بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

بروفات ثورية (1) | تشيلي 72 – 1973: العمال والثورة والعسكر

« السابق التالي »

7- حكومة بجنرالات

لم تستطع وزارة الوحدة الشعبية والجنرالات أن تحقق كل ما تريد، فالوضع بعد نوفمبر بقي شائكا، ولم يكن من السهولة بمكان تقويض الثقة التي اكتسبها العمال في الفترة السابقة. وجد فيجاروا، على سبيل المثال، أن سلطته المزدوجة – كرئيس (CUT) وكوزيرٍ للقوى العاملة – لم تكن غير مُنازعة كما كانت من قبل. لم يقتنع عمال أريكا بحججه وظلوا رافضين العمل مع موظفي المكاتب في 24 نوفمبر. وحين حاول فيجاروا إقناع عمال أريكا بقبول أمر الحكومة، أعاد العمال احتلال المصنع ورفضوا التحرك منه. وفي النهاية استُدعيت الشرطة لإجلائهم.

تكررت نفس التجربة في أماكن أخرى حيث رفض العمال التفريط في ما كسبوه في أكتوبر مُشتكين أن تنازلات كتلك ستمسح ببساطة كل ما تم كسبه وستقدم النصر للبرجوازية على طبق من ذهب..

بيد أن أعمال المقاومة العفوية وغير المنظمة من قبل الطبقة العاملة لم تكن أبدًا محل أي محاولاتٍ للتنسيق أو التطوير، فقيادة اليسار السياسية على سبيل المثال لم تعطِ أي إرشادات أو اقتراحات للحركة. والشيء المذهل هو أن صوتًا واحدًا من اليسار لم يرتفع ضد وجود العسكر في الوزارة. أطلقت (MAPU)، على سبيل المثال، شعار أن الوزارة الجديدة هي “الحكومة والشعب يعملان كواحد”، في حين أنها كانت تدعو في الوقت ذاته لتعميق “سلطة الشعب”.

تطابق الحزب الشيوعي مع الحكومة في مديحهما للتفاني الوطني للقوات المسلحة واصفين الوزارة الجديدة كمؤشرٍ بأن الجيش كُسِب بعيدًا عن البرجوازية (في نفس الوقت الذي كان التاريخ فيه يخبئ إحدى سخرياته الأكثر وحشيةً في كم قميصه):

“… إن تواجد القوات المسلحة في الحكومة سويًا مع قادة اتحاد النقابات سيقوي الحكومة وسوف يسمح لها أخيرًا بتنفيذ حكم الإعدام على الإضراب اليميني الذي رفضه العمال بالفعل وبشدة”.

الأكثر إثارةً للدهشة كان مقال مانويل كابيسيس في جريدة (MIR) بونتو فينال (خط النهاية) والذي أعلن فيه:

“إن للقوات المسلحة دورًا وطنيًا وديمقراطيًا تلعبه مع الشعب داعمين للعمال في نضالهم ضد الاستغلال.. هذا هو ما ينبغي أن يحدث، وهذا ما تتوقعه الطبقة العاملة حين ترى القوات المسلحة كجزءٍ من الحكومة”.

لم يحدث أبدا في التاريخ أن جيشًا محترفًا ساعد الطبقة العاملة في نضالها ضد الاستغلال، وبعبارةٍ أخرى في إسقاط الدولة البرجوازية التي يشكل الجيش فيها العامود المركزي. ورغم غرق الكاتب في مثل هذه السذاجة المذهلة، ظلت MIR تدافع عن وجوب استمرار الكردونات.

كانت أكثر النبرات اتساقًا في تصريحات وتحليلات اليسار تتصف في أحسن الأحوال بالارتباك والتذبذب. كان ثمة افتقار مذهل للوضوح في كيفية الرد على تصميم الوحدة الشعبية على تفكيك التنظيمات الجماهيرية في أكتوبر. حتى أكثر التصريحات نضاليةً كخطب آلتاميرانو سكرتير عام الحزب الاشتراكي توجهت للحكومة مُطالبةً إياها بالعمل ضد طابعها السياسي، أن تكون ثورية لا إصلاحية. وبدلا من كشف حدود “الإصلاحية” وتمزيق الحجاب عن أعين أولئك الآلاف من العمال الذين كانت ما تزال لديهم أوهام في آيندي، فإن خطب آلتاميرانو حاولت إفهام الجماهير أنه مازال من الممكن أن تتصرف الوحدة الشعبية بطريقة ثورية.

وأضاف ثيوتونيو دوس سانتوس، أحد المساهمين المنتظمين في جريدة تشيلي أوي (تشيلي اليوم) للإرتباك: “إذا أرادو الحفاظ على المكاسب التي تحققت، فلا بد على الحكومة والعمال أن يعمقوا هذه المكاسب ويوسعوها مُستغلين الآليات القائمة ومُعمقين جذور السلطة الشعبية.”

حتى بين أكثر الأصوات راديكاليةً لم يعلو ولو صوت واحد كان على استعدادٍ لتقديم طرح أن التطور السياسي لحركة الطبقة العاملة بعد أكتوبر كان يتطلب أن تنفصل الطبقة عن قيادتها التقليدية في الوحدة الشعبية، وأن الوحدة الشعبية قد أصبحت عقبة أمام التطور النوعي للصراع الطبقي، وأن الطريقة الوحيدة لضمان ما تم كسبه هو المضي قدمًا.

لم تقدم أي منظمة من اليسار استراتيجية مستقلة عن الوحدة الشعبية، لم يقترح أحد القطيعة مع الوحدة الشعبية. تحرك تنظيمٌ واحدٌ فقط – وكان للأسف الأصغر بين التنظيمات الثورية – اليسار المسيحي – تحرك في هذا الاتجاه رافضًا الاشتراك في الوزارة الجديدة مُستخلصا أنه:

“لا يبدو أن التقدم في وعي الطبقة العاملة قد وصل لقيادتها السياسية. القاعدة أكثر ثراءً بمراحل من القيادة. أن (CUT) والكوردونات أكثر كفاءةً في مستواياتهم القاعدية من الوحدة الشعبية على المستوى السياسي.. لو أن القوى الاجتماعية [من أنصارالوحدة الشعبية] جرى تنظيمها بصورة مُنسقة على مستوى المصنع والأحياء، وفي أجهزة دفاع، لسوف يتحرك الوضع قُدمًا وسيصبح من غير الممكن إيقافه”.

كانت الطبقة العاملة نفسها تطالب بمثل هذا التحليل.

في 13 نوفمبر اجتمع مائة مندوب من كوردونات سانتياجو في كريستاليرياس تشيلي لتنسيق مقاومة عودة المصانع لمالكيها السابقين، ولم تلاقِ مبادرتهمأي صدىً لدى اليسار. وكما اشتكى رئيس كوردون أوهيجنس، أحد أكثر الكوردونات تقدمًا:

“الصحافة اليسارية تتجاهلنا ببساطة.. لذا ينبغي للكوردونات أن تضطلع بمهمة مساعدتنا معرفة بعضنا البعض بصورة أفضل، لتفهم نضالات بعضنا البعض ولكي نصل إلى وعي ما بقوتنا.”

جلبت أحداث أكتوبر 1972 مجموعاتٍ جديدة من العمال، كثيرٌ منهم لم يكونوا منظمين من قبل، إلى قلب الصراع. كما أنها طرحت أيضًا أشكالًا أخرى للتنظيم كان من الممكن من خلالها بناء منظمةٍ سياسية مستقلة ودائمة. أصبحت تجربة الكوردونات الشأن المحوري في المناقشات السياسية مع اقتراب عام 1972 من نهايته. بيد أن أحدًا من اليسار لم يصل إلى أي استنتاجاتٍ سياسيةٍ ملائمة للحظة.

بالتأكيد، كان استيلاء الطبقة العاملة على السلطة في نوفمبر أمرا مستحيلًا. كان الكثير من العمال قد سُرحوا، وكان آخرون محبطين ومرتبكين، صعبت حالة الطوارئ حتى عقد الاجتماعات. غير أنه ظل واضحا للجميع وبنفس القدر أن الوضع لم يُحسم بصورة نهائية لمصلحة أيٍ من الرأسماليين أو العمال. كان ثمة جوٌ من الترقب في كل مكان، وكان كلا الطرفين يناقش علنًا الاستراتيجيات المستقبلية.

في مناخٍ كهذا لم تكن المهمة المباشرة للاشتراكيين الثوريين هي التنظيم للاستيلاء على السلطة، وإنما تطوير المناقشة السياسية المبدئية والصبورة داخل حركة الطبقة العاملة مع أولئك الذين كانوا يقودون النضال عمليًا، مع بناء التنظيم السياسي الثوري والمشاركة المستمرة في النضالات اليومية للطبقة حيثما كانت تقاتل.

لكن شيئًا من ذلك لم يحدث.

دار داخل اليسار جدلٌ لانهائي، وكثيرٌ منه كان شيقًا للغاية، لكنه كان دائمًا يتجنب السؤال الأساسي – الطبيعة السياسية للوحدة الشعبية.

و قد جاءت المناسبة الأولى لكل منظمات اليسار لمناقشة تجربة أكتوبر 1972 في مناظرة عامة نظمتها في سانتياجو منظمة يسارية كاثوليكية تدعى “مسيحيون من أجل الاشتراكية”. غادرت ميريا بارترا ممثلة الشيوعيين القاعة سريعًا بعد بداية المناظرة، منددةً ب “اليسار المتطرف” ووصفته ب ” العدو الأساسي”. هنا عرف ميجيل إينريكيث السكرتير العام ل(MIR) الفترة بال”قبل – ثورية” ودعا لإنشاء “نُواة للسلطة الشعبية”. كانت المهمة الأساسية كما جادل (عن صواب) هي تحقيق سيطرة العمال، غير أنه في النقاشات والمجادلات التي تلت ذلك، لم يحاول أي ممثلٍ عن (MIR) إيضاح كيفية تنظيم ذلك وتحقيقه.

الاستعدادات للمعركة

ظلت الوحدة الشعبية تحتفظ بثقلٍ سياسيِ معتبر وسط الجماهير – إلا أن هذا الثقل أصبح أقل بكثير من النفوذ المطلق الذي كانت تتمتع به في بدايتها. ولم تنجح كل محاولاتها في اجتثاث تنظيمات العمال الجديدة. على العكس، تسببت تصرفات حكومة الوحدة الشعبية في عودة ظهور هذه التنظيمات في بدايات 1973.

أثار الجدال عقب إضراب البرجوازية انشقاقًا في (MAPU) بين اليسار الذي احتفظ باسم الحزب واليمين المناصر لآيندي والذي أطلق على نفسه (MAPU العمال والفلاحين) بقيادة هايمي جاثموري.

في يناير 1973 تحدى وزير الاقتصاد فيرناندو فلوريس من (MAPU) الحكومة واقترح تجميد الأسعار وضوابط صارمة على المضاربة وضرورة تفعيل سلة مشتروات للجماهير تتضمن المتطلبات الأساسية بأخفض الأسعار، لاقى طرح فلوريس ترحيبا شعبيًا فوريا. في 15 يناير، قامت 300 عائلة في عشوائيات مدينة لو إيرميدا بمحاصرة سوبرماركت محلي كان قد أغلق ابوابه (مُدعيًا نقص السلع) وطالبوا بإعادة فتحه. ومباشرةً حضر وسطاء حكوميون وحاولوا تفريق المتظاهرين ولكنهم فشلوا. وفي الثانية صباحًا فُتح المتجر وتولت المنظمات المحلية مهمة توزيع السلع وفقًا للحاجة. وحدث نفس الشيء في مدينة عشوائية أخرى،مثل نويبا لا هابانا وفي كوردون بارَّانكاس.

في هذا المناخ أعلن أورلاندو مييّاس الوزير المسؤول عن الميزانية والعضو في الحزب الشيوعي (يمين الحكومة) “الخطة الاقتصادية” الجديدة، التي اقترحت إعادة 123 مصنعًا لمالكيها الأصليين بما فيها تلك المملوكة لأحد أكثر معارضي الحكومة نشاطًا وهي أسرة يارور القوية. بالإضافة إلى ذلك طرح مييّاس إبقاء 49 منشأة صناعية فقط ملكيةً عامة، الأمر الذي كان يعني فعليًا خلق قطاع رأسمالية دولة يعمل بالتنسيق مع رأس المال الخاص، ومن هذا المنطلقٍ، أُعلنت الجكومة عن إعادة فتح المناقشات السياسية مع الديمقراطيين المسيحيين. و مثلت تلك الخطة بوضوح تنازلًا شبه كامل لمطالب البرجوازية.

استقبلت الطبقة العاملة الخطة اليمينية بغضب. استيقظت الكوردونات مرةً أخرى وردت فورًا. أغلق عمالٌ من كوردون ثيرييوس – مايبو الشوارع احتجاجًا، ثم قادوا مظاهرةً مشتركة من كل كوردونات العاصمة نحو وسط المدينة. أعلن إيرمان أورتيجا رئيس الكوردون أنه : “لن يكون هناك حل وسط مهما كانت الضغوط”. وفي مصنع منسوجات تيكستيل بروماك أعاد ثلاثة عشر عضوًا في الحزب الشيوعي بطاقات عضويتهم للحزب احتجاجًا. وكان أهم شي في كل ذلك هو أن كوردون بيكونيًا ماكينّا بدأ في نشر جريدة للكوردونات تحمل اسم تاريا أورهينتي (مهمة عاجلة) وحمل عددها الأول تصريحًا ذا دلالة هائلة:

“لكل العمال: إن عمال هذا الكوردون ليهيبون بالطبقة العاملة التنظيم للدفاع عن مساحة الملكية العامة المؤممة من الاقتصاد والمصانع التي استُولي عليها خلال إضراب رؤساء العمل. إن القانون الذي يقترح تسليمها لهم مرةً أخرى لا يعكس مشاعر أغلبية العمال المستعدين لمواصلة النضال للدفاع عن حقوقهم حتى النهاية.”

وبناء على ذلك، مرر أعضاء هذا الكوردون في جمعيتهم في 28 يناير هذا القرار: 1) لن تتم إعادة أي مصنعٍ تم الاستيلاء عليه أثناء إضراب البرجوازبة لمالكيه 2) أننا نرفض بالاجماع تلك الخطة التي يسمونها “خطة مييّاس” التي لا تمثل أفكار الطبقة العاملة الحقيقية.. لا بد أن نتقدم للأمام دون حلول وسط. ولا يجب إعادة ولا حتى مصنعٍ واحد.. هناك مصانع أخرى كثيرة لابد من الإستيلاء عليها.

في سياق شبيه طالب أعضاء كوردون بان آمريكانا نورتيه بمعرفة:

إلى متى سيظل السياسيون يديرون “البرغي” في الاتجاه الخاطئ؟ لقد بدأ هذا يثير أعصابنا، وإننا لنقدم إنذارًا أن مشروعًا واحدًا لن يعاد للبرجوازية.. ومن الآن فصاعدًا سنظل في حالة من الاستعداد الدائم للدفاع عن حقنا في إصدار القرارت التي تؤثر على شكل حياتنا.

في 5 فبراير تجمعت مظاهرة ضخمة من العمال وواضعي اليد على الأراضي ومنظمات سكان مدن الصفيح والمجموعات الأهلية في الاستاد الوطني للتعبير عن معارضتهم ل”خطة مييّاس”، وقد نقلت “بونتو فينال” مضمون لافتة في الاستاد حذرت، بحسٍ تاريخي حاد، ” إن شعبًا غير مسلح هو شعبٌ مقهور”. وبات من الواضح أن الصراع الطبقي كان يدخل مرحلةً جدية ويكتسب حدةً جديدة.

لكن ظلت الصلة ضئيلة بين إيقاع الصراع الطبقي ومشاغل الأحزب السياسية الرئيسية. كانت انتخابات الكونجرس في مارس 1973 تقترب وكان يتم النظر إليها من كلٍ من اليمين وأحزاب الوجدة الشعبية كاختبارٍ محوري لمقدرة الحكومة على البقاء. اتفقت كل منظمات اليسار على كون الانتخابات أولوية مطلقة، بما فيها (MIR)، التي دعمت للمرة الأولى مرشحي الحزب الاشتراكي في الانتخابات البرلمانية.

في النتيجةالنهائية ارتفع التصويت للوحدة الشعبية إلى 44 بالمائة. كان ذلك في المناخ السائد بمثابة شهادةٍ على مرونة الطبقة العاملة ودليلًا على أنه تم كسب قطاعاتٍ من البرجوازية الصغيرة.

في ما يخص اليمين، مثلت النتائج تراجعًا خطيرا: الفشل في تقويض دعم الوجدة الشعبية الانتخابي. بدأ اليمين فورا في مناقشة استراتيجياتٍ بديلة للإطاحة بحكومة آيندي. ومن بين الخيارين المقدمين، تم استبعاد اختيار الانقلاب العسكري الذي دافعت عنه بعض القطاعات، لصالح استراتيجية “المارشالات الروس” التي دافع عنها إيلوين، رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي، بين آخرين. كانت تلك استراتيجية ” حرق الأرض اقتصاديا”، وتهدف لتدمير الاقتصاد عن طريق سحب الاستثمارات والتكديس والتحريك الواعي للدعم الدولي بما يخلق حالة حصار داخلية وخارجية.

لو كان الحراك الجماهيري قد مر بحالة تراخٍ في أثناء فترة الانتخابات، فقد استأنف العمال النضال مرةً أخرى بعد إنتهاء التصويت. في نهاية مارس 1973، ترك الجنرالات الوزارة وتم التنازل عن خطة مييّاس. أعلن آيندي تأميم 45 مشروعًا إضافيًا، إلا أنه أعقب ذلك الإعلان بصورة شبه مباشرة، في 6 إبريل، بشن هجومٌ شرس على اليسار الثوري وعلى تنظيمات العمال التي لم تُعد المصانع للبرجوازية عقب احتلالات أكتوبر. في ضوء ذلك الهجوم، كان من الصعب رؤية قرار آيندي إدماج 45 مصنعًا في القطاع العام كأي شيءٍ أكثر من مجرد لفتة رمزية.

و بغض النظر عن كم نقد آيندي لأولئك الذين “استفزوا” البرجوازية بأفعالهم، كان هو المُصاب بالعمى عن مدى حدة الصراع الطبقي، ففي حين صمم على التشبث ببرنامجه الأصلي من التغيير المتدرج وأدان منظمات العمال والفلاحين بتهديدههم لهذا التغيير بتصرفاتهم المتعجلة، كانت الأحداث قد تخطته بالفعل. كانت البرجوازية تناقش بشكلٍ عملي استراتيجيات غير برلمانية للإطاحة به.

وفي حين ظل آيندي والوحدة الشعبية مُصممين على إن سرعة التغيير يتم تحديدها في البرلمان، كانت كل من البرجوازية و الطبقة العاملة قد تخطتا تلك الأوهام. كان العمال ينظمون أنفسهم لنضالٍ قائمٍ بالفعل في الشوارع والمصانع وعلى الأراضي الزراعية. لم يعد الأمر يتعلق بما إذا كان من المفترض السماح للصراع بأن يحدث – كانت فقط نتيجته هي القضية التي تحتاج للحسم.

جاء ارتفاع التصويت للوحدة الشعبية انتخابات مارس بمثابة مطلب صريح من العمال للوحدة بالتحرك. لكن لو لم تقد الوحدة الشعبية هذا النضال فكان سيحدث على أية حال، وخارج سيطرتها. لم تستطع قيادة الوحدة الشعبية إدراك ذلك. كانت قيادة اليسار تناقش الأزمة بكل تأكيد، لكن ظل منظورها محصورًا في مطالبة الوحدة الشعبية في التصرف بطرقٍ أخرى. ولكن كان المطلوب حلًا آخر أكثر راديكاليةٍ بمراحل – من النوع الذي كان موضوعًا بالفعل على الأجندة التاريخية للطبقة العاملة بنفسها.

في تلك اللحظة مثل قرار بتشكيل لجنةٍ تنسيقيةٍ للكوردونات وثبةٍ نوعية في أنماط القيادة للنضال العمالي. لكن لم يتضمن هذا القرار كسر مع الوحدة الشعبية. لماذا؟ كان التيار السياسي السائد في قيادة الكوردونات – بلا جدال – هو يسار الحزب الاشتراكي. وعلى الرغم من خطابه اليساري المتطرف التي باتت سمةً مميزةً له، لم يكن هذا الجناح مستعدًا بعد للانشقاق عن الوحدة الشعبية أو لتحدي الجناح اليميني في حزبه بقيادة آيندي علنًا.

أعتبر آلتامارينو، قائد الاشتراكيين والذي كان ينظر إليه بصورةٍ عامة على كونه من اليسار، أن تطور المنظماتٍ المستقلةٍ في الصراع الطبقي يشكل وسيلة ضغط ستساعد على حسم معركة من يقود الحزب: يمينه أو يساره.. جذب هذا المنظور المحدود أولئك الاشتراكيين اليساريين الذين كانوا يقودون الكوردونات. ولذلك أضحت إن اللجنة التنسيقية للكوردونات، والتي كان في مقدورها أن تصبح بمنتهى البساطة شكلًا جنينيًا لسلطة الطبقة العاملة، أضحت عوضًا عن ذلك فصيلًا داخل الحزب الاشتراكي.

كانت القوة السياسية الأخرى داخل الحركة الجماهيرية هي MIR. رغم أن MIR نشأت في بداية الستينات إلا انها بدأت توجه نفسها صوب تنظيم العمال فقط منذ 1969 – 1970. وفي حين أنها اكتسبت قاعدةً معقولة في وسط العمال غير النقابيين، إلا أن تأثيرها الأساسي كان في أوساط منظمات المسيطرين على الأراضي بوضع اليد وفي الحركة الطلابية. في حين دفعت MIR بمرشحين في انتخابات النقابات، ومن الناحية الفعلية كان لديها أعضاء منتخبون في اللجنة التنفيذية لاتحاد النقاباتCUT، فلم يكن لها أي وجودٍ منظم في قواعد النقابات.

أختارت MIR عدم الدخول في الوحدة الشعبية، وفي أحيانٍ كانت انتقاداتها للوحدة علنية، لكنها لم تستطيع تقديم بديل للوحدة في نطاق الأولويات والمهام.
تفاعلت MIR بصورة براجماتية مع الواقع المتغير للصراع الطبقي، موليةً أهميةً خاصة لصراعها من أجل القيادة السياسية للنضال ككل. ظهر ذلك اكثر ما يكون وضوحًا في الجدل حول الكوردونات. أحيانًا، حين كانت الكوردونات تجمع في عضويتها عددٌ من المنظمات المختلفة، كانت تلك الكوردونات تقوم بتشكيل لجانٍ تنظيميةٍ مشتركة “كوماندوس كوميونايلس”. ورغم أن MIR كانت تؤيد بشدة دور هذه ال “كوماندوس” كأجهزةٍ قيادية في الصراع الطبفي إلا أنها ظلت في نفس الوقت على موقفها في إدانة وجود الكوردونات من الأصل، مُتذيلةً بذلك موقف اتحاد النقابات (CUT) الرافض للكوردوانت على أعتبارها “تنظيماتٌ موازية ومُضعفة” للنقابات.

كان هذا الموقف من MIR تجاه الكوردونات هراءً بالطبع، فقد كانت الكوردونات تنظيماتٍ مستقلة حظي فيها العمال بدورٍ رياديٍ معترفٍ به. المفارقة هنا كانت في أنه على الرغم من التزام MIR بهدف “هيمنة الطبقة العاملة”، بدت MIR غير مُستريحة للدور القيادي الذي لعبته بعض تنظيمات الطبقة العاملة والتي لم تحتل هي MIR نفسها فيها أماكن قيادية.

كذبت دعوات MIR لتحويل الكوردونات إلى منظماتٍ عريضة تمثل بتساويٍ واضعي اليد على الأراضي ومنظمات توزيع السلع والطلبة وآخرين مع العمال، كذبت تلك الدعوات زعم MIR بأنها منظمة ماركسية: ففي الممارسة، نفت إدانة MIR للكوردونات، التي كان يؤسسها ويقودها العمال أنفسهم، الدور المحوري للطبقة العاملة في الصراع على سلطة الدولة. وفي كل الأحوال لم تتعدى شعارات MIR المدوية أكثر من كونها مجرد شعارات، حيث لم تؤدِ إلى نتائج تنظيمة صلبة.

في نفس الوقت لم ينتظر الصراع الطبقي طويلًا.

استمر الصراع الطبقي يتصاعد بحدة متزايدة في الأسابيع التي أعقبت انتخابات الكونجرس. صعد اليمين هجماته ولم تقدم الحكومة أي بديل لوقف هجوم اليمين. لكن حركة الطبقة العاملة كان لديها رد في تلك اللحظات.

« السابق التالي »