بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

روزا لكسمبورج: النظرية والممارسة

« السابق التالي »

6- متعة السجال

لمعت روزا لكسمبورج في السجالات الحية، ولم تكن تتراجع قط إذا أحسَّت بأهمية النقاش. في عام 1899 هاجمت هيئة تحرير جريدة الحزب الرئيسية “إلى الأمام” والذي أحسَّت بضعف عزيمتها وإخفاقها في تبني خطًا ثوريًّا واضحًا. وقد كتبت في الصحيفة الأصغر للحزب “أهل ليبزيج”: “هناك نوعان من الكائنات الحية؛ أولئك ممن لديهم عمود فقري وبالتالي يمشون وأحيانًا يجرون، وآخرون لا فقاريون ممن يزحفون أو يعلقون”.

في يوليو 1904، حُكِمَ على لكسمبورج بالسجن ثلاثة أشهر لإهانتها القيصر، ففي خطابٍ لها أثناء الحملة الانتخابية لعام 1903 قالت عنه: “أي شخص يتحدَّث عن الحياة الجيدة والآمنة للعمال الألمان هو شخصٌ لا يعلم أي شيء عن الحقيقة”. وقد أُطلِقَ سراحها مبكرًا كجزءٍ من العفو العام على خلفية وفاة ملك ساكسونيا، الأمر الذي أغضب لكسمبورج بشدة.

حين كانت لكسمبورج في السجن في تسفيكاو، كتبت إلى كارل كاوتسكي تُشجِّعه على مواصلة معاركهم داخل الحزب بعدما نجحا في تمرير بند مناهض في مؤتمر الأممية في أمستردام. كتبت:

“إذن فأنت لديك معارك أخرى لتخوضها، وهذا ما يسعدني جدًا لأنه يُوضِّح أن هؤلاء الناس الصغار يشعرون بقسوة الصدمة التي سبَّبَها لهم نصرنا في أمستردام… وبالتالي يزعجني قولك بأنك تغبطني على وجودي في الزنزانة! ولا شك عندي حول أنك ستُسدِّد لخصومنا ضربةً جيدة على ما يسمونه رؤوسهم، لكنك يجب أن تفعل ذلك باستمتاع وبهجة، وليس كعبءٍ زائد لأن الجمهور يشعر دائمًا بمزاج المقاتلين، وإذا استمتعت بالقتال، فهذا يضفي نغمةً أزهى للجدال ويمنحك أفضليةً معنوية. وأنا أكتب لك كل هذا ليس تحفيزًا لك وإنما لجعلك تشعر بمتعة السجال”.

في نفس الفترة، اشتبكت لكسمبورج في جدالٍ مع الثوري الروسي لينين حول التنظيم والديمقراطية الحزبية. وفي 1902 أصدر لينين كراسه الشهير “ما العمل؟”، وفيه جادل لينين بأن على الاشتراكيين في روسيا أن يزيدوا من عزيمتهم، فبينما كانت الجماهير الروسية تُنظِّم الإضرابات والمظاهرات، كان اليسار يتذيَّل الجماهير ببساطة من خلال الحديث فقط عن المطالب الاقتصادية الفورية. وبدلًا من ذلك يجب على الاشتراكيين أن يكونوا شديدي التنظيم والتسييس، وعليهم دراسة النظرية الاشتراكية ونقل تلك الأفكار إلى داخل الحركة العمالية. الحزب يجب أن يتألَّف أساسًا من الثوريين المحترفين العاملين تحت توجيه القيادة ومسؤولين أمامها. كما يجب أن تصدر جريدة الحزب مركزيًا لتحمل النقاشات المطروحة للتطبيق على الحركة.

تسبَّبَ ما طرحه لينين في انقسامٍ في الحركة الاشتراكية الروسية في 1903 بين البلاشفة، الذين تزعَّمَهم لينين، والمناشفة الذين أرادوا بناءً حزبيًا أوسع وأكثر مرونة. وفي ظل الظروف غير القانونية التي واجهها الاشتراكيون في روسيا، جادل لينين بأن التنظيم الواسع الذي يقترحه المناشفة، فضلًا عن جعله الحزب متاحًا للجماهير، فإنه سيجعل الثوريين أكثر إتاحة وتعرضًا لقبضة الشرطة. وبعد هذا الانقسام، كتب لينين كتيب “خطوة للأمام وخطوتان للخلف” مُؤكِّدًا فيه على ضرورة التنظيم المركزي.

تفاعلت لكسمبورج مع ما طرحه لينين في مقالاتها بالجريدة الروسية “إيسكرا” (وتعني “الشرارة” باللغة العربية) والجريدة النظرية الألمانية “نيو زايت” (العصر الجديد) في عام 1904. وقد اتفَقَت مع لينين في أهمية الحزب المركزي المنضبط في طليعة حركة الطبقة العاملة، لكنها رأت ان المركزية مُفرِطة في طرح لينين. بالنسبة للكسمبورج، كانت طاقة وإبداع الحركة الحية هي ما دفع الحركة نفسها للأمام. أما مركزية لينين الفائقة فهي تُمثِّل خطرًا، إذ تقوم المركزية بدفن هذه الطاقة تحت الانضباط المُقيِّد للحزب. وقد أوضحت ذلك في قولها: “إن الأخطاء التي ترتكبها حركةٌ عماليةٌ ثوريةٌ أصيلة أكبر أثرًا وأجدر بالاهتمام تاريخيًا من عصمة أفضل لجنة مركزية”.

لم يكن ذلك جدالًا مع لينين فقط، فقد كانت لكسمبورج تُوجِّه تعليقاتها لقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي أيضًا، أولئك الذين كانوا يقاومون اأي أفكار أو أفعال تأتي من الحركة.

ضُخِّمَت الخلافات بين لكسمبورج ولينين، فكان كلٌّ منهما يحترم الآخر للغاية واتفقا على أساسيات السياسة الثورية. وقد رجع جزءٌ من خلافهما حول التنظيم إلى الظروف المختلفة في ألمانيا وروسيا، ففي ألمانيا كان مستوى النضال أقل نسبيًا لكن التنظيم كان قويًا، بينما في روسيا كانت هناك موجاتٌ عاتية من الإضرابات لكن ندر وجود أي تنظيم على الإطلاق. وقد كانت لكسمبورج نفسها معتادةً على التنظيم المركزي، فقد كان ذلك الأسلوب التنظيمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي للمملكة البولندية (والذي كانت لكسمبورج مُنَظِّرَته الرئيسية حتى نهاية حياتها). وذلك في ظروف اللاشرعية مثلما كان الحال في روسيا.

إذا كانت لكسمبورج لامعةً في السجال، فلينين كان يعيشه ويتنفَّسه. ففي الفترة بين 1902 و1904 شنَّ لينين جدالاته في الحركة الروسية و”لوى العصي” (أي أنه ضخَّمَ من أهمية بعض النقاط من أجل إقناع رفاقه بالإستراتيجية الجديدة) بقدر ما هو ضروري ليعيد الحركة لمسارها الصحيح. وبعد عامٍ واحد، اندلعت ثورةٌ في روسيا وفتح لينين الحزب لمزيدٍ من العضوية مُغيِّرًا هيكلته. لكن الطبيعة المركزية للمنظمة ظلَّت كما هي، وأثبتت عظيم قيمتها في النضالات اللاحقة.

تمكَّنَت مجموعة الثوريين المخضرمين الذين نشأوا مع لينين خلال العقد التالي من القيادة التكتيكية الحاسمة خلال الثورة الروسية في عام 1917 بشكل لم يستطع الحزب الشيوعي الألماني لروزا لكسمبورج، الذي نشأ فقط في خضم ثورة 1918، الوصول إليه.

رغم ذلك، كان النقاش بين لينين ولكسمبورج ذا قيمةٍ كبيرة. فقد سلَّطَ الضوءَ على حقيقةٍ لا يمكن المبالغة في تقديرها، وهي أن الطبقة العاملة نفسها، وليس الحزب الثوري، هي من تقوم بالثورة. وقد أخطأت لكسمبورج في مبالغتها في تقدير قدرة الحركة بنفسها على إنتاج القيادة اللازمة التي تتقدَّم الثورة. وستعود مسألة العلاقة بين الحزب والطبقة للظهور خلال عامٍ واحد عندما احتل النضال العفوي للجماهير وضعًا مركزيًا على مسرح الأحداث.

« السابق التالي »