روزا لكسمبورج: النظرية والممارسة
كان أثر الحرب في روسيا أكبر كثيرًا من أثرها في باقي الأمم. النقص في المواد الأساسية وظروف العمل المريعة أدت لإضرابات في بداية عام 1917. وسرعان ما انتشرت تلك الإضرابات، وفي سياقها أعاد العمال الروح للسوفييتات، أي مجالس العمال والتي كان أول ظهور لها في ثورة عام 1905. وفي غضون أسبوع تنحى القيصر المكروه عن العرش وتم تشكيل حكومة مؤقتة وعدت باقتراع عام.
عادت لكسمبورج إلى السجن دون محاكمة في يوليو 1916، لكنها تابعت الأحداث عن قرب بقدر ما استطاعت رغم أنها اضطرت للاعتماد على الصحف التي أمرتها السلطات بأن “كبت أي تفسير أو مدح لعمل الثوار في روسيا”. وقد رحَّبَت لكسمبورج بالثورة وكتبت لمجموعة سبارتكوس في مايو 1917: “لمدة ثلاث سنوات، بدت أوروبا كغرفة عفنة تكاد تخنق ساكنيها. اما الآن ففتحت نافذة ليهب هواء جديد منعش فيتنشَّقه كل من في الغرفة بعمق وحرية”.
لكن لكسمبورج فهمت أيضًا أن الطبقة العاملة في روسيا المترددة لا تقدر أن تفوز منفردة:
“هناك ضمان أوحد جاد في مقابل هذه المخاوف العادية حول مستقبل الثورة الروسية: وهو نهوض البروليتارية الألمانية وانتزاع العمال والجنود الألمان لموقع السلطة في بلادهم ونضال الجماهير الألمانية الثوري من أجل السلام. فإنه بفعل العمال والجنود الألمان سيتحقق السلام فورًا ويرتكز على أرضٍ صلبة.
وهكذا فإن مسألة السلام في الواقع ترتبط بالتطور الراديكالي الدائم للثورة الروسية؛ غير أن هذا التطور مقرون هو الآخر النضالات الثورية الموازية من أجل السلام في فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وخصوصا ألمانيا”.
تطوَّرت الثورة الروسية في سياق عام 1917، وذلك مع تحدي المجالس العمالية لسلطة الحكومة المؤقتة ومع الإضرابات والمظاهرات التي تفجرت في الصيف. وقاد البلاشفة في أكتوبر انتفاضة تحت شعار “كل السلطة للسوفيات” وسقطت الحكومة المؤقتة.
كتبت لكسمبورج من محبسها رسالةً لكلارا زيتكن تقول فيها: “إن الأحداث الروسية لهي من العظمة والمأساة بمكان؛ لينين وأنصاره لن يقدروا طبعًا على كسب النزاع ضد الفوضى العارمة لكن محاولتهم في حد ذاتها هي عمل رائع في تاريخ العالم وعلامة فارقة”. وقد أحزنها عدم تجاوب العمال الألمان وخصوصًا قياداتهم في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ورفضت بشدة نظرة كاوتسكي وآخرون حينها ومفادها أن الثورة سابقة لأوانها وأن روسيا متأخرة جدًا بالنسبة لثورة اشتراكية. أما بالنسبة للكسمبورج فقد كان المفتاح هو امتداد الثورة إلى ألمانيا.
كتبت لكسمبورج إلى لويز كاوتسكي: “هل أنت سعيدة حيال الروس؟ بالطبع لن يستطيعوا النجاة من الثورة المضادة وذلك ليس بسبب الإحصاءات التي تشير إلى تراجع التطوُّر الاقتصادي في روسيا مثلما استنبط زوجك النابه؛ ولكن بسبب أن الاشتراكية الديمقراطية فائقة التطور في الغرب يمثلها كلاب جبناء سيقفون متفرجين بهدوء بينما يُهدَر دم الروس. لكن سقوطًا مثل ذلك أفضل من العيش المزيف في وطن الأسلاف. إنه عمل تاريخي عالمي لن تختفي آثاره بعد عصورٍ من الآن”.
رأت لكسمبورج أن واجبها هو تحليل الأحداث في روسيا والاستفادة من الدروس التي ظهرت. وفي سبتمبر 1918؛ كتبت كتيبًا بعنوان “الثورة الروسية” انتقدت فيه البلاشفة لفقدانهم الديمقراطية وهو الأمر الذي رأته مشكلة مستقبلية. ولم ينته الكتيب ولم يصدر في حياتها؛ لكنه استُخدِمَ ضد لينين كدليلٍ على الفجوة بين لكسمبورج والبلشفية. وفي الحقيقة أن لكسمبورج أشادت بالبلاشفة ودورهم على النحو التالي: “إن حزب لينين هو الحزب الوحيد الذي أدرك تفويض وواجب الحزب الثوري الحقيقي. فإن الحزب الذي يعي كيف يقود وكيف يطوِّر الأمور هو الذي يكسب التأييد في الأوقات العاصفة”.
كان لها رغم ذلك أربعة مواضع مُحدَّدة للنقد وهي: مسألة الأرض، والمسألة القومية، والجمعية التأسيسية، والحريات السياسية.
جادلت لكسمبورج بأن سياسة البلاشفة في دعوتهم للفلاحين للاستيلاء على الأرض وتقسيمها فيما بينهم بدلًا من تأميمها هي سياسية ستُحدِث مشكلاتٍ نتيجة تعزيز الملكية الخاصة. وقد سبَّبَ ذلك مشكلةً فعلًا، لكن لم يكن لدى البلاشفة بديلٌ حقيقي لكسب الثورة بطبقةٍ عاملة صغيرة الحجم كان لابد وأن يكسبوا الفلاحين لصفهم. لولا هذه السياسة لما كان هناك ثورة لتناقش. وكانت سياسة البلاشفة أكثر ديمقراطية من التأميم الجبري الذي اقترحته لكسمبورج.
كما انتقدت شعارهم حول تقرير المصير لكل شعب الإمبراطورية الروسية. وبدلًا من ذلك رأت لكسمبورج ضرورة دعوتهم لوحدة ثورية للإمبراطورية تحت سيطرة السوفييت. لكن لينين فهم أن إجبار أهل المشرق الروسي، المضطهدين مسبقًا من جانب قيصر، على الانضمام لسلطة السوفييت لن يُفضي إلا إلى إبعادهم نحو القومية. فالسبيل الأفضل لضمان أقصى وحدة كان تقديم حق أصيل في تقرير المصير والذي بدوره سيجلب التأييد الثوري؛ وهذا موقف أكثر ديمقراطية، فأممية لكسمبورج المجردة كانت لتصبح كارثية.
أشارت لكسمبورج أيضًا إلى دعوة البلاشفة لجمعيةٍ تأسيسية حتى تُلغى ما أن يصلوا للسلطة. واقترحت حكمًا مشتركًا بين السوفييتات والجمعية التأسيسية. لكن بالنسبة للبلاشفة، كانت السوفييتات هي أرفع صيغ الديمقراطية. فقد كانت كيانات مُشكّلة من ممثلي العمال ومنتخبة ديمقراطيا وأكثر حساسية بأحوال الجماهير وضرورات المراوغة النضالية. اما الجمعية التأسيسية فكانت تمثل الديمقراطية البرجوازية، وهي شكل محدود للديمقراطية لا تتحدى سلطة الرأسماليين على الاقتصاد. وقد أدركت لكسمبورج ذلك بعد شهرين فقط عندما كانت في خضم ثورتها في نوفمبر 1918: “أن نلجأ إلى اللجنة الوطنية اليوم لهي عودة واعية أو غير واعية بثورتنا إلى مرحلة تاريخية من الثورات البرجوازية، وأي من يدافع عن ذلك فهو عميل سري للبرجوازية أو متحدث بغير وعي نيابة عن إيديولوجية البرجوازية الصغيرة. واليوم ليست المسألة هي الديمقراطية أو الديكتاتورية، بل المسألة هي ما طرحه التاريخ على جدول الأعمال: إما الديمقراطية البرجوازية أو الديمقراطية الاشتراكية؟. فديكتاتورية البروليتارية هي ديمقراطية بالمعنى الاشتراكي”.
إن الإيمان بالتحرر الذاتي للطبقة العاملة كان في قلب نقد لكسمبورج. وقد اضطرت الدولة السوفييتية أن تتنازل عن قدرٍ كبير من الأرض وبعض الموارد والصناعات الرئيسة للإمبريالية الألمانية بعد معاهدة بريست-ليتوفسك وبعد بداية الحرب الأهلية. وإزاء ذلك، خشيت لكسمبورج أن يؤدي تمركز البلاشفة إلى إعاقة الديمقراطية وإلى الديكتاتورية، ليس ديكتاتورية البروليتارية وإنما ديكتاتورية الحزب. ورغم ذلك فهمت القيود الخارجية على لينين والبلاشفة إذ قالت: “إن كل ما يحدث في روسيا مفهوم ويمثل سلسلة لا مفر منها من النتائج والأسباب والتي تبدأ وتنتهي من إخفاق البروليتاريا الألمانية واحتلال الإمبريالية الألمانية لروسيا. ونكون نطالب بشيء يفوق قدرة البشر من لينين ورفاقه إذا توقعنا منهم في ظل هذه الظروف أن يستحضروا أفضل ديمقراطية وأبرز نموذج لديكتاتورية البروليتارية وأزهى اقتصاد اشتراكي. إنهم بعزيمة وقفتهم الثورية وقوة فعلهم المثالية وإخلاصهم الصلب للاشتراكية الأممية قد قدموا كل ما يمكن من إسهام في ظل هذه الظروف البالغة الصعوبة”.
إن مفتاح حل مشكلات الثورة الرئيسية كان يكمن في نشر النضال خارج روسيا.