روزا لكسمبورج: النظرية والممارسة
ألهمت أحداث روسيا عمال ألمانيا خوض معاركهم، وخلال السنوات من 1900 وحتى 1904، شارك 477,516 عاملًا في إضراباتٍ واعتصاماتٍ في ألمانيا. وفي 1905 وحدها شارك 507,964 عاملًا في الإضرابات بمُعدَّل يفوق أيَّ عامٍ في الفترة من 1848 حتى 1917.
في يناير 1905، دخل عمال مناجم الفحم في منطقة الرور الصناعية إضرابًا بشأن ظروف عملهم المُروِّعة، لكن هذا الإضراب كان مختلفًا؛ إذ انتشر كالنار في الهشيم منتقلًا من العمال المنظمين إلى غيرهم من العمال غير المنظمين مُتجنِّبًا محاولات القيادات العمالية لتقييده داخل حدود معينة. وقد انفض الإضراب بعد شهر، لكنه خلَّف وراءه مطلبًا سياسيًا مهمًا لجعل السلطات المحلية تتدخَّل في تحسين ظروف العمل. وهكذا انتقل الإضراب من مطالب اقتصادية مُوجَّهة إلى أرباب العمل إلى مطالب سياسية مُوجَّهة للممثلين البرلمانيين، بل أكثر من ذلك فقد كانت قيادة هذا الإضراب من العمال أنفسهم وبالرغم من قياداتهم – أي أن المرارة العفوية كانت هي القوة المحركة. وكما قالت لكسمبورج، كان أمام الحزب والنقابات إما “وضع نفسها في مقدمة الطوفان وإما الانجراف جانبًا بفعل الطوفان نفسه”.
كانت الفجوة تتسع بين الجانبين؛ الأول هو بيروقراطية النقابات العمالية الإصلاحية التي أزعجها تكلفة كل تلك الإضرابات وما إذا كان ممكنًا التحكم فيها، والجانب الثاني، والمُؤلَّف من أعضاء تلك النقابات فكان يتطلَّع بشكلٍ متزايد لاتباع سياسات راديكالية. وفي الوقت نفسه، مال الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى فصل النضال إلى ركيزتين، الأولى النقابات (أي الصراع الاقتصادي)، والثانية متمثلة بالحزب (أي الصراع السياسي)، وبالتالي لم يسعَ الحزب لقيادة العمال المضربين. وهذا المنهج الإصلاحي في فصل السياسي عن الاقتصادي يستمر في وجوده إلى يومنا هذا ويتجلَّى على سبيل المثال في قيادات حزب العمال البريطاني المتعاقبة الرافضة لدعم الإضرابات خوفًا من الإضرار بقدراتها الانتخابية.
كتبت لكسمبورج كتيبًا في عام 1906 بعنوان “الإضراب الجماهيري والحزب السياسي والنقابات العمالية” لفتح النقاش داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي حول دروس ثورة روسيا 1905. وصفت فيه تأثير الحركة في روسيا على النحو التالي: “للمرة الأولى توقظ الثورة الروسية الحس والوعي الطبقي في ملايين وملايين وكأنها صدمة كهربية. الجماهير العمالية قد أدركت فجأة وبحدة مدى رداءة وضعهم الاجتماعي والاقتصادي الذي تحمَّلَته تلك الجماهير بصبرٍ لعقودٍ في أغلال الرأسمالية، عند ذلك بدأت عفويًا في زلزلة ومقاومة هذه الأغلال”.
يُقدِّم تحليل لكسمبورج رؤيةً أساسية للثورة في عصر الجماهير، الأمر الذي لم يشهده ماركس قبل ذلك بخمسين عامًا، وإنما أشار إليه في البيان الشيوعي. وقد فهمت لكسمبورج وطرحت صيغةً نظريةً لحركة العامل العصري: “إن الإضراب الجماهيري هو التكوين الأول والطبيعي والعفوي لكل نضالٍ ثوري كبير للبروليتاريا”. وقد تجلَّى ذلك عدة مرات منذ ذلك الحين – في روسيا عام 1917، وألمانيا في فترة 1918-1923، وإيطاليا عام 1920، والمجر عام 1956، وفرنسا عام 1936 ومرة أخرى عام 1968، وإيران بين عامي 1978-1979، وبولندا عام 1980، ومصر عام 2011.
عارضت لكسمبورج منهج “المحورين السياسي والاقتصادي” لقادة حزبها والنقابات العمالية على النحو التالي:
“لكن الحركة في مجملها لا تمضي في اتجاهٍ واحد، من النضال الاقتصادي إلى النضال السياسي، وإنما تمضي في الاتجاه معاكس أيضًا. فإن كل بدايةٍ جديدةٍ وكل نصر جديد للنضال السياسي يتحوَّل إلى قوةِ دفعٍ للنضال الاقتصادي، وبعد كل موجةٍ غاضبةٍ من الفعل السياسي تبقى رواسب خصبة تنمو منها ألف نبتة من النضال الاقتصادي.
باختصار، فإن النضال الاقتصادي هو جهاز الإرسال من مركزٍ سياسي إلى آخر، والنضال السياسي هو السماد الدوري لتربة النضال الاقتصادي. والسبب والنتيجة هنا يستمران في تبادل المواقع. وهكذا فإن العاملين الاقتصادي والسياسي في فترة الإضراب الجماهيري يُشكِّلان ببساطة الجانبين المتداخلين للنضال الطبقي البروليتاري؛ فهما ليسا منفصلين ومتنافيين ومبعدين كما يقدِّمها التخطيط النظري”.
إذا نظرنا للثورة المصرية البادئة في يناير 2011، فإن التظاهرات الجماهيرية التي اندلعت في القاهرة لم تأت من فراغ، بل كانت ذروة عقدٍ كامل من النضالات السياسية والاقتصادية معًا. النضالات السياسية من أجل الحقوق الديمقراطية وضد الإمبريالية تضافرت مع ضغوط الأزمة الاقتصادية العالمية لتخلق حراكًا جماهيريًا. لكن الإطاحة بالديكتاتور حسني مبارك لم تتم إلا بعد أن عزَّزَ الإضراب العام في مصر كلها من قوة متظاهري ميدان التحرير ليُدشِّن تغييرًا جذريًا لمصر.
سعت لكسمبورج لإبراز كيف أن الإضرابات الجماهيرية يمكن أن تصبح ثوريةً، ليس بأمرِ حزبٍ ما وإنما من خلال الغريزة الثورية للطبقة نفسها، ومهمة الحزب هي توجيه بوصلة هذه النضالات.
بات الحزب الاشتراكي الديمقراطي في خطر من الإخفاق في هذا الاختبار. وفي مؤتمر جينا في سبتمبر 1905، صوَّتَ الحزب لدعم الإضرابات الجماهيرية فقط في حالاتٍ مُحدَّدة للغاية، عندما يكون بإمكان الحزب استخدام تلك الإضرابات في الدفاع عن القوى التي اكتسبها من خلال إستراتيجيته الانتخابية.
بعد عامٍ من ذلك، قال إدوارد ديفيد، القيادي المنتمي لتيار “المراجعة” داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي: “انتهى الازدهار القصير للثورية الجديدة. الحزب سيكرِّس نفسه مُجدَّدًا وعلى قلبٍ واحد للاستغلال الإيجابي لقوته البرلمانية وتوسيعها”. بالنسبة للمراجعين، كان الإضراب الجماهيري ومضةً غير مُوجَّهة يتمنون لو أنها اختفت سريعًا لتعود الأمور إلى طبيعتها. أما بالنسبة للكسمبورج، فقد كان تعبيرًا تلقائيًا عن وعي الطبقة العاملة الجماهيرية وسياسة أساسية للاشتراكيين الديمقراطيين.
عُرِفَت الفترة الباقية من حياة لكسمبورج بإيمانها المُطلَق بإمكانية التحرُّر الذاتي للعمال. إن فهمها العميق للمد والجزر في النضال العمالي والمُوضَّح في كتابها “الإضراب الجماهيري” يجعلها إحدى أهم المساهمين في النظرية الماركسية في القرن العشرين.