنذار مبكرة من البرجوازية. كانت جريدتان يساريتان قد عرضتا معلوماتٍ تفصيلية عن استعدادات اليمين للإضراب (والذي أختاروا له الاسم الكودي “خطة سبتمبر”) قبل أن يبدأ بأسبوعين كاملين. ولو أنه تبقى ثمة أي شك في نوايا البرجوازية لكان قد تبدد بعد مظاهرة اليمين الحاشدة في 10 أكتوبر في سانتياجو، والتي تميزت بجوها المحموم وبنداءاتها من خطيب تلو الآخر بالتحرك الجماعي ضد الحكومة. وكان أحد هؤلاء المتحدثين المحرضين فوجل، عضو الحزب المسيحي الديمقراطي و نائب رئيس اتحاد النقابات (CUT).

بيد أنه لا آيندي ولا الوحدة الشعبية قاما بالرد على الإطلاق. في الشهور السابقة حل آيندي كل كارثة محتملة عن طريق استدعاء الجيش لاستعادة النظام. لكن الآن، مع اقتراب موعد بدء إضراب أصحاب الشاحنات، بدا كما لو أن آيندي كان يتجاهل عن عمدٍ تجهيزات اليمين متظاهرًا بأن لا شيء يحدث، بدا أن خوف آيندي من النشاط الجماهيري المستقل كان أكبر من قلقه بصدد المعارضة اليمينة لحكومته.

كان من الممكن أن يكون أثر الإضراب سلبيا وفوريا، كان من الممكن أن يوقف شلل حركة النقل على الطرق السريعة وصول أي سلع للشعب -من الطعام وقطع الغيار والمواد الخام، بالإضافة إلى ذلك لم يقع إضراب أصحاب الشاحنات في سياق معزول، فقد دعم أصحاب المحلات إضراب أصحاب الشاحنات بإغلاق حوانيتهم، وحاول أصحاب المصانع إيقاف تشغيل ماكيناتهم بكل الطرق حتى التخريب، كما أنضمت التنظيمات المهنية كالأطباء والمحامين وأطباء الأسنان للإضراب وأوقفوا كل أنشطتهم؛ ليضيفوا لجو الهلع.

كانت استراتيجية اليمين لضرب اليسار والعمال كالآتي: استخدام قوتهم الاقتصادية – تلك القوة التي كانت مازالت متماسكة بصورة كبيرة-؛ لخلق حالة من النقص في السلع والفوضى الاقتصادية. راهن اليمين على أن الهلع الذي سيترتب على تلك الحالة إما سيجبر آيندي على الاستقالة، وإما (وهو الأفضل) سيضطره وهو مازال في السلطة لفرض إجراءات التقشف الضرورية على الفقراء بنفسه، ومن ثم يخسر تماما القاعدة الجماهيرية للوحدة الشعبية، وهي الخسارة التي ستؤدي في النهاية إلى هزيمة مدوية للوحدة الشعبية في انتخابات الكونجرس في مارس 1973.

يرجع الفشل الكلي لهذه الاستراتيجية للطبقة العاملة. فبالنسبة للعمال، كانت خطورة الوضع على نفس القدر من الوضوح. كانت المهمة المباشرة للعمال هي إبقاء عمل منظومة المواصلات، وتشغيل المصانع، وتأمين إمدادات الطعام والسلع الضرورية. خرجت مجموعات من العمال للشوارع في أول يوم، تمت السيطرة على كل وسيلة متاحة للمواصلات وتسييرها من قبل متطوعين. وفي المصانع شُكّلت لجان متطوعين لحفظ الأمن ومنع التخريب واستمرار الإنتاج.

نظمت الطبقة العاملة، في الأحياء السكنية العمالية، طوابير طويلة هادئة خارج المحلات والمتاجر الكبيرة، وإما أُقنِع أصحاب المحلات بفتحها، وإن لم يحدث ذلك فقد فُتحت وأبُقيت مفتوحة من قبل أهل المنطقة أنفسهم الذين أقاموا حراسةً دائمة حول المحلات. في قلب سانتياجو، تطوع أكثر من 8000 شخصٍ كسائقين، بينما أرسلت العديد من الكوردونات مجموعات من الناس لـ”إعادة تملك” الشاحنات.

جاء رد الفعل الأول من قبل الحكومة حائرًا ومُحيرًا. طالب آيندي باستمرار الإنتاج لكنه مباشرةً اتجه للتفاوض مع أصحاب الشاحنات. أثبت وسيطه المختار للتفاوض – منظمة مالكي أتوبيسات البلدية – أنه أقل من أن يعتمد عليه، فقد انضموا أنفسهم لإضراب أصحاب الشاحنات لاحقًا بعد أسبوع. تمثل الخط العام للوحدة الشعبية في الدعوة للانضباط والهدوء وإطاعة المنظمات النقابية والسياسية الرسمية. إلا ان قيادة الوحدة الشعبية وقيادات CUT لم يقدموا أي توجيهات ملموسة للعمال. ثم تراجع آيندي عن الدعوة الأولية للحراك العام للرد على الإضراب بعد يومين فقط من إطلاقها.

إلا أن القضايا والمهام التي طرحها الإضراب كانت تتطلب حلولا فورية. لم يكن من المستغرب أن الحل الأكثر حزمًا وحسمًا جاء من تلك المناطق التي كانت قد طورت بالفعل تنظيمات مشتركة للطبقة العاملة. كانت المصانع التي اشتركت في الكوردونات الأولى قادرةً على التنظيم السريع وقيادة تنظيم الآخرين: إيليكميتال في كوردون بيكونا ماكينا، وبيرلاك، ولوكتشيتيباستا ومصانع كريستاليرياس تشيلي من كوردون ثيرريوس – مايبو. كانت مطالبهم راديكالية ومحددة، تنفيذ البرنامج الذي تم وضعه أول مرة في يونيو: التحرك الفوري ضد أصحاب الأعمال بما في ذلك التأميم الفوري.

طور العمال في نفس الوقت ردودًا سريعة ومبدعة على مختلف تكتيكات الرأسماليين، في مصنع زجاج كريستاليرياس تشيلي، على سبيل المثال، حيث جمدت الإدارة رصيد الشركة المصرفي، رد العمال بتطوير نظامٍ للتوزيع المباشر. كما شرح أحدهم: ” الآن نحن نبيع مباشرة للتعاونيات والشركات الصغيرة، وهؤلاء يدفعون لنا نقدًا مما يمكننا من دفع الرواتب دون الحاجة إلى استخدام المصارف على الإطلاق”.

أنهي العمال إضرابًا لهم في مصنع إلميلون للأسمنت في طور التنفيذ فورًا وعادوا للشغل. في مصنع بيرلاك للمنسوجات، قام العمال بتنظيم وجبة حساء ذي قيمة غذائية عالية لأطفالهم لتعويضهم عن نقص الحليب الوارد من الريف. أخذ عمال بوليكرون منسوجاتهم للأحياء العمالية وباعوها مباشرةً. بدأ تبادل المواد الخام والسلع المصنعة بين المصانع، ولكن أيضًا بين العمال والفلاحين.

وحين أعلنت تعاونية الأطباء دعمها للإضراب في 17 أكتوبر، شُكلت لجنة من عمال المستشفيات لإبقاء المستشفيات في العمل وعلاج المرضى، وعلى خلفية مظاهرة لدعم عمال المستشفسات أكد أحد المنظمين النقابيين: “على الرغم من الإضراب الذي أمر به اليمين، سيرى 600 ألف شخص من الذين يعتمدون على خدمات هذا المستشفى أننا نستطيع توفير خدمات أفضل وأكثر كفاءة عن طريق العمل المشترك مع اللجان الصحية المحلية التي تشمل أشخاصًا من مناطق الطبقة العاملة”.

خصصت نقابة الصحفيين، في اليوم ذاته، اجتماعها لشجب دور الصحافة البرجوازية والمطالبة بمبادراتٍ جديدة ضد الإعلام اليميني. انتقد أحد المتحدثين في الاجتماع، هيميه مونيوث، ميثاق الضمانات الذي وقع عليه آيندي في 1970، والذي تكفل باحترام الملكية القائمة لوسائل الإعلام الجماعي. قارن المتحدث بين دور الإعلام اليميني في تنظيم الإضراب ورد العمال في جريديتين كانت إدارتهما تحرضان دائما ضد حركة الطبقة العاملة – لا مانيانا من تالكا وسور في كونثيبثيون – حيث احتل العمال مباني الجريدتين، وسيطروا على مكاتبهما. وختم الصحفي الثوري كلمته معلنًا “إن ميثاق الضمانات الوحيد الذي نعترف به هو ميثاق الضمانات الذي أعطيناه للطبقة العاملة”.

ولأنه كان ثمة اتفاقٌ ضمني بين منظمات اليسار بعدم ذكر الميثاق فقد كانت هذا الموقف من أوائل المرات التي أشير فيها لهذه الميثاق السافر. وفي أعقاب أكتوبر، أصبح موضوع عودة الجريديتين المُؤممتين موضوعًا أساسيًا في جدال اليسار.

كان هناك سبب آخر للنمو السريع للمنظمات المستقلة وهو الدفاع عن النفس. ففي حين اقتنعت أغلبية البرجوازية باستخدام قوتها الاقتصادية ضد العمال، فإن أقصى اليمين تحت قيادة الوطن والحرية نظم مجموعات إرهابية لنقل مسرح المعارك إلى الشوراع. بدأت تلك العصابات، والتي تشكلت من شبان الأسر الأكثر ثراءً، سلسلةً من الهجمات الجسدية المباشرة ضد اليسار والعمال.

هُجم على مسئولي الحزبين الاشتراكي والشيوعي، في 12 أكتوبر، في بونتا آريناس أقصى مدن تشيلي الجنوبية، وفي 13 أكتوبر قُطع شريط القطار الموصل لآريكا الواقعة 2000 ميل نحو الشمال، في نفس اليوم هوجم عددٌ من الأشخاص والعربات في مدن بالباريزو وكونثبثيون وبينيا. في الأيام اللاحقة استمر نمط الهجمات المباشرة.

في المصانع قاوم العمال محاولات التخريب من قبل أرباب العمل وقاموا بالسيطرة على الإنتاج. في معمل غزل ونسيج سومار في سانتياجو، على سبيل المثال، حين حاول المالك إزالة أجزاء من الآلات أوقفه العمال وأُلقوا به خارج المصنع. لم يكن التفاوض بالنسبة للجان العمال مع المخربين أمرًا مطروحًاـ ففي نهاية المطاف لقد كانت الحكومة بذاتها هي التي جعلت من استمرار الإنتاج أولويةً مطلقة.

طرحت امرأةٌ شابة عاملة في الثانية والعشرين من عمرها من فابريلانا هذا الموقف بوضوح شديد:

“أعتقد أن الرفيق آيندي كان رخوًا للغاية، هو يقول أنه يريد تجنب العنف، ولكنني أعتقد بأنه ينبغي أن نرد بقوة أكبر، أن نرعبهم حتى الموت. إنهم يحاولون انتزاع ما كسبناه”.

و ردد العمال في ألوزا، أحد مصانع التعبئة في المدينة، نفس الموقف:

“اتصلت الإدارة بعمال المكاتب وقاموا بوقف العمل بالفعل، لكننا رفضنا هذه المناورات. لن يخبرنا الرؤساء ما ينبغي فعله.. فتحنا غرف التخزين، وأخذنا المواد الخام، وظللنا ببساطة ننتج، لم يتوقف الإنتاج هنا لحظةً واحدة. ولن نتوقف الآن أو أبدًا. تستطيع أن ترى الناس يعملون بسعادة حقيقية. أعتقد أننا أدركنا في هذه الأيام الأخيرة أن ما ندافع عنه هو أمر أكبر من مجرد طبق من الفاصوليا.

لم يُعف أحد من إمكانية الهجوم. شكل العمال في سلسلة محال باتا للأحذية، على سبيل المثال، لجانًا للدفاع في كل منافذ البيع ال 113.

“لقد شكلنا لجانًا للدفاع عن النفس في كل منفذٍ لصد الهجمات. لقد اضطررنا لمواجهة بعضها، خاصةً في المحال الواقعة في أحياء الطبقة العليا والوسطى. لكننا لم نغلق ولا يومًا واحدًا. نحن ضد هذا الإضراب، نحن في لحظة مفترق طرق ولن نتنازل لأحد. لقد طفح الكيل”.

لخص عامل من معمل ريدي – ميكس للخرسانة التجربة بإيجاز ووضوح:

“ينبغي علينا أن نشكر الفاشستيين على ذلك على أية حال فقد جعلونا نرى أنك لا تستطيع القيام بثورة عن طريق لعب “البلي”. حين تكون هناك مشكلة فعلينا نحن العمال أن نكون في الصفوف الأمامية. لقد تعلمنا في هذه الأيام القليلة أكثر من كل السنتين السابقتين”.

وتوصلت الجماهير العريضة لاستنتاجات مشابهة في أماكن أخرى، خاصةً في أحياء الطبقة العاملة حيث أفرزت معارك سابقة – على التوزيع والإسكان وما أشبه – تنظيمات لعبت دورًا كاملًا وحيويًا في صراعات الطبقة العاملة في أكتوبر.

أصبحت لجان التوزيع المحلية -والتي شكلتها في الأصل الحكومة- هي القلب التنظيمي للعديد من المنظمات المحلية والمجتمعية – لجان أحياء، ومجموعات للأمهات، وتعاونيات لمالكي الأرض بوضع اليد، وتحملت كل هذه التنظيمات عبء المقاومة في الأحياء. الأهم من كل ذلك، لقد تمخض من نضالات أكتوبر اتصال مباشر بين كل تلك المنظمات المجتمعية و العمال وأصبح العمل الموحد واقعًا.

أصبح الكوردون الآن مركزًا تنظيميًا لعدد من النضالات، كما كان يبشر منذ ظهوره ككيان، مُنسقًا فيما بينها وموفرًا لها قيادةً من الطبقة العاملة.

من شبه المؤكد أنه لو لم يتحرك العمال بصورة مباشرة لكانت البرجوازية قد نجحت في حملتها، ولكان الاقتصاد قد شُل، ولتعين على آيندي الانصياع لمطالب أصحاب العمل كما حددتها قائمة مطالبهم المعروفة بقائمة “بلييجو دي تشيلي”. عوضًا عن ذلك، استحوذ العمال على وسائل المواصلات وحافظوا على حركة الاقتصاد. قوبلت الهجمات المادية من قبل “الوطن والحرية” بالمقاومة المنظمة للعمال، سواءً كان ذلك من لجان دفاع المناطق أو من لجان المراقبة اليقظة المُشكلة في المصانع.

حدث بالفعل تغير جذري في طبيعة ودور التنظيمات الجماهيرية من خلال عملية النضال، إذ في حين أن الكردونات بدأت في الأصل كلجان مهمتها فقط الرقابة على الإنتاج فقد تغيرت وظيفتها أثناء إضراب رؤساء العمل، وصارت أجهزة لسيطرة العمال على المصانع. أما لجان التوزيع المحلية والتي بدأت في الأصل كلجان مهمتها فقط الرقابة على التوزيع فقد نمت لتصبح منظمات نضالية للسواد الأعظم، تقوم بشراء وتوزيع المواد التموينية، وأبقت المحال والمتاجر الكبيرة مفتوحة ودافعت عنها من هجمات اليمين، واضطلعت أيضًا ببعض الوظائف المنزلية بشكل جماعي في الأحياء الفقيرة، وبخاصة في إطعام الأطفال في مطابخ جماعية.

لا يوجد أي شك في أنه في أعقاب أكتوبر لم يستخلص العمال ا لاستنتاجات السياسية المناسبة من تجربتهم الملموسة في إيقاف اليمين. إن تعميم الأفكار من ملابسات معينة لا يحدث بصورة عفوية، وإنما يحتاج للتدخل الواعي من قبل اشتراكيين ثوريين يستطيعون أن يقدما إطارًا وفهمًا للصراعات السابقة للطبقة العاملة حتى تنضج الحركة. لكن في تشيلي حجمت التنظيمات السياسية المتعددة من الناحية الفعلية من قدرة العمال على تطوير المعرفة السياسية، وعلى الرغم من ذلك فقد منحت تجربة اكتوبر الطبقة العاملة حسًا جديدًا تمامًا بإمكاناتها الجماعية، ومثل تطور هذا الحس مشاكل جدية لآيندي والوحدة الشعبية.

لقد أسست الوحدة الشعبية نداءها الأول للطبقة العاملة للتحرك دفاعًا عن الحكومة مفترضين أن منظمات العمال سيظل على “ولائها” للقيادة الرسمية، أي اتحادات النقابات (CUT) والوحدة الشعبية نفسها. لكن في واقع الأمر قامت الطبقة العاملة بالتحرك بشكل مستقل للدفاع عن الحكومة دون انتظار التعليمات. في تلك الظروف كان من الممكن أن يستنتج العمال ببساطة أن العمل الثوري ضروري لحل الوضع الكارثة في تشيلي، ولم يكن أحد أكثر إدراكًا لتلك الإمكانية من آيندي نفسه.

تردد آيندي وتذبذب بعد 11 أكتوبر. لكن بات الشك ضئيلًا في مسألة أي اتجاه سيمضي فيه آيندي حين يقتضي الأمر. لقد كان قد قالها بنفسه مرات كثيرة: لقد رهنت الوحدة الشعبية مستقبلها السياسي بقدرتها على السيطرة على الطبقة العاملة، وتحقيق برنامجها للتغيير بالتعاون مع أغلبية البرجوازية.

بيد أن آيندي ورفاقه في قيادة الوحدة الشعبية السياسية بدوا غير مدركين بصورة مزرية أن حاجزًا تاريخيًا قد تم تخطيه في أكتوبر، وأن البرجوازية قد فقدت اهتمامها بالتعاون معهم منذ زمن بعيد. بمعنى ما، لقد أصبحت حكومة آيندي مجرد متفرجٍ في ساحة الصراع الطبقي، تحاول عبثًا إعادة فرض نفسها على الأحداث من موقعها داخل الدولة.

قدمت نضالات الطبقة العاملة أكتوبر 1972 الدليل الأكثر إثارة ودرامية عن احتمالات تحقيق سلطة العمال. لم تتغلب الطبقة العاملة على ترددات قيادتها بعملها المستقل فحسب، وإنما تم التغلب على انقساماتٍ قديمة في واقع الصراع اليومي ضد أصحاب الشاحنات وداعميهم، كما تشكلت قيادة جديدة لم تكن مكبلة باسترتيجيات حلول الوسط السياسية، ولا ولاءات مختلف قطاعات القيادة القديمة للنقابات.

وقد عكس هذا التطور في جزء منه صعود مجموعات من العمال على الساحة السياسية كانت حتى ذلك الوقت مُستبعدة من النقابات وسائر المنظمات، عمال أقل تأثرًا بانضباطات عضوية الحزب والنقابة. وقعت كثرةٌ من المصانع الصغيرة خارج نطاق نفوذ (CUT)، لوجود أقل من 25 عامل في تلك المنشآت على سبيل المثال. هنا مثلت الكوردونات تحالفًا بين العمال المنظمين وغير المنظمين وساكني مدن الصفيح والعمال الزراعيين وبعض منظمات الطلاب.

كان الطابع السياسي للكردونات أقل وضوحًا في الذهن العام. زعمت قيادة (CUT) أن الكردونات مثلوا ببساطة تنظيماتها القاعدية ولكن تحت مسمًى آخر، غير أن المصاعب التي واجهت قيادات (CUT) في فرض أي نوع من الانضباط على الكوردونات – مُقترنةً بهجمات هذه القيادات المتكررة على قيادات الكوردونات – رجحت أن طبيعة العلاقة بينهما اختلفت عن مزاعم (CUT).

وصفت (MAPU) بغموضها المعتاد الكوردونات بـ”اللجان الوطنية”. ووصفها الحزب الاشتراكي، محاولًا كعادته التوفيق بين تقليدين سياسيين متضاربين داخل صفوفه، بـ”مدارس نشطة للجماهير من أجل مناقشة المشاكل وممارسة النقد البناء والتخطيط للحلول وتنسيق المبادرات”.

كانت (MIR)، وهي التنظيم الذي تمتع بالتأكيد بنفوذ يعتد به وسط القطاعات الأكثر تهميشًا من إجمالي السكان عن طريق تنظيماتها الجبهوية المتعددة، كانت هي الأكثر وضوحًا في نقدها لمحاولات الجبهة الشعبية لشل الكوردونات والمنظمات القاعدية الأخرى والتلاعب بها، ورغم أن MIR استخدمت في بعض اللحظات خطابًا ثوريًّا، إلا أنها لم تبلور استراتيجية بديلة للوحدة الشعبية. في النهاية، شاركت (MIR) سائر منظمات اليسار في ضعف تحليلها للوضع من الأساس: اعترف الكل بفشل الوحدة الشعبية في قيادة نضال الجماهير المضاد ضد رؤساء العمل، لكنهم توصلوا لخلاصة مفادها أنه يتعين على الوحدة الشعبية إصلاح نفسها في ضوء نقدهم حتى تكون أفضل؛ استعدادًا لقيادة النضال في المرة القادمة.

لم ير أحد في اليسار مواقف الوحدة الشعبية المتناقضة أثناء أكتوبر على حقيقتها: التعبير الأمين لمنظورها السياسي. وكنتيجة لذلك ظل اليسار مُشتتًا في وجه تطورات جديدة وصادمة.

ففي مواجهة إضراب من قبل الطيارين في 31 أكتوبر ومع رفض أصحاب الشاحنات في اليوم اللاحق إنهاء حركتهم، قرر آيندي دعوة مجموعة من الجنرالات للانضمام لوزارته. في نفس الوقت، أعلن حالة طوارئ في كل البلاد، واضعًا بذلك حكومة تشيلي فعليًا في أيدي العسكر طيلة فترة الطوارئ.

وضع نضال العمال طيلة أكتوبر لهزيمة الهجمة البرجوازية الطبقة العاملة التشيلية على المسرح السياسي كفاعل مستقل، ولعدة أسابيع تطورت يوميًا ممارسات العمال في الحكم الذاتي بصورة كانت تزداد وضوحًا وبشكلٍ مطرد. لذلك، وبدون أي مجال للتساؤل، كان معنى قرار آيندي باللجوء للجيش هو أن الوحدة الشعبية كانت تحاول و بقوة سحب المبادرة التاريخية من أيدي الطبقة العاملة تحت ستار لجم البرجوازية.

تم تبرير قرار آيندي بأثر رجعي من قبل بعض المؤرخين عن طريق وصف الحالة في تشيلي في بداية نوفمبر بكونها “قريبة من الفوضى”، و”انهيار النظام والقانون”. في الواقع لم يكن ما يحدث انهيار النظام وإنما كان أزمة عميقة لنظام. ومع تطور أشكال للتنظيم والنشاط وسط العمال تضاءلت مقدرة التنظيمات التقليدية على احتوائهم في إطار معادلة التفاوض القائم من قبل بين رأس المال والقوى العاملة.

للأسف، لم يعنِ ذلك أن الطبقة العاملة كانت تعد للاستيلاء على السلطة تحت قيادة ثورية، حتى أولئك الذين اعتبروا أنفسهم اشتراكيين ثوريين كانوا هم أنفسهم يعانون من حالة من الفوضى النظرية الشاملة. لم يكن لديهم أي موقفٍ متماسك بخصوص أي من مشاكل الساعة الملحة: مشكلة التنظيم الحزبي، وطبيعة ودور القوات المسلحة، وهل كان من الضروري الانشقاق عن الوحدة الشعبية (و لم يُأخذ حتى هذا الخيار بعين الاعتبار في هذه المرحلة). ولذلك لم تكن القوى الثورية في موقعٍ يسمح لها بتقديم أي قيادة متماسكة للحركة. وحين ناشدت (CUT) الطبقة العاملة بدعم القوات المسلحة في استعادة النظام -داعمة بذلك آيندي- لم يرتفع أي صوتٍ منظم من الثوريين بالمعارضة. في تلك اللحظة الحرجة، أثبت اليسار التشيلي أنه مُشوش ومشلول.

جاءت المطالبة بالتدخل العسكري من عضو الكونجرس المسيحي الديمقراطي، رافايل مورينو، لكنها ظهرت أول الأمر ضمن قائمة المطالب التي تقدم بها اليمين في بداية إضراب رؤساء العمل. صحب إعلان آيندي عن الوزارة الجديدة المشتركة بين الوحدة الشعبية والعسكر في 3 نوفمبر خطابًا منه للعمال شكرهم فيه على جهدهم الداعم للحكومة ومطالبًا إياهم بالعودة إلى العمل وإعادة المصانع لمالكيها.

وحيث أن أصحاب الشاحنات قد عادوا للعمل مع دخول القوات المسلحة الحكومة، كان من المؤكد أن مهمة الجيش الأساسية ستكمن في ارجاع العمال للمصانع. أقر براتس قائد الجيش أقر هذا الهدف بنبرة مدروسة حيادية:

“طالما وجدت دولة مؤسسات فمن المُحتم على القوات المسلحة أن تحترمها.. بالطبع القوات المسلحة هي الأداة الشرعية تحت تصرف الرئيس ليستخدمها ضد أي شخص يهدد النظام العام.”

بيد أن طبيعة التهديد كانت ستتضح للغاية مع بدء فرض حالة الطوارئ. استُخدم حظر التجوال الصارم للسيطرة على حركة العمال، واستُدعيت السلطات الواسعة الممنوحة للعسكر لإعادة الجريدتين المحتلتين في تالكا وكونثبثيون إلى ملاكهما الأصليين. وسُجن قادة لجان دفاع مصنع باتا للأحذية لأكثر من شهر. وفي 13 نوفمبر أعلن وزير الاقتصاد إعادة 20 من أصل 28 مصنعًا تم الاستيلاء عليها من قبل العمال إلى أصحابها.

لكن ربما كان نظام التوزيع هو المجال الذي خرج أكثر من غيره من سيطرة الدولة، ولهذا السبب تم وضع عملية التوزيع تحت السيطرة العسكرية المباشرة. وأُسندت وكالة توزيع التموين الحكومية الدولة للجنرال باشيليه من القوات الجوية.

شملت الوزارة الجديدة بالإضافة إلى الجنرالات ثلاثة وزراء من الوحدة الشعبية، اثنان من الحزب الشيوعي -ميياس في وزارة الميزانية وفيجاروا رئيس CUT كوزير للقوى العاملة، وواحد من (MAPU) – فلورس لوزراة الاقتصاد.

وبما أن حالة الطوارئ منحت السيطرة الفعلية للعسكر، فلم يكن دور هؤلاء الوزراء الدفاع عن الطرح الاشتراكي داخل الوزارة، وإنما الدفاع عن وجهة نظر العسكر في صفوف الطبقة العاملة. الوزير فيجاروا، على سبيل المثال، حاول بشدة إقناع عمال المصانع في أريكا بأنه ينبغي عليهم السماح لموظفي المكاتب الذين أضربوا دعمًا لأصحاب الشاحنات بالعودة للعمل، ودفع مرتباتهم كاملةً عن فترة الإضراب، كخطوة نحو المصالحة..

أوجز عامل من إكس – سومار، أحد أكثر المصانع نضاليةً، الوضع الجديد كالآتي:

“أعتقد أن التنازلات التي قدمتها تلك الحكومة تعني أنها تحولت لليمين. كان ثمة بديل آخر متاحًا لديها: أن تنشُد الدعم الشعبي وتطبق البرنامج الذي تقدمت به في الأصل. لكنها لم تنوِ أبدًا أن تطبقه. لذا تركت الجماهير على هامش النقاشات والقرارات، وحين حاولوا مواجهة المشاكل، تم قمعهم بوحشية. لا بد أن اليمين يحتفل الآن – تستطيع أن تستنتج أنهم في قمة السعادة من مجرد سماع محطاتهم الإذاعية”.

« السابق التالي »