روزا لكسمبورج: النظرية والممارسة
ظلَّ المنطق السائد لفترةٍ طويلة في الحركة الاشتراكية أن روسيا المتأخرة اقتصاديًا وسياسيًا ستكون في مؤخرة مركب الثورة، لكن أحداث عام 1905 غيَّرَت ذلك وحوَّلَت كل أوروبا عمليًا.
في يناير 1905، انطلقت مظاهرةٌ سلمية في سان بطرسبورج، عاصمة الإمبراطورية الروسية، بقيادة قسٌّ هو الأب جابون. توجَّه نحو 140 ألف متظاهر نحو قصر الشتاء لتسليم عريضة للقيصر يطالبون فيها بجمعيةٍ تأسيسية مُنتَخَبَة باقتراعٍ عامٍ سريٍّ ونزيه. أما باقي المطالب فكانت بخصوص التعليم العام المجاني وحرية الصحافة والتعبير، علاوة على المطالبة بفرض ضرائب تصاعدية ويوم عمل من ثمان ساعات فقط. في المقابل، أُمِرَت قوات القيصر بإطلاق النار على المظاهرة لتقتل المئات في ما عُرِفَ “الأحد الدامي”.
كانت هذه المذبحة إيذانًا فوريًا بفترةٍ جديدةٍ من النضال في روسيا من إضرابات وانتفاضات للفلاحين، مبشرةً ببدء الثورة الروسية الأولى. وظنَّ أغلب الماركسيين أن هذه هي ثورة روسيا البرجوازية الديمقراطية المتأخرة على غرار ما حدث في فرنسا عندما قامت الجمهورية الفرنسية في 1789. أما لكسمبورج، فقد جادلت بأن الأمر أكبر من ذلك، وفي مقالها “الثورة الروسية” في 28 يناير 1905 كتبت: “إن من الخطأ التام أن نرى في ما يحدث في الثورة الروسية ببساطة على أنه تكرارٌ لما جرى تاريخيًا في فرنسا وألمانيا منذ زمنٍ بعيدٍ من ديمقراطية اجتماعية غرب أوروبية”. ويرجع رأي لكسمبورج تحديدًا إلى الفترة الزمنية المنقضية وللطبيعة الطبقية المُحدَّدة لروسيا مما يجعل من هذه الثورة عمليةً جديدةً مُتفرِّدة.
إن الثورة الفرنسية في عام 1789 قادتها البرجوازية الصغيرة الليبرالية، وهي الشريحة المُثَقَّفة من الطبقة الرأسمالية الجديدة، وقد نجحوا في توحيد الرأسماليين والعمال والفلاحين. أما الثورة الروسية في 1905، فقد كانت شديدة الاختلاف، إذ قاد هذه الثورة الديمقراطية العمال ومُثَقَّفوهم، وهم الاشتراكيون الديمقراطيون (الماركسيون). وقد كتبت لكسمبورج في ذلك: “تملك الثورة الروسية الطابع الطبقي البروليتاري المعلن الأبرز بين كل الثورات حتى الآن”.
انتشرت الثورة بعد أسبوعين من يوم الأحد الدامي في كل مدن الإمبراطورية الروسية من بولندا إلى أوكرانيا إلى دول البلطيق. ونادت لكسمبورج بضرورة الحفاظ على الحالة الثورية على الدوام وقد كانت القيادة هي العامل الحاسم، فمن كان له القدرة على استنهاض هِمَم وتعليم وتشجيع الطبقة لتعميق النضال أكثر؟ وبالنسبة للكسمبورج كانت الإجابة واضحة: “يمكن إنجاز هذه المهمة في روسيا فقط من خلال الاشتراكية الديمقراطية، تلك التي تسمو فوق كلِّ لحظة نضالية مُحدَّدة، إذ لها هدفٌ نهائيٌّ يتجاوز كل اللحظات الاستثنائية، ولهذا السبب لا ترى الاشتراكية الديمقراطية نهايةً للعالم في النجاح الفوري أو الإخفاق الفوري للحظةٍ بعينها، كما أنها تهدف لصالح الطبقة العاملة فلا تنظر للطبقة العاملة كوسيلةٍ تؤدي لتحقيق الحرية السياسية، بل تنظر بدلًا من ذلك للحرية السياسية كوسيلةٍ تؤدي لتحرير الطبقة العاملة”.
بدأت الثورة في التطوُّر بالفعل بالأسلوب الذي تمَّنَته لكسمبورج، فقد اتسمت الإضرابات بالجماهيرية بعد أن شارك بها آلاف العمال متسائلين حول من يدير المجتمع. وكذلك انتشرت الإضرابات السياسية وتحوَّلَت إلى إضراباتٍ اقتصادية حول الأجور وظروف العمل، الأمر الذي صبَّ بدوره في إضراباتٍ سياسية أكبر.
وبذلك لم تعد روسيا في مؤخرة الحركة، وإنما في مقدمة النشاط العمالي. وفي ديسمبر 1905، انتقلت روزا لكسمبورج هاربةً إلى بولندا الثورية لتشهد النضال الثوري بشكلٍ مباشر. وما أن بلغت وارسو حتى بدأت العمل على الفور، إذ كافحت لإصدار الصحف لتتدخَّل في النضال وتُوجِّهه. وقد تحقَّقت بعض الإصلاحات في الخريف بما في ذلك التنازل الذي قدَّمه القيصر بتأسيس برلمان (مجلس الدوما) في اقتراعٍ محدود. وفي ديسمبر، بلغت الثورة ذروتها بانتفاضةٍ عمالية استمرت ثمانية أيام في موسكو، لكن الانتفاضة قد عُزِلَت وغلبتها قوات القيصر فتراجعت الموجة الثورية.
في خلال ثلاثة أشهر بعد وصولها وارسو، أُلقِيَ القبض على لكسمبورج لتُسجَن لمدة أربعة أشهر، وقد نُفِيَت بعد إطلاق سراحها لتذهب إلى فنلندا حيث عزمت على تحليل العام الأكثر إثارةً في حياتها.