روزا لكسمبورج: النظرية والممارسة
لم تدع لكسمبورج ذلك الدعم الذي تلقاه كاوتسكي في الحزب يثني عزمها عن المعركة ضد الحرب. وفي ديسمبر 1913، أسست جريدة جديدة وهي “مراسلة الاشتراكية الديمقراطية”، وذلك بمصاحبة اثنين من الراديكاليين هما فرانز ميرنج وجوليان مارشلويسكي-كارسكي. وقد استخدموا الجريدة للتدخُّل في مناقشات الحزب ونشر وجهات نظرهم المعادية للحرب. وسرعان ما صارت لكسمبورج وحملتها تحت أعين السلطات.
وفي 20 فبراير 1914 اعتُقِلَت بتهمة تحريض الجنود على التمرُّد. وترجع التهمة إلى خطبة ألقته لكسمبورج في سبتمبر 1913 قالت فيها: “إذا كانوا يتوقَّعون منا أن نحمل أسلحة القتل ضد إخواننا الفرنسيين أو إخواننا من أي بلدٍ آخر، فدعونا نعلن رفضنا ونخبرهم أننا لن نفعل ذلك”. وقد ألقت كلمةً أخرى في محاكمتها استنكرت فيه العسكرية وأوضحت الموقف الثوري من الحرب. وقد طالب المدعي العام سجنها لمدة عام واحد وتنفيذ الحكم فورًا، وكانت إجابة لكسمبورج على النحو التالي:
“كلمة مختصرة عن الهجوم الشائن الذي شُنَّ تجاهي، وهو هجوم يخزي من قام به. إن المدعي العام قال – وأنا أذكر كلماته بدقة – أنه يطالب باعتقالي فورًا لأنه من المفهوم أن المتهمة إذا تُرِكَت فإنها ستهرب؛ وبمعنى آخر كأنه يقول: لو أنني (النائب العام؛ أي يقصد نفسه) حُكِمَ عليّ بالسجن عامًا فإنني سأحاول الهرب. وأنا يا سيدي أصدقك؛ فأنت ستهرب أما الاشتراكي الديمقراطي فلن يفعل، بل سيبقى بنضاله ويسخر من عقابكم. والآن اعتقلوني”.
حُكِمَ عليها بالسجن عامًا لكنها لم تُعتَقَل فورًا وانطلقت في الحال في جولةٍ من الخطب للعديد من الاجتماعات الجماهيرية للعمال الغاضبين من الحكم القاسي الواقع عليها. وقد تمكَّنت من مواصلة عملها لشهور بانتظار إتمام إجراءات الاستئناف ولم يُنفَّذ الحكم حتى عام 1915 حين سُجِنَت فعليًا. وفي هذه الأثناء كان الصراع الطبقي يحتدم والحس المعادي للحرب يتنامى لتكسب لكسمبورج جولةً جديدة في الحياة؛ إذ وجدت محاولاتها لإثارة الإضرابات الجماهيرية صدىً لها، فقد كان العمال يحتشدون لحضور اجتماعاتها ولم يسبق أن كان لكلماتها مثل هذا الصدى. لكن الأمل الجديد الذي أحسَّته لكسمبورج كان على وشك أن ينطفئ فجأة وبشكل صادم.
ظلَّ النشاط المعادي للحرب منتشرًا حتى بعد مقتل الأمير الملكي النمساوي المجري فرانز فرديناند على يد قومي صربي في يونيو 1914. إذ نظمت لكسمبورج والحزب الاشتراكي الديمقراطي مؤتمرات جماهيرية وأصدرت مراكز الحزب بيانات تؤكِّد موقف الحزب ضد الحرب حتى نهاية شهر يوليو ومنها: “إن البروليتارية الألمانية الواعية طبقيا، باسم الإنسانية والحضارة، تصعّد معارضتها ضد النشاط الإجرامي لدعاة الحرب”.
إلا أن الحرب أُعلَنت في بداية أغسطس وانهارت الأممية الاشتراكية. فأولًا، أعلنت النمسا الحرب على صربيا، وقد تحدَّث الاشتراكي النمساوي أدلر عن قلة حيلتهم التامة في مواجهة الحماسة القومية. ثم أعلنت روسيا الحرب ضد النمسا، وألمانيا أعلنت حربا ضد روسيا. وفي الوقت الذي ترابط البلاشفة وبعض الأحزاب الاشتراكية الصغيرة في صربيا وبلغاريا وبولندا ضد الحرب الإمبريالية، كان نواب الحزب الاشتراكي الديمقراطي في البرلمان يصوِّتون لصالح الحرب في الرابع من أغسطس. وخلال مناقشات الحزب قبيل التصويت، عارض 15 نائبًا الحرب من أصل 111 نائبًا؛ كان ليبكنخت من بين المعارضين. وقد رُفِضَ السماح لهم بتسجيل موقف للأقلية واتفق على عدم شق الصف الحزبي.
كان لأفعال الحزب الاشتراكي الديمقراطي أسوأ تأثير على الاشتراكيين في كل مكان؛ فقد كان رغم كل شيء الحزب الأكبر والأقوى والأكثر تنظيمًا في الأممية، وكان وريثًا لتراث ماركس وإنجلز. فقد خان الحزب كل ما ادَّعى النضال من أجله، وبدون الحزب كانت الأممية لا تعنى شيئًا.
رفض لينين أول الأمر تصديق ما أُخبر به عن الحزب، أما لكسمبورج فقد تأثَّرت بشدة لكنها سرعان ما استجمعت فهمها لما كان يجب فعله، وفي الليلة عينها عقدت اجتماعًا في منزلها في برلين مع عددٍ قليل من الثوريين منهم ميهرنج وكارسكي وبدعم من كلارا زيتكن في شتوتجارت؛ وقد اتفقوا على تصعيد النضال ضد الحرب وضد حزبهم نفسه. وفي ديسمبر 1914 صوَّت ليبكنخت ضد اعتمادات الحرب وانضم إليهم، وكانت هذه بداية المجموعة التي أصبحت في ما بعد عصبة سبارتكوس.
قام كاوتسكي ببعض المراوغات النظرية لتبرير موقف الحزب، مدعيًا أن هذه الحرب تختلف عن غيرها. وسلَّط الضوءَ على انهيار الأممية مدعيًا أنها: “ليست سلاحًا فعالًا في وقت الحرب، فهي أداة سلم”، وهو بذلك يجعل أقصى احتجاج للحزب ضد الحرب التي يذبح فيها العمال بعضهم مجرد مواساةٍ فارغة يربت فيها الحزب على ظهر العمال.
وللمرة الأولى يرى لينين ما أصبح عليه كاوتسكي فيقول: “كانت روزا لكسمبورج على حق؛ فقد أدركت منذ وقتٍ طويل أن كاوتسكي كان مُنَظِّرًا انتهازيًا يخدم أغلبية الحزب والانتهازية باختصار. وليس أخطر ولا أخبث أثرًا على الاستقلال الفكري للبروليتاريا من إرضاء الذات والنفاق اللذين لدى كاوتسكي الذي يعتم على كل شيء ويخمد الوعي الناهض للعمال بالسفسطة والتزييف”.
أسَّسَت لكسمبورج جريدة “الأممية” في يناير 1915. وفي عددها الأول والوحيد، هاجمت كاوتسكي، كاتبةً: “إن ما قام به كاوتسكي هو تعديل المناشدة العالمية التاريخية الواردة بالبيان الشيوعي لتصبح: يا عمال العالم، اتحدوا في السلم ولكن اذبحوا بعضكم في الحرب!”.