روزا لكسمبورج: النظرية والممارسة
مع أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي كان يُعتَبَر حزبًا ماركسيًا، نمى شرخٌ في الممارسة خاصةً بين أولئك الذين استمروا في الجدال بأن تحقيق الاشتراكية يتطلَّب ثورةً، وأولئك ممن رأوا على نحوٍ متزايد إمكانية إصلاح الدولة القائمة من خلال البرلمان بدلًا من إسقاطها. ويجدر هنا الإشارة أن هؤلاء “الإصلاحيين” كانوا ملتزمين فعليًا بإحداث تغيير جذري في المجتمع وتحسين معيشة العمال، على العكس من إصلاحيي الأحزاب العمالية الحالية الذين يتقبَّلون فكرة أنه “لا يوجد بديل” عن الخصخصة والهجوم على المكتسبات الاجتماعية للعمال.
كان لذلك الحزب مُنَظِّريه الكبار، كإدوارد برنشتين الذي مثَّلَ أحد المُنَظِّرين الأساسيين للحزب الاشتراكي الديمقراطي، والذي أعد “مراجعةً” للماركسية الثورية عام 1899 في كتابه “الشروط المسبقة للاشتراكية ومهام الاشتراكية الديمقراطية” والمعروف في بريطانيا تحت عنوان “الاشتراكية التطورية”، والذي أوضح فيه أطروحته الإصلاحية.
بدأ برنشتين بادعائه أن الرأسمالية قد تغيَّرَت منذ عصر ماركس، أي منذ جيلٍ واحد مضى. وكلما تقدَّم الزمن بالرأسمالية، كلما زاد استقرارها إذ تتكيَّف أوضاعها. فالاحتكارات والنظام الائتماني يمكنهما تنظيم الرأسمالية وتخليصها من الركود والأزمات التي عرَّفها ماركس في كلاسيكيته “رأس المال”. وبالتالي، في وجهة نظره، تخف حدة تناقضات الرأسمالية بمرورِ الوقت، لا أن تتعمَّق. إذن فالرأسمالية ستستمر في النمو، ومهمة الاشتراكيين هي النضال من أجل حصةٍ أكبر من الثروة لصالح العمال، وبالتدريج يتحوَّل نظام اللامساواة الرأسمالي إلى نظامِ مساواةٍ اشتراكي.
أما روزا لكسمبورج، فقد جادلت بالعكس من ذلك في أحد أشهر أعمالها حتى الآن وهو كتاب “إصلاح أم ثورة”. فبينما قد تمر فتراتٌ من الاستقرار، مثلما كان في ذلك الوقت منذ عام 1873، فإن وجود وحدات أكبر من رأس المال إلى جانب صعود السيطرة العسكرية للقوى الكبرى يعني مزيدًا من التناقضات والصراعات داخل النظام، وقد كتبت لكسمبورج: “بالنسبة له (برنشتين)، فإن الأزمات هي ببساطة أعطال وارتباكات الماكينة الاقتصادية، وبإيقاف هذه الارتباكات يعتقد برنشتين أن الماكينة قد تعمل جيدًا. لكن الحقيقة هي أن تلك الأزمات ليست أعطالًا بالمعنى التقليدي للكلمة. إنما هي “ارتباكات” لا يُطوَّر دونها الاقتصاد الرأسمالي؛ أي أن الأزمات هي ظاهرة عضوية لا يمكن فصلها عن الاقتصاد الرأسمالي”.
إن الأزمة هي مرض الرأسمالية المزمن، وذلك لكون الرأسمالية نظامًا مبنيًّا على المنافسة والتوسُّع الذي لا هوادة فيه، ويكون العمال والفقراء في ظلِّ هذا النظام هم من يضطرون لتحمُّلِ تكلفة هذه الأزمات عند حدوثها، وبالتالي فإن هذا النظام لا يمكن ترويضه بل يجب إسقاطه.
رأى ماركس أن الرأسمالية تجعل من النضال من أجل الاشتراكية احتمالًا اقتصاديًا، بل وضرورة، فالوسائل اللازمة لتوفير مستوى لائق من المعيشة للجميع موجودة الآن، لكن الرأسمالية لم تستطع تحقيق ذلك حيث إن الفوضى الرأسمالية لا تجلب التقدُّم وإنما تجلب الدمار. كما أن نمو الرأسمالية يعني الاستعمار وتدمير الثقافات وتنامي خطر الحرب، إذن فالاشتراكية ليست فقط مجرد فكرة لطيفة بل إنها ضرورة للإنسانية.
تقتبس لكسمبورج كلمات برنشتين التي تنضح بالحسرة على هذه المقاربة العلمية: “لماذا تُقَدَّم الاشتراكية كنتيجةٍ للإكراه الاقتصادي؟ لماذا يُمتَهَن فهم الإنسان لإرادته وشعوره بالعدالة؟”، وتجيب عن هذا السؤال قائلةً: “إن التوزيع فائق العدالة عند برنشتين إنما يتحقَّق بفضل الإرادة الحرة للإنسان، أي أن فعل إرادته لا يأتي من الضرورة الاقتصادية، بما أن الإرادة نفسها مجرد أداة، بل يأتي من مفهوم العدالة لدى الإنسان، أي من فكرة العدالة لدى الإنسان. يرجعنا ذلك مباشرةً إلى مبدأ العدالة، إلى حصان الحرب العجوز الذى عليه هدهد الإصلاحيون على مدى عصور لعدم وجود وسيلة نقل تاريخية أكثر أمانة. إننا نعود إلى المأسوف عليها “روسينانت” التي امتطى صهوتها كل دون كيشوتات التاريخ وخبوا بها نحو الإصلاح العظيم للأرض، عائدين دومًا وقد اسودَّت منهم الوجوه”.
إن ما تقصده لكسمبورج هنا هو أن الإرادة قد وجدت دومًا منذ وجود سبارتاكوس وحتى “مؤيدي المساواة” (في القرن السابع عشر)، لكن لم توجد قبل الآن الإمكانية الاقتصادية لتوزيعٍ عادلٍ للثروة. وفي حين جعل ماركس من الاشتراكية علمًا، فقد برنشتين لإعادتها مرة أخرى كهدفٍ طوباوي مجرد.
كانت النقابات العمالية والتعاونيات في ذلك الوقت في ألمانيا تُحسِّن من مستوى معيشة الناس العاديين، كما أن التوسع في حق الاقتراع سمح لمزيدٍ من العمال بالتمثيل السياسي لتقديم قوانين في صالحهم. وبالنسبة لبرنشتين، كان ذلك يعني أن الإصلاح التدريجي للرأسمالية ممكنٌ، في حين رأت لكسمبورج أن نضال النقابات العمالية والصراع من أجل الإصلاحات أمرٌ حاسمٌ، لكنه ليس حلًا في حد ذاته: “إن الشروط الموضوعية للمجتمع الرأسمالي تُحوِّل الوظيفتين الاقتصاديتين للنقابات العمالية إلى نوعِ عملٍ “سيزيفي”، ومع ذلك فلا غنى عنه. وكنتيجةٍ لنشاط النقابة العمالية، ينجح العامل في الحصول لنفسه على أجرٍ يوافق ظروف سوق العمل، وكنتيجةٍ لنشاط النقابة العمالية يُطبَّق قانون الرأسمالي للأجر”.
إذن فالنقابات العمالية يمكنها رفع الأجور من خلال إعادة التفاوض على شروط الاستغلال وهذا أمرٌ هام، لكنه لا يقضي على الاستغلال تمامًا. ويُعتَبَر النضال من أجل الإصلاحات ضرورةً للنضال من أجل القضاء على النظام، فكما أشار الاشتراكي الثوري البريطاني توني كليف، فقد كوَّن سيزيف عضلاتٍ قوية للغاية لكن القضاء على النظام أمرٌ آخر.
اعتقد برنشتين أن الاشتراكيين يمكنهم الاعتماد على استخدام الدولة لتحقيق التغيير، وكأن الدولة أداةً حيادية يستخدمها أيٌّ من يكن في الحكومة. وقد جادلت لكسمبورج بأن الدولة ليست محايدةً وإنما طبقية تُمثِّل وتعمل لصالح الطبقة الحاكمة. سلَّطَت الضوءَ على طبيعة الدولة واحتكارها للعنف في الفقرة التالية من مناظرتها لإيميل فاندرفيلد:
“ما هي الوظيفة الفعلية للشرعية البرجوازية؟ إذا اختُطِفَ مواطنٌ حر على يد آخر وحبسه في مكانٍ مغلق غير مريح لمدة ما، فإن الجميع يفهم هذا الفعل كفعلٍ عنيف ارتُكِبَ. ورغم ذلك، فإن جرت هذه العملية طبقًا لهذا الكتاب المعروف بقانون العقوبات وكان مكان الحبس في هذه المسألة هو “السجن البروسي الملكي”، فإن الفعل كله يتحوَّل إلى إجراءٍ من إجراءات الشرعية السلمية.
وإذا أُجبِرَ شخصٌ ما، ضد رغبته من جانبِ شخصٍ آخر، على قتل أقرانه، فإن هذا الفعل بوضوحٍ هو عمل من أعمال العنف. أما إذا جرت نفس العملية تحت المسمى الخدمة العسكرية، فإن المواطن الصالح يغتر بذلك معتقدًا أنه يتنفَّس الشرعية السلمية التامة.
وبالمثل، إذا حُرِمَ شخصٌ ما من ملكيته أو مكتسباته خلافًا لرغباته، فلا شك أن ذلك عنفٌ. لكن إذا جرت نفس العملية تحت مسمى فرض الضرائب غير المباشرة، فإنها حينئذ تعتبر ممارسة حقوق الشرعية.
بمعنى آخر، فإن ما يُقدَّم لنا تحت مسمى شرعية برجوازية هو لا شيء سوى عنف الطبقة الحاكمة، عنف كُرِّسَ كقاعدةٍ إلزامية منذ البداية. وبمجرد أن تُقر أعمال العنف الفردية بهذه الطريقة كقاعدةٍ إلزامية، فإن هذه العملية يمكن أن تنعكس في ذهن رجل القانون البرجوازي (و في ذهن الاشتراكيين الانتهازيين بدرجةٍ مماثلة)، لكنها ليست كما هي وإنما تنعكس بصورةٍ مقلوبة: أي أن النظام الشرعي يظهر كخلق مستقل من “العدالة” المجردة، ويظهر عنف الدولة كمجرد نتيجةٍ وكعقوبةٍ قانونيةٍ بسيطة. أما في الواقع، فالحقيقة هي العكس تمامًا. الشرعية البرجوازية (العملية البرلمانية كعملية تطور) هي في حد ذاتها مجرد صيغة اجتماعية جزئية للعنف السياسي البرجوازي؛ أي أنه عنفٌ نَبَتَ من القاعدة الاقتصادية”.
إن القانون هو أداةٌ للرأسمالية، ولا يمكن للقانون أن يكون أداةً للتحوُّل الجذري للعالم. وبالمثل فإن القانون لا يمنع العنف بل إن القانون يُبنى ويبقى على العنف، ومن الوهم أن تعتقد إمكانية استخدام القانون لشرعنة الرأسمالية بشكل سلمي.
إذن فجدال لكسمبورج لبرنشتين ليس لدفاعه عن الإصلاحات، فهذا هو العمل اليومي الأساسي للاشتراكيين، وإنما يرجع هذا الجدال إلى رؤية برنشتين لهذا الطريق السلمي التدريجي نحو الاشتراكية ومعارضته للمسار العنيف للثورة، وتوضح لكسمبورج ذلك حين تقول: “الإصلاح والثورة ليسا منهجين للتطوُّر التاريخي يمكن اختيارهما بسرور من مائدة التاريخ مثلما يختار المرء طعاما ساخنًا أو باردًا”.
تقول أيضًا:
“إن من المخالفة للتاريخ أن يُقدَّم العمل من أجل الإصلاحات كثورةٍ طويلة الأمد، وتقديم الثورة كسلسلةٍ مُكثَّفَة من الإصلاحات؛ فالتحوُّل الاجتماعي والإصلاح التشريعي لا يختلفان طبقًا للمدة الزمنية لكليهما، وإنما يختلفان طبقا لمحتويهما. وهذا يُفسِّر كيف أن هؤلاء، ممن يعلنون أنفسهم مؤيدين لأسلوب الإصلاح التشريعي بدلًا من، ومقابل، انتزاع السلطة السياسية والثورة الاجتماعية، هم لا يختارون طريقًا أهدأ وأبطأ لنفس الهدف، وإنما يختارون هدفًا مختلفًا؛ فحينئذٍ يصبح برنامجنا هو إصلاح الرأسمالية وليس تحقيق الاشتراكية”.
يضع برنشتين النضال من أجل الإصلاحات في مواجهة النضال من أجل الثورة، فيما تصر لكسمبورج على وحدتهما، فالنضال من أجل الإصلاح هو الطريق نحو الثورة.
نجحت لكسمبورج في كسب مؤتمر الحزب الاشتراكي الديمقراطي على أطروحتها، ليلتزم الحزب ببرنامج ماركسي ثوري. وترجع هذا النجاح بدرجةٍ كبيرة لدعم كاوتسكي لما طرحته لكسمبورج. ولقد مَنَحَ نجاح كتاب “إصلاح أم ثورة” لكسمبورج دفعةً في الحزب الاشتراكي الديمقراطي حتى أنها كسبت خصومها، ومنهم خصومها من بيروقراطيي النقابات الذين كان قد أساءهم تعبيرها عن “عمل سيزيف” تعليقًا على العمل النقابي، فقد رأوه تحديًا لموقفهم حيث يُسلِّط هذا التعبير الضوء على حدود النقابوية.
أمضت لكسمبورج السنوات القليلة التالية في مناظراتٍ شاقة مع مختلف أقسام الحزب شاحذةً مهاراتها في النقاش. لكن ضمان التزام الحزب بالبرنامج الثوري الصحيح لم يكن مُؤكَّدًا؛ فعمليا كان الحزب يتجه نحو إستراتيجيةٍ إصلاحية.