بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

روزا لكسمبورج: النظرية والممارسة

« السابق التالي »

11- التنظير حول الإمبريالية

خلال هذه السنوات من النقاش الحاد في الحزب، كانت لكسمبورج تُطوِّر فهمها للرأسمالية وعلاقتها بالاستعمار والإمبراطورية والحرب. ومنذ عام 1907 فصاعدًا، كانت لكسمبورج تعمل كمعلمةٍ بمدرسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي في برلين، ودرَّست الاقتصاد بحماسٍ ووضوح أسعدا طلابها ومعظمهم من العمال في العشرينيات حتى الأربعينيات من العمر. وقد بدأت كتابة كتاب “لم تنته منه” باسم “مقدمة في الاقتصاد السياسي”؛ نظرت فيه إلى أشكال المجتمع المشاعية ما قبل الرأسمالية والتي وصفها ماركس بالشيوعية البدائية والتي كانت بعض أمثلتها لا تزال قائمةً في بداية القرن العشرين. وقد أوضحت كيف أن أسلوب الحياة المتساوي والذي تميُّزه ملكية مشتركة لوسائل الإنتاج كان هو الشكل السائد للتنظيم الاجتماعي البشري لآلاف السنين. كما وصفت جيدًا كيف أن الإمبريالية الرأسمالية كانت تُدمِّر مثل هذه المجتمعات إذ كتبت:

“كان تدخُّل الحضارة الأوروبية كارثةً بكل المعاني بالنسبة للعلاقات الاجتماعية البدائية. فالغزاة الأوروبيون هم الأُول الذين لا يكتفون بالإخضاع والاستغلال الاقتصادي بل ينوون الاستيلاء على وسائل الإنتاج نفسها من خلال انتشال الأرض من تحت أقدام السكان الأصليين. وبذلك تحرم الرأسمالية الأوروبية النظام الاجتماعي البدائي من قاعدته. وما يظهر بعد ذلك هو شيء أسوأ من كل قمع واستغلال، إذ تبدأ فوضى تامة وتظهر ظاهرة أوروبية محددة وهي عدم استقرار الوجود الاجتماعي. إن المقهورين مِمَّن عزلوا عن وسائلهم للإنتاج يُنظر لهم من جانب الرأسمالية الأوروبية باعتبارهم مجرد عمال وعندما يكونون مفيدين لهذه الغاية فإنهم يُحالون إلى عبيد وإن لم يكونوا مفيدين فإنهم يُبادون”.

لكن ما الذي يدفع الرأسماليين للتوسُّع والاحتلال بهذا الشكل؟

أحسَّت لكسمبورج أن ماركس لم يفسر ذلك بشكل كافٍ؛ إذ أن عصر الإمبريالية قد أتى بعد وفاته. وقد حاولت لكسمبورج في عملها الأكبر (تراكم رأس المال) عام 1913 أن تشرح الدفع نحو الإمبريالية.

أشارت لكسمبورج إلى خللٍ ارتأته في المجلد الثاني من “رأس المال” لماركس. بالنسبة لماركس، كان التراكم صفةً مركزية للرأسمالية؛ ويعني هذا ببساطة لأن الرأسماليين بدلًا من استهلاك أرباحهم في شراء السلع الفخمة فإنهم يُعيدون استثمار بعض فائضهم كرأسمال، إما في شكل مصنع جديد وإما ماكينة وإما في شكل تأجير مزيد من العمال، ومن ثَم التوسع في الإنتاج. وهذا التوسُّع غير محدود مبدئيًا وتدفعه المنافسة بين الرأسماليين.

وقد جادلت لكسمبورج بأنه من المستحيل أن يتمدَّد الإنتاج “في مجتمعٍ يحتوي رأسماليين وعمال فقط”، كما في نموذج ماركس في كتابه رأس المال. فالعمال، وهم الطبقة المستغلَة تعريفًا، لن يملكوا الأجور الكافية لشراء الكمية الزائدة من السلع. فعندها ستكون أزمة من نقص الاستهلاك وسيضطر الرأسماليون إلى النظر خارجًا نحو أسواق غير رأسمالية لتحقيق أرباحهم. وبذلك فإنهم يقومون فعلًا بتصدير الرأسمالية ويستوردون المواد الخام الرخيصة ويزيدون من استقرار القوة الإمبريالية في الوطن.

بالتالي فإن التوسُّع الإمبريالي عند لكسمبورج في مناطق غير رأسمالية هو أمر ضروري للتراكم الرأسمالي، وفي الوقت نفسه يدمر تلك المناطق ويجرها إلى الرأسمالية. وهكذا في الواقع هناك حدود مادية واقعية جدا للتوسُّع، وبمجرد أن تمتص الرأسمالية كل المناطق غير الرأسمالية؛ فإنها لابد وأن تنهار في أزمة نهائية.

انتقد ماركسيون آخرون هذا المنهج حينها مجادلين بأن لكسمبورج اتخذت النموذج المجرد في المجلد الثاني لرأس المال حرفيًا للغاية وأن وصف ماركس للتراكم إنما يشير إلى أن الرأسماليين يعتمدون على استهلاك الرأسماليين الآخرين لبضاعتهم، مثل أن يبيع أحدهم للآخر ماكينة، بقدر ما يعتمدون على بيع السلع للعمال.

إن ميل معدل الربح للانخفاض، عند تزايد التراكم بدلًا من نقص الاستهلاك، لهو أمر مركزي نظرية ماركس للأزمة.

هناك دراساتٌ ماركسية أخرى – وأكثر تأثيرًا – عن الإمبريالية. مثلا يُعتَبَر كتاب نيقولاي بوخارين “الإمبريالية والاقتصاد العالمي” عملًا كلاسيكيًا حول هذا الموضوع، إذ يوضح كيف أن الإمبريالية مقيَّدة بتركز وتمركز رأس المال بمرور الوقت، مما يزيد من الترابط بين رأس المال والدولة القومية ويقود إلى توسُّع رأس المال خارجيًا.

إن ما اشترك بخصوصه بوخارين ولكسمبورج هو إصرارهما على أن الإمبريالية ليست مجرد نقطة على وجه الرأسمالية الصافي أو سياسة خاطئة ينتهجها حزبٌ معين؛ وإنما هي أمر جوهري تمامًا للنظام ولا يمكن فهمه بمعزل عن الرأسمالية. وقد باءت محاولات كاوتسكي لإصلاح العسكرة بالفشل، وأصبحت المعركة ضد الحرب والإمبريالية هي قلب المعركة ضد الرأسمالية.

« السابق التالي »