بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

روزا لكسمبورج: النظرية والممارسة

« السابق التالي »

2- صبيةٌ مُتمَرِّدة ثم ثائرة

وُلِدَت روزا لكسمبورج في مارس عام 1871 في زاموسك، وهي بلدةٌ كبيرة ولكن متدنية زراعيًا في جنوب شرق بولندا. وفي ذلك الوقت لم يكن هناك دولةٌ بولندية مُوحَّدة؛ إذ كانت بولندا مُقسَّمة بين الإمبراطوريات الروسية والألمانية والنمساوية، وكانت زاموسك تحت حكم القيصر – ديكتاتور روسيا. وكانت لها ثقافةٌ يهودية مزدهرة، إذ كان أكثر من ثلث السكان من اليهود، لكن عائلة لكسمبورج كانت مندمجة بدرجةٍ عالية في أسلوب الحياة البولندي. إذ كان إلياش، والد روزا، تاجر أخشاب وكانت العائلة ميسورة إلى حد متوسط يتخلَّله بعض العناء.

كانت روزا الأصغر سنًا بين خمسة أبناء، وفي طفولتها انتقلت الأسرة إلى وارسو الواقعة أيضًا تحت حكم الإمبراطورية الروسية. وقد كان هذا الانتقال جزئيًا بناءً على رغبة الوالد إلياش في حصول أبنائه على أفضل فرصة ممكنة في التعليم. وسرعان ما عانت روزا مرضًا حادًا في مفصل الفخذ ألزمها الفراش لسنةٍ كاملة، ونتج عنه إعاقة دائمة لازمتها بعد ذلك. لكنها استغلَّت فترة ملازمتها للفراش جيدًا؛ فقد تعلَّمَت القراءة والكتابة وبدأت في كتابة أول رسائلها إلى والديها وأقاربها في سن الخامسة مُصمِّمَةً على تلقي ردود رسمية ممن تراسلهم.

لم يكن من السهل لليهود البولنديين أن يتلقوا تعليمًا جيدًا في ظل الحكم الإمبراطوري الروسي العنصري القمعي، فقد سُمِحَ لقليلٍ من البولنديين غير اليهود بالالتحاق بأول مدرسة ثانوية بوارسو والتي كانت محجوزةً لأبناء الموظفين العموميين الروس. وقد وُضِعَت حدودٌ صارمة على عدد اليهوديات المسموح لهن بالالتحاق بالمدرسة الثانوية الثانية للبنات بوارسو والتي التحقت بها روزا. وقد أُجبِرَ الطلاب على التحدُّث بالروسية فيما مُنِعَت اللغة البولندية حتى خارج الفصول. وهذا النوع من صبغ كل شيء بالروسية ولّد في المقابل معارضةً بين طلاب المدرسة وكانت لكسمبورج في مقدمة صفوف هذه المعارضة. فقد تمرَّدَ الطلاب ضد مُدَرِّسيهم ونظَّموا المظاهرات وكثيرًا ما حدث ذلك تضامنًا مع نضالاتٍ أخرى تجري في المجتمع البولندي الأوسع.

كانت هناك روابط بين طلاب المدارس والمنظمات الثورية العاملة في وارسو التي تشكَّلت بشكلٍ كبير من شباب المثقفين. وكانت روزا نفسها في سن الخامسة عشر على اتصالٍ بتلك المجموعات، فيما كان نشاطها ملحوظًا. وعلى الرغم من تفوُّقها الدائم في صفوفها الدراسية، حُرِمَت من القلادة الذهبية للتفوُّق الأكاديمي بسبب سلوكها المُتَمَرِّد تجاه السلطات. قبل أن تُنهي عامها المدرسي الأخير كانت قد أصبحت عضوًا في حزب “بروليتاريا” وهو أول حزب اشتراكي في بولندا.

كان حزب “بروليتاريا” يستوحي إلهامه من الناردونيين؛ وهم مجموعةٌ ثوريةٌ روسية ناضلت من أجل تحرير الفلاحين من الأرستقراطية القيصرية من خلال القيام بأعمال الإرهاب والاغتيالات والتفجيرات، لكن المجموعة البولندية سعت إلى التحرُّك لما هو أبعد من الأفعال الفردية من خلال بناء قاعدة جماهيرية في أوساط حركة العمال المتنامية في المدن البولندية.

كانت بولندا في ذلك الوقت أكثر تقدُّمًا من روسيا في ما يخص الناحية الصناعية، ويرجع ذلك إلى قرب بولندا من الأسواق الغربية من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى قلق قيصر روسيا من أن تنمو طبقة عاملة صناعية بالقرب من قلب حكمه.

نجح حزب “بروليتاريا” في تنظيم سلسلة من الإضرابات في أنحاء البلاد، شملت إضرابًا عامًا في ضواحي وارسو. قابلت السلطات هذه الإضرابات بقمعٍ هائل، فقد اعتُقِلَ العديد من أعضاء الحزب خلال العامين التاليين ودُمِّرت المنظمة فعليًا. وحينما بلغت لكسمبورج عامها الخامس عشر، كان أربعة من قيادات الحزب قد أُعدِموا شنقًا وعلنًا، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يُنفَّذ فيها حكم الإعدام علنًا منذ 22 عامًا.

نجا عددٌ قليلٌ من خلايا المنظمة من هذا القمع، وانضمَّت لكسمبورج لإحدى تلك الخلايا الناجية، وقد كانت، مثل آخرين من أبناء جيلها، مُتأثِّرةً بالقمع اليومي الذي تمارسه السلطة القيصرية مما دفعها لتبني السياسة الثورية. لم تكن هناك حريةٌ سياسية حقيقية في الإمبراطورية، ولذلك لم يكن خيار النشاط من أجل الدفاع عن الديمقراطية يمثل الدرب السهل في الحياة.

شهدت السنوات القليلة التالية عودة نضالات العمال والنشاط الاشتراكي في بولندا، لكن ذلك جلب مخاطر جديدة للنشطاء. وقد أُجبِرَت لكسمبورج على اللجوء في 1889 لتجنُّب الاعتقال، واختارت السفر إلى سويسرا التي كانت وجهةً للاشتراكيين البولنديين، حيث هُرِّبت عبر الحدود مختبئةً تحت قشٍ مُحمَّل على عربةٍ صغيرة، بعد أن أقنعت قسًّا محليًا برغبتها في التحوُّل للمسيحية وأنها مُضطَّرة للهروب من عائلتها القاسية كي تحقِّق ذلك.

« السابق التالي »