روزا لكسمبورج: النظرية والممارسة
سُجِنَت لكسمبورج في فبراير 1915 في حالةٍ صحية سيئة، إذ كانت ترتب للرحيل عندما تم اختطافها فجأة وأُخذت إلى سجن النساء في برلين. وقد بقيت في حبسها معظم فترة الحرب باستثناء فترات قصيرة من الحرية. ولم تنزعج من كونها في السجن فقد تعاملت مع الموقف سابقًا، لكنها هذه المرة كانت تعلم مدى الحاجة لقيادتها خارج السجن. فقد كانت مجموعتها تعمل مع بعض أعضاء الوسط الماركسي والذين لم يكونوا على استعدادٍ لمجاراة كاوتسكي في تبريره للحرب لكن المعارضة لم تكن قادرةً على شن هجومها.
كتبت لكسمبورج كتيبًا بعنوان “أزمة الاشتراكية الديمقراطية” وهُرِّبَ خارج السجن قبل إبريل 1915. وقد نُشر الكتيب لاحقًا ووُزِّعَ بشكلٍ غير قانوني تحت اسم مستعار هو “جونيوس”، وأصبح معروفًا بكتيب جونيوس. وفيه تصف لكسمبورج أهوال الحرب على النحو الآتي: “مخزية، لا شرف فيها، تخوض في الدماء وتقطر حقارة: هكذا يقف المجتمع الرأسمالي. ليس كما نراه عادةً وهو يقوم بأدوار السلام والصلاح والانضباط والفلسفة والأخلاق؛ وإنما كوحشٍ هادر معربد في الفوضى وهواءٍ موبوءٍ يُدمِّر الثقافة والإنسانية لتنكشف كل بشاعته”.
كان كتيب جونيوس هجومًا حادًا أيضًا على الحزب الاشتراكي الديمقراطي لفشله في إخماد حراك الثوريين والطبقة العاملة، فلم تكن اللحظة لحظة سكون وانتظار حتى تنتهي الحرب، بل كانت مفترق طرق بالنسبة للإنسانية: “إما انتصار الإمبريالية وتدمير كل الثقافة مثلما حدث في روما القديمة من نزحٍ للسكان وخراب وانحطاط وانتشار للموت، وإما انتصار الاشتراكية وهي النضال الواعي للبروليتاريا الأممية ضد الإمبريالية وضد أساليبها وضد الحرب. هذه هي معضلة تاريخ العالم بموازينه المختلة؛ وإنه لاختيار لا مفر منه ينتظر البروليتاريا لتحسم قرارها”.
قد تكون العبارة القائلة: “إما الاشتراكية أو البربرية” هي أشهر عبارات لكسمبورج؛ إذ تنفذ العبارة نحو قلب منهج لكسمبورج السياسي لتتحدث إلينا اليوم في عالم التغير المناخي والأسلحة النووية.
ليست الماركسية الثورية حتميةً، ولكنها تضع الفعل الواعي للجماهير في قلب كل شيء. فما يُحدِّد المستقبل هو اختيارات البشر وليس “التاريخ”: “لن يتوقف هذا الجنون، ولن ينحسر هذا الكابوس الدموي حتى ينهض عمال ألمانيا وفرنسا وروسيا وإنجلترا من غفلتهم لتترابط أيديهم في أخوة متخلصين من جوقة مثيري الحرب؛ لتقضي صيحة العمال العظيمة على صرخة الضبع الرأسمالي.. يا بروليتاريا العالم، اتحدوا”.
قبل نهاية عام 1915 كانت لقت الدعوة صداها مع تزايد عدد القتلى وتبدُّد الآمال في نصرٍ سريع. وفي ديسمبر، انضم أخيرًا عشرون نائبًا بالحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى ليبكنخت في التصويت ضد اعتمادات جديدة للحرب. ومثلما كتب أحد أعضاء الحزب: “إن الجماهير غاضبة حيال الحرب وخصوصًا حيال التكلفة المرتفعة للمعيشة”. أُطلِقَ سراح لكسمبورج في فبراير 1916 لتلتقيها ألف امرأة مؤيدة جلبوا لها الهدايا وشدَّوا على يدها مصافحةً. وعلى الفور بدأت لكسمبورج عملها إلى جانب ليبكنخت تنظيمًا وتحريضًا.
في مظاهرة الأول من مايو 1916 في برلين، ألقى ليبكنخت خطابًا ناريًا، أنهاه قائلًا: “لتسقط الحرب ولتسقط الحكومة”. اعتُقِلَ على الفور وسُجِنَ بانتظار محاكمته. شكَّلَ هذا الحدث منعطف مهم، فقد تظاهر الآلاف على خلفية حبس ليبكنخت. وعند بداية محاكمته انطلقت مظاهرات جماهيرية في برلين، ولما حُكِمَ عليه بالسجن لمدة عامين ونصف مع الأشغال الشاقة والتي زيدت لاحقا إلى أربع سنوات في محاكمة عسكرية، أضرب 55 ألفًا من عمال الذخيرة عن العمل في إضراب نظَّمه “النقابيون الثوريون”، وهي شبكة مناضلين صناعيين. بدأ عمال ألمانيا في النهوض.