بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

روزا لكسمبورج: النظرية والممارسة

« السابق التالي »

9- القومية ترفع رأسها

في أواخر القرن التاسع عشر، قامت القوى الأوروبية، المُتمَثِّلة في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وألمانيا والبرتغال، بانتزاع بعض المناطق لحكمها واستغلالها، في ما عرف بالتدافع على أفريقيا. كان هذا الزحف الخبيث يعني إخضاع الملايين من البشر وتزايد التوترات بين الإمبراطوريات الأوروبية.

توحَّدت الدولة الألمانية فقط في 1871، وكان القيصر يمتلك عددًا صغيرًا نسبيًا من الأقاليم في أفريقيا. لكن المنافسة بين القوى الصناعية كانت تعني أن الطبقة الحاكمة كانت مُتحمِّسةً لزرع الحس القومي. فقد برزت عشرات من المنظمات القومية مثل رابطة البحرية ورابطة عموم الألمان، وقد احتوى بعضها على عضويات جماهيرية، ويمكن القول أن تلك المنظمات مجتمعةً اشتملت على 1.5 مليون عضوًا.

كان المستشار بيرنارد فون بولوف رئيسًا للحكومة من عام 1900 حتى 1909 إمبرياليًا، مُعلِنًا وراغبًا في تدعيم وتوسيع الإمبراطورية الألمانية، لكن ذلك الأمر كان مُهدِّدًا بتمرُّدٍ شعبي في جنوب غرب أفريقيا الألمانية في عام 1904، وقد تبعت تلك الفترة سنواتٌ عدة من الاضطراب. وفي الرايخستاج (البرلمان الألماني)، انضم حزب الوسط التقليدي لأحزاب المعارضة، بما فيها الحزب الاشتراكي الديمقراطي، في رفضهم لطلب المستشار بولو لتعويض المستوطنين البيض، وأيضًا رفض طلبه 29 مليون مارك لقمع التمرُّد عسكريًا.

رد بولوف على رفض طلباته بحل البرلمان و”إحالة الأمر إلى الشعب” في عام 1907 مُعلِنًا: “أن موقعنا السياسي القومي على حافة الخطر بل وموقعنا العالمي أيضًا”. وقد وظَّفَ بولوف طاقات أعضاء الروابط القومية، الذين كانوا بالفعل يُنظِّمون مسيراتٍ جماهيرية ويُصدِرون الكتيبات والمنشورات من أجل تحفيز المشاعر القومية. وقد اتهم بولوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي واصفًا إياه بـ”عدو ألمانيا”، وذمَّ أي أحزاب أخرى تعاملت معه. ويبدو أن إستراتيجية بولوف نجحت، فقد زادت قوته الانتخابية فيما ضعفت قوة الحزب الاشتراكي الديمقراطي وانخفضت حصته من المقاعد من 81 مقعدًا إلى 43، رغم الزيادة في عدد الأصوات التي جناها. تُنسَب الخسائر إلى حدٍّ كبير إلى الدورات الثانية على مقاعد دون أغلبية حاسمة، وقد تكاتفت الأحزاب الأخرى لإبقاء الاشتراكيين بعيدًا، إذ خضعت تلك الأحزاب للدعاية المعادية للاشتراكية.

أدت هذه النتيجة إلى انقسام داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي. واستنتج تيار الإصلاحيين أنهم خسروا لأنهم كانوا شديدي الراديكالية. أما كاوتسكي، مُتحدِّثًا عن الجناح اليساري للحزب، فقد جادل بأن النتيجة تمثل ببساطة إشارة إلى احتدام الصراع الطبقي، إذ لم يعد ممكنًا الاعتماد على الطبقات الوسطى في التصويت للحزب ويجب أن يجري التركيز على البناء وسط الطبقة العاملة.

هذا الانقسام كان قد طلَّ بوجهه لأول مرة خلال مؤتمر الحزب في مانهايم قبل ذلك ببضعة أشهر في عام 1906. وقد اقترح القيادي الراديكالي بالحزب كارل ليبكنخت تحرُّكًا معاديًا للعسكرة، لكن الاقتراح أُُجهِضَ فورًا من جانب القيادي الحزبي أوجست بيبل. وقدم وفدٌ آخر مقترحًا يجادل بأن الحكومة الألمانية إذا أرسلت قواتها للمساعدة في دحر الثورة الروسية، فلابد أن يدعو الحزب والنقابات العمالية إلى إضرابٍ جماهيري لمنع ذلك. وقد جادل بيبل بأن حكومة ألمانيا إذا حاربت ضد روسيا فسوف تنتعش الحمى القومية لتصيب الجماهير الألمانية، وعندها لن يتمكَّن الحزب من فعلِ شيءٍ للتأثير على الجماهير.

صَدَمَ هذا التصريح لبيبل الراديكاليين ومنهم لكسمبورج، فأين كانت إذن الأممية الثورية المُمَيِّزة للماركسية منذ البداية؟ فهذا بيبل يجادل بأن عليهم أن يتخلوا عن إخوتهم وأخواتهم الثوريين في روسيا ليتركوهم يلقون مصيرهم، وكان يعفي الحزب من أيِّ التزامٍ بالنضال من أجل قيادة الطبقة العاملة في ألمانيا.

ذهب منطق بيبل في الجدال إلى ما هو أبعد خلال المناقشات البرلمانية قبيل انتخابات 1907. وبدلًا من شجب وإنكار الاستعمار كسياسيةٍ مُتوحِّشةٍ، وبدلًا من الحديث ضد العسكرة في الوطن وفي الخارج، جادل بأن الكولونيالية الفاشلة قد حرمت الجيش الألماني من مواردٍ قيِّمةٍ مما أضعف من قدرات الجيش على القتال بنفس الفخر الذي تميَّزَ به في الماضي. وقد أيَّد نائبٌ آخر للحزب، وهو جوستاف نوسكه، رأي بيبل مُؤكدًا أن ألمانيا لو هوجِمَت سيدافع عنها الحزب “بنفس إصرار أيٍّ من السادة في الجانب الأيمن من المجلس”.

استمرت النقاشات لاحقًا في ذلك العام خلال مؤتمر الأممية في شتوتجارت. وجادل بيبل والوفد الألماني بإبقاء معاداة العسكرية خارج جدول الأعمال كقضيةٍ خاسرة، وحضرت لكسمبورج مُمَثِّلةً عن الحزب البولندي وتحدَّثَت بقوةٍ بالنيابة عن الوفدين البولندي والروسي مدافعةً عن الأممية الثورية. وقد نجحت في إدخال تعديل ينص على: “في حالة خطر اندلاع الحرب، فإن من واجب الطبقات العاملة ومُمَثِّليها البرلمانيين في الدول المتحاربة أن يقوموا بكل ما يمكن لمنع هذه الحرب بأي وسيلة يرونها فعَّالة. وإذا ما قامت الحرب بالفعل، فمن الواجب أن تلتمس الطبقة العاملة ومُمَثِّلوها نهايةً سريعةً لها وأن يسعوا بكل قوتهم لاستغلال الأزمة الاقتصادية والسياسية العنيفة الناتجة عن الحرب لاستنهاض الجماهير ومن ثَم التعجيل بإنهاء حكم الطبقة الرأسمالية”.

عبَّرَت المناقشات عما هو آت، فلكسمبورج وليبكنخت والقليل مِمَّن تجرَّأوا على الحديث ضد قومية بيبل كانوا ليرجعوا لتطبيق ما نص عليه القرار بالضبط من تحويل الحرب إلى ثورة. أما نوسكه فكان ليرجع ليضطلع بدورٍ حقيرٍ في سحق الثورة.

« السابق التالي »